مدى مصر

شرح المتاهة القانونية وراء عدم الإفراج عن أحمد دومة مصطفى محيي ١٧ أكتوبر ٢٠١٧ عقب قبول محكمة النقض الطعن المقدم من الناشط السياسي أحمد دومة على حكم السجن المؤبد الصادر ضده في قضية «فض اعتصام مجلس الوزراء»، قال محاميه خالد علي، إنه سيبدأ على الفور في إجراءات إخلاء سبيله. استند «علي» في تصريحاته إلى حقيقة أن قرار محكمة النقض كان قبول الطعن وإعادة محاكمة «دومة»، دون اشتراط استمرار حبسه، ما يجعله مستحقًا للإفراج بشكل فوري، خاصة أنه غير محبوس على ذمة قضايا أخرى، غير أن النيابة كان لها رأي آخر. كانت أربعة أحكام صدرت ضد «دومة» في قضايا مختلفة. صدر الحكم الأول في ٢٢ ديسمبر ٢٠١٣ ضده والناشطين السياسيين أحمد ماهر ومحمد عادل بحبسهم ثلاث سنوات وقضاء مثلهم تحت المراقبة الشرطية والغرامة ٥٠ ألف جنيه لكل منهم، وذلك في قضية تظاهر، نظرتها محكمة جنح عابدين. وأيدت «النقض» الحكم في ٢٧ يناير ٢٠١٥. وصدر حكم ثاني في ٤ فبراير ٢٠١٥ من القاضي ناجي شحاتة ضد «دومة» بالسجن المؤبد في قضية أحداث مجلس الوزراء، وقررت محكمة النقض إلغاؤه وإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى من محكمة الجنايات، يوم الخميس الماضي. وأصدر «شحاتة» حكمًا آخر على «دومة» بالحبس ثلاث سنوات وتغريمه ١٠ آلاف جنيه، في ٩ ديسمبر ٢٠١٤، بتهمة إهانة المحكمة، وهو الحكم الذي قبل «النقض» عليه في ٢٥ مايو ٢٠١٧. كما قضت جنح المعادي في مارس ٢٠١٦ بحبس «دومة» و«عادل» و«ماهر» ٦ أشهر بتهمة الاعتداء على ضابط شرطة أثناء ترحيلهم، وهو الحكم الذي خففته محكمة الاستئناف إلى شهر واحد. يرى أحمد راغب، أحد أعضاء فريق الدفاع عن «دومة»، أن موكله نفّذ بالفعل حكمين من الأربعة، وأن محكمة النقض ألغت حكمين آخرين، وبالتالي يصبح غير محبوس على ذمة أي قضايا ويستحق الإفراج الفوري. وأضاف «راغب» أن المحامين توجهوا إلى نيابة وسط القاهرة يوم ١٤ أكتوبر واستلموا شهادة تفيد أن «دومة» نفّذ بالفعل مدة العقوبة كاملة في جنحة التظاهر (ومدتها ثلاث سنوات)، وأنه مُفرج عنه من هذه القضية منذ ٢ ديسمبر ٢٠١٦. وفي اليوم التالي، توجه فريق الدفاع عن «دومة» إلى المحامي العام لنيابات جنوب القاهرة، المسؤول عن تنفيذ إجراءات الإفراج عن دومة، وقاموا بتسليمه الشهادة بالإضافة إلى باقي الأوراق التي تفيد تنفيذه عقوبة الحبس شهر بتهمة الاعتداء على ضابط شرطة، إلا أنهم فوجئوا أن المحامي العام يخبرهم أن «دومة» لم يُكمل بعد مدة العقوبة في جنحة التظاهر وبالتالي لن يُفرج عنه قبل إتمام الفترة المتبقية. السبب الذي تعللت به النيابة لعدم الإفراج عن «دومة»، وفق «راغب»، أن الناشط السياسي كان ينفذ حكم الحبس ثلاث سنوات في قضية التظاهر فقط في الفترة بين ٣ ديسمبر ٢٠١٣ حتى ٤ فبراير ٢٠١٥ (١٤ شهرًا فقط)، وهو تاريخ صدور حكم ضده من محكمة جنايات القاهرة بالسجن المؤبد في قضية «فض اعتصام مجلس الوزراء». وأن «دومة» منذ ٤ فبراير ٢٠١٥ وحتى الخميس الماضي، كان متوقف عن تنفيذ عقوبة جنحة التظاهر وبدأ تنفيذ عقوبة السجن المؤبد لأنها العقوبة الأشد، ما يجعلها واجبة التنفيذ أولًا. وبالتالي يُصبح واجبًا أن يكمل «دومة» الآن فترة ١٨ شهرًا المتبقية من حكم جنحة التظاهر قبل الإفراج عنه. يقول «راغب» إنه رغم عرض الشهادة الصادرة من نيابة وسط القاهرة على المحامي العام لنيابات جنوب القاهرة، والتي تفيد أن «دومة» قضى فترة العقوبة في جنحة التظاهر كاملة، إلا أن نيابة جنوب القاهرة أصرّت أن الشهادة على خطأ. يُعلق «راغب» «هناك لبس قانوني لدى النيابة بسبب تشابك القضايا». ويوضح أنه لو كان تفسير النيابة لموقف «دومة» القانوني صحيح، لكان عليها أن ترسل إلى إدارة سجن طرة عقب صدور حكم المؤبد ما يفيد بضرورة وقف تنفيذ عقوبة جنحة التظاهر والبدء في تنفيذ عقوبة السجن المؤبد، بما يستلزمه ذلك من تغيير طبيعة السجن مثلًا. غير أن ذلك لم يحدث. ويضيف أن هناك سيناريوهين قانونيين للتعامل مع الفترة التي قضاها «دومة» محبوسًا. الأول أن تُقر النيابة أن «دومة» قضى بالفعل عقوبة جنحة التظاهر كاملة، كما جاء بالشهادة الصادرة من نيابة وسط القاهرة، وبالتالي تفرج عنه فورًا. والسيناريو الثاني أن تتبع النيابة المادة ٣٥ من قانون العقوبات التي تنص على أنه «تَجُب عقوبة السجن المؤبد أو المشدد بمقدار مدتها كل عقوبة مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالسجن المؤبد أو المشدد المذكورة». ويوضح «راغب» «وفق هذه المادة، يتم احتساب الفترة التي تدعي النيابة أن دومة قضاها مسجونًا بموجب عقوبة السجن المؤبد (من فبراير ٢٠١٥ حتى أكتوبر ٢٠١٧) ضمن مدة عقوبة الحبس ثلاث سنوات (جنحة التظاهر)، ويصبح واجبًا الإفراج عن دومة أيضًا». يشرح «راغب» المادة ٣٥ من قانون العقوبات المشار إليها قائلًا «لو كان هناك متهم محكوم عليه بثلاث سنوات حبس، ثم حكم عليه بالمؤبد، فإنه يقضي، وفق هذه المادة، الثلاث سنوات الأولى عن عقوبة الحبس، ثم يكمل ٢٢ سنة باقي الحكم المؤبد. بمعنى أنه يقضي العقوبة الأخف كجزء من العقوبة المشددة، وليس بشكل زائد عليها». ويؤكد «راغب» أن فريق الدفاع يتشاور حاليًا في الخطوة القانونية المُقبلة، وأنهم قد يتقدمون بمذكرة قانونية جديدة للمحامي العام لنيابات جنوب القاهرة لشرح موقف «دومة» القانوني باستفاضة أكبر.
صحوة الموت.. الفصل الأخير في رواية يوليو ١٩٥٢ عبد العظيم حماد ١٧ أكتوبر ٢٠١٧ ينشر «مدى مصر»، بالاتفاق مع الكاتب، مقدمة كتاب «صحوة الموت.. الفصل الأخير في رواية يوليو ١٩٥٢»، لعبد العظيم حماد، والصادر مؤخرًا عن «دار الشروق»، ويضم مقالات سبق نشرها على موقع «مدى مصر»، على مدار عام ونصف. من المُسلَّمات في علم السياسة أن نظام الحكم في مجتمع ما يماثل الهيكل العظمي بالنسبة للجسد الحي. وبما أن الجسد الحي الطبيعي ينمو باطراد، فإن هيكله العظمي يجب أن يزداد طولًا وعرضًا، ليتسع لهذا النمو، وإلا فإن الجسد يترهل، وتتباطأ مشيته، ثم يفقد تمامًا القدرة على الحركة، وهو ما يتطلب التدخل الطبي لتقوية العظام، وضبط نمو الجسم مع نموها. لهذا تتغير الدساتير، أو تُعدّل من حقبة إلى أخرى في بلدان العالم التي تسير في طريق التطور، لاستيعاب القوى والمتغيرات والمصالح المستجدة، وهذا ما يسمى بـ«الإصلاح»، غير أن الأهم من تغيير أو تعديل الدساتير هو اقتناع الفاعلين السياسيين في المجتمع المدني بضرورة هذه التعديلات أو تلك التغييرات، وجدواها، بما يكفي لتوافر إرادة الالتزام بها، بوصفها البديل لانفجار العنف، أو الثورة، وإلا الصراع غير المنضبط، أو الثورة، وإلا تحول النظام والمجتمع معًا إلى دولة فاشلة، أو على طريق الفشل. ومن مسلمات علم السياسة أيضًا أن لكل مجتمع سياسي في حقبة معينة من التاريخ مشكلة كبرى تتفرع منها المشكلات الأخرى، ففي العصر الإغريقي مثلًا كانت المشكلة الأكبر هي مشكلة الوحدة المبتغاة بين الكيانات المتناثرة المسماة بـ«دول مدنية»، حتى جاء المقدونيون، ولم يكونوا إغريقيين أصلًا، وفرضوا الوحدة بالاستعمار. وفي أوروبا الغربية كانت المشكلة الكبرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي مشكلة الصراع الطبقي، التي أفرزتها الثورة الصناعية، وتمكن النظام الرأسمالي. وفي أواخر ذلك القرن، وحتى قرب منتصف القرن العشرين، كانت المشكلة الأولى في أوروبا هي مجابهة النزعة العسكرية الألمانية، أما بعد الحرب العالمية الثانية فأصبحت مشكلة أوروبا هي حماية الديمقراطية من الانقلابات الشيوعية في الداخل، ومن التفوق العسكري السوفييتي «الشيوعي» في الخارج. أما مصر – التي لم تكن ولن تكون استثناء من قوانين التاريخ – فقد تباينت مشكلاتها السياسية الكبرى من حقبة إلى أخرى منذ تأسست دولتها الحديثة على يد محمد علي باشا، في أعقاب جلاء الحملة الفرنسية. في عصر محمد علي كانت المشكلة الكبرى هي بناء الدولة المركزية القوية القادرة على حماية نفسها من الأطماع الأوروبية، ومن الخضوع المباشر مرة أخرى للدولة العثمانية، وقد تطلب ذلك جملة من السياسات أهمه تصفية المماليك، وإخضاع البدو، والتنمية الاقتصادية، وإدخال التعليم الحديث. ومنذ أواخر عهد الخديوي إسماعيل أصبحت المشكلة الكبرى هي وقف التدخل «الأوروباوي» في شؤون مصر، جنبًا إلى جنب مع مطلب الحكم الدستوري النيابي. وبعد الاحتلال البريطاني كان من الطبيعي أن تكون المشكلة السياسية الكبرى في مصر هي الجلاء أو الاستقلال، وذلك جنبًا إلى جنب مع المطلب الدستوري النيابي، الذي يُطلق عليه الآن «الاستحقاق الديمقراطي» غير أن سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية أضافت مطلب العدالة الاجتماعية، لتصبح مشكلة مصر الكبرى مثلثة الأضلاع. أدى فشل النظام الدستوري الليبرالي في مواجهة هذا الثالوث إلى استيلاء ضباط الجيش على السلطة في يوليو عام ١٩٥٢، وتحققت في البداية إنجازات كبرى على طريق التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، ولكن «الديمقراطية» أصيبت في مقتل لم تستفق منه حتى يوم المصريين هذا. وبالطبع فكلنا نعلم – والعهد لا يزال قريبًا – أن نظام ضباط يوليو أنهى شرعيته بيده بهزيمته أمام إسرائيل في يونيو ١٩٦٧، فهكذا اعترف مؤسس النظام جمال عبد الناصر، حين تعهد بإعادة الأمر للشعب مرة أخرى بعد إزالة آثار العدوان، وذلك في خطاب عدوله عن التنحي، وقبول الاستمرار في منصبه استجابة للمظاهرات الشعبية. ومن المؤكد أن الانتصار في حرب أكتوبر ١٩٧٣ أعاد قسطًا كبيرًا من الشرعية المفقودة إلى نظام يوليو ١٩٥٢ تحت رئاسة أنور السادات، ولكن سرعان ما ثبت أن بنية النظام نفسها لم تعد صالحة للاستمرار، وهكذا أنهى السادات عصر التنظيم السياسي الواحد، وبدأ عهدًا تعدديًا تجريبيًا. وبغض النظر عن مدى إخلاص السادات لمبدأ التعددية من عدمه، فإن ذلك كان اعترافًا بأن العمر الافتراضي لنظام الضباط، قد انتهى، علمًا بأن التجربة سرعان ما أثبتت أن السادات كان يريد التعددية مظهرًا لا جوهرًا، كما سيرى القارئ في فصول الكتاب، وهذا أيضًا ما حرص عليه حسني مبارك خليفة أنور السادات، وهذا ما يبدو أيضًا أنه الإطار المرجعي للعهد الرابع من نظام يوليو ١٩٥٢. *** بسبب هذا الجمود، اندلعت ثورة يناير ٢٠١١، لتثبت أن الهيكل العظمي الذي يشكله هذا النظام للجسد السياسي المصري، بات أضعف كثيرًا من أن يطلق لهذا الجسد حرية الحركة، والنمو، بل إن هذا الجسد تمرد مرة أخرى – وبسرعة فائقة – على القفص الحديدي الجديد الذي حاولت جماعة الإخوان المسلمين حشره فيه، مع بقاء هيكله العظمي ضعيفًا وعاجزًا في كل مكوناته، لكن هنا وقع الالتباس الكبير، فقد أدى اندلاع الصراع بين غالبية المجتمع بقادة الدولة العميقة وبين جماعة الإخوان المسلمين وحواشيها، إلى أن يتصدر هذا الصراع المشهد السياسي كله، ومن ثّمَّ توارت (مؤقتًا) المشكلة الأصلية، التي هي بناء نظام سياسي ديمقراطي تنافسي يحكمه القانون، ولا يقوم على تراتبية فئوية تمليها معايير القوة السياسية غير المستمدة من دستور ولا قانون، نظام تسوده قيم المواطنة، وعدم التمييز لأي سبب كان، ويخضع للمساءلة. ولأن الكاتب ممن يعتبرون أن جماعة الإخوان، وسائر فصائل الإسلام السياسي، هي قوة من الماضي، وأنه مهما يطل الزمن فهي إلى تحول ونضج أو إلى زوال، فإن قضية بناء نظام جديد بديل لنظام يوليو هي الأوْلى دائمًا بالاهتمام، أو على الأقل يجب ألا يدفعها الصراع مع الإسلام السياسي إلى مرتبة متأخرة، وما هذا الكتاب إلا مساهمة متواضعة في هذا السياق. الكتاب في الأصل سلسلة مقالات مستطردة نُشرت في موقع «مدى مصر» على امتداد عام ونصف العام، حتى شهر نوفمبر عام ٢٠١٦، وترد هنا عبر أبواب ثلاثة، هي على التوالي «الأساطير المؤسسة»، و«الجيش والمجتمع»، و«البحث عن خلاص». يتعين في ختام هذه المقدمة أن أتقدم بالشكر للقائمين على موقع «مدى مصر»، أولئك الشباب الواعدين الملتزمين بصحافة مهنية ومستقلة وتقدمية، وإلى القراء والأصدقاء الذين استقبلوا هذه المقالات «متفرقة»، على نحو أشعرني بالتشجيع دومًا، كما يتعين عليّ أن أشكر «دار الشروق»، التي أسعدني ترحيبها بنشر هذا الكتاب.
القاهرة أخطر مدن العالم على النساء.. وحكايات « أنا كمان» تعيد فتح ملف التحرش الجنسي مدى مصر ١٧ أكتوبر ٢٠١٧ متفوقة على ١٨ مدينة كبرى في العالم، احتلت العاصمة المصرية، القاهرة، المركز اﻷول كأكثر المدن خطرًا على النساء، وذلك في إحصائية تزامن نشر نتائجها مع مشاركات من سيدات مصريات في حملة دولية عن التحرش الجنسي. الإحصائية، التي أجرتها مؤسسة تومسون رويترز، ووصفتها بأنها اﻷولى من نوعها، رصدت أحوال النساء في ١٩ مدينة كبرى بحسب تعداد اﻷمم المتحدة (يزيد عدد سكانها على ١٠ مليون شخص)، واعتمدت على مقابلات مع عشرين خبيرًا من مجالات مختلفة؛ أكاديميين وأعضاء في منظمات مجتمع مدني ومنظمات خدمات صحية وصانعي سياسات. واشتملت الإحصائية على أربعة مؤشرات رئيسية هي العنف الجنسي، والقدرة على الوصول للخدمات الصحية، والممارسات الثقافية، والفرص الاقتصادية. وبمقارنتها بالمدن العشرة اﻷعلى في الترتيب كراتشي في باكستان، وعاصمة الكونجو الديمقراطية كينشاسا، ودلهي في الهند، والعاصمة البيروفية ليما، والميكسيكة ميكسيكو سيتي، والبنجلاديشية دكّا، والنيجيرية لاجوس، والإندونيسية جاكرتا، والتركية اسطنبول، احتلت القاهرة المركز اﻷول في الترتيب العام للمؤشرات اﻷربعة مجتمعة، فيما اختلف ترتيبها في كل منهم على حدة. في المؤشر الذي يرصد مدى قدرة النساء على العيش بدون مواجهة خطر العنف الجنسي، الذي يشمل التحرش الجنسي والاعتداءات الجنسية والاغتصاب، احتلت القاهرة المركز الثالث خلف دلهي وساوباولو. في الوقت نفسه كان التحرش الجنسي محور الحملة العالمية التي انتشرت مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر هاشتاج metoo، والتي بدأت بعد فضح ممثلات عالميات لحوادث تحرش واعتداء جنسي تعرضن لها في بداية حياتهن المهنية على يد المنتج السينمائي اﻷمريكي هارفي واينستاين، والذي استغل نفوذه لإكراههن على تلك الممارسات. وتسببت سلسلة الاعترافات التي شاركت فيها النجمات العالميات في استبعاد المنتج من شركة الإنتاج التي شارك في تأسيسها. وبعد ذلك تقدم بعض الممثلين والممثلات بالاعتذار عن عدم فضحهم لتجاوزات واينستاين ضد النساء من قبل، مسلطين الضوء على أهمية فضح المتحرشين. وأطلقت الممثلة أليسا ميلانو دعوة، أعاد مستخدمون حول العالم نشر نصها، تقول «إذا كتبت كل النساء اللاتي تعرضن للتحرش أوالاعتداء الجنسي «أنا أيضًا»، ربما يعرف الناس حجم المشكلة». الهاشتاج الذي تحول إلى « أنا كمان» بعد تعريبه، سجل حضورًا لافتًا على صفحات التواصل بعد أن حرص عدد كبير من النساء المصريات على المشاركة فيه، سواء من اكتفين بكتابة الهاشتاج فقط، أو من قررن ذكر حكايات سريعة عن مواقف تعرضن فيها للتحرش، أو من ناقشن الضغط المجتمعي الذي فرض عليهن السكوت أمام تلك الحالات. بالعودة لإحصائية رويترز، نجد أن القاهرة احتلت المركز اﻷول كأسوأ مدن العالم الكبري في مؤشر الممارسات الثقافية؛ الذي يقيس مدى حماية المرأة من ممارسات مؤذية مثل الختان والزواج المبكر ووأد الفتيات. فيما احتلت العاصمة المصرية المركز الثالث عالميًا، بعد ليما وكينشاسا، في مؤشر خصول المرأة على الرعاية الصحية، وتشمل سهولة الحصول على وسائل منع الحمل والصحة الإنجابية ومؤشرات الوفاة أثناء الولادة. وفي مؤشر الفرص الاقتصادية كانت القاهرة ثاني أسوأ مدينة بعد كينشاسا من حيث حصول النساء على الحقوق الاقتصادية مثل التعليم والقدرة على امتلاك أراضي واﻷشكال اﻷخرى من الملكية، والوصول للخدمات المالية مثل الحسابات البنكية. وقالت المؤسسة في تقرير لها خاص بنتائج القاهرة إن خبراء مهتمون بقضايا النساء أفادوا بأن النساء في العاصمة المصرية يتعرضن للتحرش الجنسي بشكل يومي بالإضافة إلى ما يعانينه جراء الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، الأمر الذي أضعف الفرص الاقتصادية التي يمكن للنساء الحصول عليها بالإضافة إلى تدهور الخدمات الصحية.
أبرز تصريحات الوفد المصري المشارك في اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين مدى مصر ١٦ أكتوبر ٢٠١٧ على هامش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي أعلنت الحكومة المصرية عن تمكنها من التوصل لاتفاقات تأجيل سداد ديون بقيمة ٨.٧ مليار دولار مستحقة عام ٢٠١٨، بحسب تصريحات وزير المالية، عمرو الجارحي، ومحافظ البنك المركزي، طارق عامر، الذين كانا مع وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، سحر نصر، أبرز الوجوه في الوفد المصري الذي حضر الاجتماعات التي استمرت في العاصمة الأمريكية واشنطن على مدار أسبوع كامل، وانتهت أمس اﻷحد. ونقدم هنا عرضًا ﻷهم التصريحات التي أدلى بها الوفد المصري خلال تلك الاجتماعات. في حوار صحفي مع جريدة الشروق، قال محافظ البنك المركزي، طارق عامر، إن السعودية واﻹمارات وافقتا على تأجيل تحصيل ودائعهما المقدرة بأربعة مليارات دولار، مضيفًا أن الصين أيضًا قبلت تجديد اتفاق مبادلة عملة بما يعادل ٢.٧ مليار دولار. وأضاف عامر أن إجمالي الديون المستحقة على مصر قبل إعادة الجدولة خلال ٢٠١٨ تقدر بـ ١٢.٩ مليار دولار. وبحسب الشروق فإن الرقم يتضمن بالإضافة للديون التي تم تأجيلها ٢ مليار دولار وديعة من الكويت، ووديعة بقيمة ٢ مليار دولار حصلت عليها مصر من ليبيا عام ٢٠١٣. فيما صرح وزير المالية، عمرو الجارحي، لوكالة بلومبرج اﻷمريكية أن مصر تسعى إلى تجديد اتفاقية إعادة الشراء مع عدد من البنوك، والتي كانت مصر قد اقترضت بمقتضاها ٢ مليار دولار. من جهته، قال نعمان خالد، محلل الاقتصاد ببنك الاستثمار «سي أي كابيتال»، لـ «مدى مصر»، إن إعادة جدولة تلك الديون «هي مسألة إدارة أموال لتخفيف الضغوط عن عام ٢٠١٨». واعتبر خالد أن ٢٠١٨ عام مهم جدًا «ﻷنه عام الانتخابات، ودعم قيمة الجنيه أمر جوهري، وهو اﻷمر الذي يتطلب الإبقاء على كل دولار يدخل مصر». ووصل احتياطي النقد اﻷجنبي في مصر إلى ٣٦.٥٣ مليار دولار بنهاية شهر سبتمبر الماضي، وهي أعلى معدلاته منذ ٢٠١٠. لكن خالد حذر من أن المشكلة هي أن ذلك اﻷمر «يجعلنا أكثر عرضة لشروط الدائنين»، معتبرًا أن استمرار عدم استثمار الديون في زيادة الإنتاج يرفع من احتمالات عدم القدرة على السداد في المستقبل. وكان الجارحي قد قال إن إعادة الجدولة تأتي في إطار التوسع في مصادر التمويل، مشيرًا إلى طرح سندات دولارية في بداية عام ٢٠١٨. وتعتزم مصر طرح سندات دولارية في الربع اﻷول من عام ٢٠١٨، والتي تم إعداد كراسة شروطها بالفعل، ومن المنتظر طرحها في بداية نوفمبر المقبل. وتوقع الجارحي خلال حديثه لبرنامج هنا العاصمة، مساء أمس اﻷحد، أن تكون القيمة المطروحة في حدود ٣ إلى ٤ مليارات دولار. مضيفًا أنه «لن تكون هناك جولة ترويجية ﻷننا طوال الوقت نقابل مستثمرين، قابلنا هنا مستثمرين بأعداد كبيرة جدا وحضرنا اجتماعات كثيرة مع كل البنوك العالمية». وبحسب بيانات وزارة المالية، فقد التقى الوفد المصري بـ جي بي مورجان ومستثمري بنك بي إن بي باريبا الفرنسي، حيث أكد ممثل عن اﻷخير أن «٣٥٪‏ من الصناديق المشاركة في الجلسة لم يسبق لهم الاستثمار في السندات الدولارية المصرية مما يعكس تنوع قاعدة المستثمرين المهتمين بمصر». وكانت مصر قد طرحت سندات دولارية بقيمة ٧ مليار دولار منذ التعويم العام الماضي، كما شهدت تدفقات في أذون الخزانة المصرية بقيمة ١٨ مليار دولار. في السياق نفسه، صرح يوسف بطرس غالي، وزير المالية اﻷسبق، والمشرف على برنامج الإصلاح الاقتصادي الخاص بنيجيريا، أن مستويات الفائدة في مصر حاليًا مرتفعة جدًا، وغير محفزة للاستثمار، وتحتاج إلى خفض يشجع الطلب من قبل المستثمرين، «وبدون الخفض لن يكون هناك طلب للاقتراض». كان عامر قد انتقد في حواره مع «الشروق» الطرح القائل بأن سعر الفائدة المرتفع هو ما أدى إلى تدفق مليارات الدولار إلى السوق المصرية. وأكد أنه لا مخاوف من تأثير تراجع سعر الفائدة على تلك التدفقات. في حين قال الجارحي إن تراجع معدلات التضخم اﻷخير «يساعد سعر الفائدة على النزول». ونقلت جريدة المال عن سوبير لال، رئيس بعثة مصر بصندوق النقد الدولى، فى المؤتمر الصحفى الذى عقده، اليوم، على هامش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي، أنه يرى أن التضخم في مصر فى طريقه إلى الرقم الأحادي. ورفع البنك المركزي المصري معدلات الفائدة منذ التعويم في شهر نوفمبر من العام الماضي بـ ٧٠٠ نقطة أساس، لكبح التضخم الذي وصل ﻷعلى معدلاته التاريخية بسبب الإجراءات الاقتصادية ذات اﻷثر التضخمي، والتي تضمنت رفع أسعار الوقود. ويستهدف البرنامج الاقتصادي الذي اتفقت مصر عليه مع صندوق النقد الدولي تحقيق نسبة استرداد لتكاليف الوقود تقارب الـ ١٠٠% بحلول يوليو ٢٠١٩. وبحسب جريدة الشروق، قال جيم يونج كيم، رئيس مجموعة البنك الدولى إن «خطوات خفض الدعم التي اتخذتها الحكومة المصرية ضمن برنامجها للإصلاح وفرت ١٣ مليار دولار». كما نقلت جريدة المال عن جهاد عازور، مدير إدارة الشرق الأوسط ووسط آسيا في الصندوق، «إن توقيت المرحلة المقبلة لخفض الدعم يعود إلى الحكومة المصرية، ويتم التناقش بشأنه». ومن المرتقب أن تزور بعثة من صندوق النقد الدولي مصر من ٢٥ أكتوبر الجاري وحتى ٧ نوفمبر المقبل؛ للقيام بالمراجعة الثانية لتطور البرنامج الاقتصادي.
جولة في هافانا هل تحب جيفارا؟ شادي لويس ١٦ أكتوبر ٢٠١٧ في الطائرة إلى هافانا، اكتشفت الخطأ الفادح الذي ارتكبته. احتاج الأمر لأن أعيد النظر في التذكرة عدة مرات، حتى أتيقن من كوني حجزت بالفعل رحلة العودة قبل يوم واحد فقط من الذكرى الخمسين لمقتل جيفارا. نجحت في التهوين عن نفسي، بعد خبطة باليد على مقدمة رأسي، كانت قوية بما يكفي لإزعاج الراكب بجانبي، فربما تكون هذه فرصتي لرؤية هافانا متحررًا من رومانتيكية التصورات عنها، ودون جيفارا. كانت الرغبة الأولى ممكنة، لكن الثانية كانت ميئوسًا منها كما اتضح لاحقًا. الوصول إلى مطار خوسيه مارتي كان حدثًا في حد ذاته بالنسبة لي، فهذا هو المطار نفسه التي قصفته طائرات البي ٢٦ في عام ١٩٦١، أثناء عملية غزو خليج الخنازير، التي دبرتها المخابرات الأمريكية السي آي إيه، وفشلت كما غيرها من مئات محاولات الانقلاب والاغتيالات التي تبعتها. بعد الانتهاء من إجراءات الهجرة، صعدت إلى الطابق الثاني من المطار، للنظر إلى لوحة رخامية صغيرة، تسجّل افتتاح فيدل كاسترو ورئيس الوزراء الكندي السابق، جان كريتيان، لمهبط المطار الثالث في عام ١٩٩٨. لكن اللوحة متواضعة الأهمية، لا تسجل فقط عرفانًا بالجميل لكندا، التي عاندت حكوماتها على مدى عقود الضغوط الأمريكية لقطع علاقاتها الحميمة بكوبا، لكنها كانت أيضًا تذكيرًا بالعزلة والحصار الذي سعت الولايات المتحدة لفرضه على جارتها الصغيرة بكل السبل الممكنة. كان لغلالة الملحمية، التي تغلّف تاريخ الصمود الكوبي ضد قصف الطائرات والحصار الأمريكي، تلك أن تنقشع قليلًا بمجرد خروجي من المطار. فبعد مساومات مرهقة مع سائق التاكسي، انتهت لصالحه بالطبع، أثار المرور على ميدان الثورة بعض الإحباط، فنصب جوزيه مارتي، بطل الاستقلال الكوبي، الذي يتوسطه، يبدو قبيحًا بلونه الإسمنتي وطرازه السوفييتي المفتقد للحد الأدنى من الجمال، أما وجه جيفارا الضخم فهو مرسوم على واجهة أحد البلوكات الخرسانية القبيحة، وحين سألت السائق عن طبيعة المبنى، أجابني بأنها وزارة الداخلية، قبل أن يضيف أن عليّ الانتظار حتى أرى الجمال في هافانا القديمة، «والتي بناها أعداء الشعب كما يقولون لنا». كان لكلام السائق أن يثبت بعضًا من صحته، ففي الأيام القليلة اللاحقة، كان التجول في هافانا متعة بصرية خالصة، فبالإضافة لبهاء تصميمات المباني ذات التراث النيوكلاسيكي في وسط المدينة والطراز الكولونيالي للمدينة القديمة، وألوانها الزاهية في هدوء، فإن هيئة سكان المدينة لا تشي بفقر كنت أتوقع رؤية ملامحه؛ يبدو الجميع وقد ارتدوا أبهى حللهم للخروج للشوارع، بشكل لم أره في أي مدينة أخرى زرتها. ولا يعني هذا أن لأهل المدينة ذوقًا رفيعًا في أزيائهم، أو أنها تبدو منمقة لأقصى حد، ومكوية ونظيفة ولا يشع منها سوى البهاء، بل إنها على الموضة، وآخر صيحاتها أيضًا. لكن الأبهى من كل هذا كان التلاميذ بقمصانهم ناصعة البياض، وقد أمكن التلصص عليهم في مدارس المدينة القديمة، ذات الفصل الواحد، عبر النوافذ الواسعة بعرض الفصل نفسه، والمفتوحة على الأسواق وحركة المارة والتي لا يبدو أن ضجيجها كان قادرًا على تشتيت انتباههم عن مدرسيهم الواقفين، ومن خلفهم صورة أو أكثر لجيفارا في صدر الحجرة. كان حضور الشعارات السياسية في المدينة أقل كثيرًا مما تصورت، فغير نصب ميدان الاستقلال، صادفت نصبين أو ثلاثًا على التراث السوفييتي، بينما توارت صور فيدل، وظهرت بشكل نادر جدًا صور لراؤول كاسترو، في مقابل هيمنة أيقونات جيفارا الموزعة في كل ركن دون إفراط. وبين صور جيفارا المفعمة بالفحولة، وصور كاسترو التي تستدعي علامات الشيخوخة الطويلة فيها إحساسًا بالشفقة مع القليل من النفور، تقف المدينة وسكانها بين عالمين منفصلين تمامًا. بينما لا يمكن التظاهر بعدم ملاحظة الطوابير الطويلة أمام منافذ البيع المدعمة، والتي تستغرق ساعات في بعض الأحيان لشراء زجاجة زيت أو كيس بلاستيكي صغير من مسحوق للغسيل، فإن قطاعًا سياحيًا منتعشًا وتغييرات في السياسات الاقتصادية، سمحت بوجود قطاع خاص صغير واستثمارات محدودة لجانب اقتصاد الدولة المركزي، بالإضافة لنظامين ماليين متوازيين، فيهما يجري تداول نوعين للعملة، تعادل قيمة واحدة منهما ٢٥ ضعف الأخرى، ما انتهى لوضع شديد الغرائبية والتشوش، يعادل فيه دخل سائق التاكسي عن توصيلته لي من المطار، فقط، الدخل الشهري لطبيب في مستشفى حكومي، وبحسبة بسيطة فإن دخل صاحبه النزل الذي أقمت فيه، قد يعادل رواتب طاقم المستشفى كله. لابد وأن جيفارا، الذي كان مسؤولًا عن البنك المركزي ووزارة المالية بين مناصب أخرى كثيرة بعد الثورة، والذي كان اكتفاؤه بالتوقيع بلقب «تشي» فقط، بدلًا من اسمه الكامل، على أوراق العملة، هادفًا لنزع القداسة عن منطق الرأسمالية، كان ليجد نفسه غريبًا عن المدينة، التي يعود الفضل لطابور المقاتلين، الذي كان يقوده، في تحريرها من قبضة قوات باتيستا، قبل أن يلحق به كاسترو إلى المدينة بعدها بستة أيام كاملة. لكن ربما لم يكن جيفارا ليبقى مرحبًا به في المدينة أيضًا، فسائق التاكسي أكّد لي بيقين كامل، أن كاسترو هو من وراء الوشاية بجيفارا، وتسليمه للبوليفيين، بغية الخلاص منه، لأن «جيفارا ميتًا أفضل مئة مرة من جيفارا حي، كما ترى»، وبائعة الهدايا التذكارية عرضت عليّ بضائعها التي تحمل صورته، وهي تسألني إن كنت أحبه، وردًا على إجابتي بالنفي، هزّت كتفها قبل أن تهمس، وهي تناولني قطعة أخرى لا تحمل صورته «أنا أيضًا لا أحبه». على قدر ما كان السائق وبائعة الهدايا يحاولان إسماع الجرينجو (صيغة لاتينية تحقيرية لوصف السياح القادمين من أوروبا وأمريكا الشمالية)، من أمثالي، ما يثيرهم ويحبون سماعه، فإن ما قالاه كان يحمل جزءًا من الحقيقة، أو على الأقل أشباحًا لها. في الليلة قبل الأخيرة في هافانا، قررت قطع كورنيشها الممتد لثمانية كيلومترات مشيًا على الأقدام، ولم أنجح في هذا، لحسن الحظ أو لسوئه. ففيما كانت أحاول تحاشي عاملات الجنس الموزعات على طول الكورنيش، واللاتي لم يكتفين بإرسال القبلات في الهواء والبسبسة لـ«الجرينجوز»، بل يلحقن بهم بخطوات سريعة عارضين خدماتهن، استوقفتني إحداهن، بحيلة بسيطة، فبدلًا من السؤال الافتتاحي المعتاد في المدينة «من أين أنت؟»، والذي كنت تعلمت التهرب من أصحابه وعروضهم التي تأتي بعده، بإجابتي «من القمر»، فقد سألتني فيرونيكا «ما اسمك؟» وكنت غير مجهز للإفلات من هذا السؤال. بعد أن أشعلنا سيجارتين، وبعد أن اعتذرت لها عن عدم رغبتي في تضييع وقتها، لأنني لست زبونًا محتملًا، تبادلنا حوارًا لطيفًا عن زيارتي، عرفت منه أنني سأغادر بعد يومين، فقالت بغنج «لم العجلة؟ ستندم، كوبا جميلة، وناسها أجمل». لكن إجابتي بأنني نادم بالفعل، وأن الأمر كله خطأ، وأنني كنت راغبًا في حضور ذكرى جيفارا في اليوم التالي لمغادرتي، كانت آخر ما سمعته مني، قبل أن تمشي بعيدًا وهي تسألني بنبرة هي مزيج من السخرية وبعض الغضب «هل تحب جيفارا؟ هل سمعت عن قلعة لاكابانا؟ الكثيرون ماتوا هناك». في طائرة العودة لم يكن هناك إلا القليل مما يمكنني الجزم به عن هافانا، فزيارة سياحية لأسبوع واحد على نمط «الجرينجوز» الذين يستقون انطباعاتهم من سائقي التاكسي وبائعي محلات التذكارات السياحية، لا تكفي حتى لخدش سطح المدينة. لكن الأكيد أن جيفارا الذي كنت راغبًا في حضور ذكراه الخمسين، لا يزال حاضرًا في كل ركن في المدينة وذاكرة أصحابها، فمثلما أن مشروع التعليم ومحو الأمية الطموح والجذري الذي كان «تشي» مسؤولًا عن تخطيطه والبدء في تنفيذه، لا يزال حيًا في وجوه تلاميذ المدارس، فإن ذكرى من قُتلوا في سجن لاكابانا، والذي كان هو نفسه أيضًا مسؤولًا عن إدارته لبعض الوقت، باقية بندوبها، في المدينة التي تبدو على مفترق طرق، تودع فيه ماضيًا يعتز به أهلها عن حق، لكن في الوقت ذاته يبدو الكثيرون منهم راغبين في مستقبل مختلف.
«براءة خلف القضبان».. أطفال مصر تحت سيف الأحكام الجنائية والعسكرية محمود الواقع ١٦ أكتوبر ٢٠١٧ في انتظار معجزة، يعيش الطفل آسر كابوسًا خلف القضبان بين سجناء جنائيين ومدانين خطرين منذ القبض عليه فجر ١٢ يناير ٢٠١٦. قبل ذلك اليوم الشتوي قارس البرودة، كانت حياة آسر محمد زهر الدين موزعة بين الدراسة والرسم وكرة اليد في نادٍ رياضي شهير؛ ضمن فريقه تحت سن ١٧ سنة. انتهى كل ذلك منذ اقتحم الأمن منزل ذويه في حي فيصل بمحافظة الجيزة قبل ٦٤٧ يومًا، حين كان في الخامسة عشر من عمره. لم تعرف عائلة آسر مصيره إلا بعد ٣٣ يومًا على «اختفائه»، حيث أدرج اسمه على قائمة الإرهابيين في مصر، وفقًا لما ذكره الطفل لاحقًا في تحقيقات النيابة. وتتواصل محاكمة الطفل المولود في ٢ فبراير ٢٠٠١ أمام دائرة الإرهاب بمحكمة الجنايات، متنقلًا بينها وبين سجن الجيزة المركزي، الواقع داخل معسكر لقوات الأمن المركزي في صحراء مدينة السادس من أكتوبر، شمال غرب القاهرة، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية، في مخالفة لقانون الطفل، وفق محاميه مختار منير المحامي في مؤسسة حرية الفكر والتعبير. حياة آسر في الاحتجاز والمحاكمة تتشابه وحال نحو ٣٢٠٠ طفل، تحت سن ١٨ عامًا، سجنتهم السلطات المصرية منذ عزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، عقب منعطف ٣٠ يونيو ٢٠١٣. جميعهم احتجزوا مع بالغين وبعضهم تعرّض للتعذيب وسوء المعاملة، وفق ما أورده تقرير صدر عن مؤسسة «التنسيقية المصرية للحقوق والحريات» في أغسطس٢٠١٥. مادة (١١٩) من قانون الطفل المصري لا يحبس احتياطيًا الطفل الذي لم يتجاوز خمس عشرة سنة، ويجوز للنيابة العامة إيداعه إحدى دور الملاحظة مدّة لا تزيد عن أسبوع وتقديمه عند كل طلب إذا كانت ظروف الدعوى تستدعي التحفظ عليه، على ألا تزيد مدة الإيداع عن أسبوع ما لم تأمر المحكمة بمدها وفقًا لقواعد الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية. يدفع هؤلاء القصّر ثمن ثغرة في قانون الطفل المصري تسمح للنيابة بإحالة أحداث لمحاكم الجنايات إذا اشترك في الجريمة شخص واحد على الأقل عمره يتجاوز الثامنة عشر عامًا. هذا الإجراء يتناقض تمامًا مع (المادة ١١٩) من القانون ذاته التي تحظر حبس الطفل (دون سن الخامسة عشرة) احتياطيًا، وكذلك مع (المادة ٨٠) من الدستور المصري، الذي يلزم الحكومة بإنشاء نظام قضائي خاص بالأطفال، على أن يحتجزوا في أماكن مناسبة ومنفصلة عن مراكز البالغين. ويتناقض كذلك مع (المادة ٣٧) من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي صادقت عليها مصر عام ١٩٩٠، والتي تشترط«ألا يُحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية. ويجب أن يتم اعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقًا للقانون، ولا يجوز ممارسته إلا كملجأ أخير ولأقصر فترة زمنية مناسبة». يقول قاضٍ في محكمة جنايات لـ «مدى مصر» «تضع هذه الثغرة محاكمة الطفل أمام محاكم الجنايات، أو إحالته إلى محكمة أحداث، (بناء على) تقدير القاضي». ويوضح القاضي الذي يرفض الإفصاح عن هويته لحساسية منصبه «القانون يسمح للقاضي بمحاكمة الطفل أمام محكمة جنايات طالما هناك بالغون في القضية ذاتها». لكن القانون بحسب القاضي «يعطي المحكمة حق دراسة ظروف الطفل من جميع الأوجه قبل أن تصدر حكمها. ولها أن تستعين في ذلك بمن تراه من الخبراء. كما لها أن ترفض الحكم على الطفل لعدم اختصاصها، وإحالته إلى محكمة أحداث. ولها أيضًا إطلاق سراحه وتسليمه لذويه». يعزّز رأي القاضي صدور أحكام براءة لأطفال من محاكم جنايات، من بينها حكم الدائرة ١٥ جنايات إرهاب، برئاسة المستشار شعبان الشامي، بتسليم الطفل عمار علاء حسن لأسرته. وكان عمّار سُجن في يناير ٢٠١٦ وظلّ قيد الحبس الاحتياطي حتى نال البراءة في ٤ يونيو ٢٠١٧ عن اتهامه بالتظاهر والانضمام لجماعة إرهابية وحيازة مفرقعات. على مدى أربعة أشهر، تتبع «مدى مصر» ٣٥ قضية لأطفال مثلوا أمام محاكم جنايات ومحاكم عسكرية، كما التقى بأكثر من ١٠ أطفال قصّر أنهوا عقوبات جنائية تراوحت بين سنة وثلاث سنوات داخل سجون مخصصة للبالغين، بالمخالفة للمادة ١٤١ من قانون الطفل الذي يلزم بسجنهم في مكان الحجز المخصص فقط للقصّر في مصر، وهي المؤسسة العقابية بالمرج. أعمار الأطفال تراوحت بين ١٤ و١٧ عامًا، فيما تراوحت الأحكام بحقهم بين ثلاث وعشر سنوات. معظمهم قضوا مددًا في الحبس الاحتياطي بين ٩٠٠ و١٥٠٠ يوم قبل صدور الأحكام عليهم. وتلقى ثلاثة من خمسة أطفال أحكامًا بالبراءة أمام محاكم عسكرية. وفي نهاية أغسطس الماضي أنهى طفل آخر عقوبة نفذها كاملة بالسجن ثلاث سنوات. ورصد «مدى مصر» صدور ثلاثة أحكام بالإعدام على ثلاثة أطفال في محافظة المنيا، قبل أن تُلغى هذه الأحكام وتعاد محاكمتهم.من بينهم كان آسر زهر الدين، الذي عُرض على النيابة العامة للمرة الأولى دون محام يوم ١٣ فبراير ٢٠١٦، وفق محاميه. وهو يقضي أيامه بين غرف التحقيق بنيابة أمن الدولة العليا ومقر احتجازه داخل سجن الجيزة المركزي. ولم تستجب النيابة لطلب محامي آسر بعرضه على الطب الشرعي سعيًا لإثبات تعرضه للتعذيب ونقله إلى المؤسسة العقابية، وفق ما يقره قانون الطفل. أسرة آسر لم تستوعب ما حدث لابنها، وظلت تأمل في إخلاء سبيله. غير أنها فوجئت بإحالته في أكتوبر ٢٠١٦، إلى محكمة جنايات الجيزة دائرة الإرهاب برئاسة المستشار ناجي شحاتة، الذي أصدر ٢٠٤ أحكام بالإعدام و ٢٧٤ حكمًا بالمؤبد منذ توليه رئاسة دائرة الإرهاب في ديسمبر ٢٠١٣، قبل أن تلغي محكمة النقض بعض هذه الأحكام وتقرر إعادة محاكمة المتهمين مرة أخرى. يحاكم آسر وسائر المتهمين في القضية رقم ٤٥ لسنة ٢٠١٦ حصر أمن الدولة العليا، والمعروفة إعلامياً بــ«الهجوم على فندق الأهرامات الثلاثة بشارع الهرم»، محاكمة تكاد تكون سرية، بما يخالف المادة ٢٦٨ من قانون الإجراءات الجنائية التي تقر بوجوب علانية جلسات المحاكمة. فجلسات المحاكمة تعقد داخل أكاديمية الشرطة، بصحراء منطقة التجمع شرق القاهرة. حيث تحولت قاعات تدريس الطلاّب إلى مقرات محاكمة. هنا، يحجز المتهمون داخل قفص زجاجي عازل للصوت، ولا يسمح القاضي شحاتة سوى للمحامين بحضور الجلسات، في غياب الأهل والصحفيين. ولم تراع المحكمة الاستثناء في (المادة ١٢٢) من قانون الطفل، التي تنص على جواز محاكمة الطفل أمام الجنايات أو محكمة أمن الدولة إذا كان عمره فوق ١٥ سنة وقت ارتكاب الجريمة. وذلك لا ينطبق على آسر، الذي أكمل عامه الخامس عشر وهو قيد الاحتجاز. لم تتوقف الانتهاكات بحق آسر؛ إذ يؤكد محاميه أن اسمه أدرج ضمن «قائمة الكيانات الإرهابية والإرهابيين» بينما كان يستعد لامتحانات نهاية العام في الصف الثاني الثانوي، دون إخطار المحامي الذي كان يعد مذكرة الدفاع قبل جلسات المرافعة أمام المحكمة في يوليو ٢٠١٧. نُشر الحكم الذي اطلعنا على نسخة منه في الجريدة الرسمية، بتاريخ ٢٩ مايو ٢٠١٧، بعد أشهر على صدوره في أكتوبر ٢٠١٦. هذا الإجراء «استكمل الممارسات غير القانونية ضد الأطفال»، بحسب المحامي مختار منير. إدراج الأشخاص ضمن قوائم الكيانات الإرهابية، بحسب قانون «تنظيم الكيانات الإرهابية والإرهابيين»، الذي أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسي في فبراير ٢٠١٥، يترتب عليه «منع من السفر وترقب الوصول، وسحب جواز السفر، أو إلغاؤه أو منع إصدار جواز سفر جديد، وفقدان شرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولي الوظائف والمناصب العامة أو النيابية». اتهامات بالإرهاب بالجملة منذ يوليو ٢٠١٣، اعتُقل وسُجن نحو ٦٠ ألف مصري، بحسب تقرير «هناك متسع للجميع» الصادر عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، فيما لم تؤكد السلطات المصرية هذا الرقم أو تنفيه. لم ينجُ الأطفال من حدّة الاستقطاب السياسي منذ ٢٠١١، حسبما يقول محمد أحمد، مدير الوحدة القانونية في الائتلاف المصري لحقوق الطفل. عقب عزل مرسي في ٢٠١٣، اتسعت دائرة القبض العشوائي على أطفال، بمجرد مصادفة سيرهم في أماكن تمر بها مظاهرات «لم تفرق وزارة الداخلية بين المتظاهر وغير المتظاهر، ولذلك قُبض على العديد بينما كانوا في طريقهم إلى أماكن تلقيهم الدروس أو عائدين لمنازلهم». ويرى محمد أحمد أن الوضع السياسي والإعلامي أثرّ على المحاكم التي «تُعرض عليها أوراق تحريات المباحث وتحقيقات النيابة، ولم تكن مستعدة لتعطي الطفل نظرة خاصة، أو تبحث في حالته، إذ قد يكون مجنيًا عليه، أو مستغلًا سياسياً». *** داخل مبنى محكمة جنايات الإسكندرية التاريخي، المطل على كورنيش البحر، أجّلت المحكمة، يوم السبت ١٥ يوليو ٢٠١٧، محاكمة أربعة قصّر بسبب غياب القاضي في محكمة جنايات منتزه أول إلى شهر نوفمبر ٢٠١٧. هذا التأجيل خيّب رجاء أهالي المتهمين في القضية رقم ٢٦١١٦ بعد أن كانوا يأملون في نهاية «عذاب ثلاث سنوات» خلف أبنائهم المسجونين احتياطيًا منذ أكثر من ١٢٠٠ يوم. بدأت أحداث تلك القضية في ٣ يناير ٢٠١٤. بعد يومين على بلوغه سن الثامنة عشرة، قُبض على «م.أ» عصر الجمعة، ٣ يناير ٢٠١٤، بينما كانت قوات الأمن تفض مسيرة لأنصار جماعة الإخوان المسلمين، في حي المنتزه بمدينة الإسكندرية. كان «م.أ» عائدًا من مباراة كرة قدم، بحسب رواية والده ومحاميه. في ذلك اليوم، تصادف أيضا مرور ثلاثة أطفال آخرين في المكان ذاته، فقبض عليهم «ه.ن» و«ع.ي»، مولودان في ١ يناير ١٩٩٦، بينما «م.ع» مولود عام ١٩٩٨. لاحقاً خرج «م.ع» ضمن عفو رئاسي في ٢٣ يونيو الماضي. واجه الأربعة رفقة تسعة آخرين لائحة اتهام طويلة منها «تكدير السلم والأمن العام، والانضمام إلى جماعة إرهابية محظورة، وقطع الطريق، والتظاهر دون تصريح، وممارسة أعمال عنف، وترويع المواطنين، وتخريب الممتلكات العامة»، بحسب محضر قسم شرطة المنتزه، وتحقيقات نيابة المنتزه أول التي اطلع عليهما «مدى مصر». مع تكرار تجديدات الحبس الاحتياطي، تنقّل الأطفال بين دار رعاية الأحداث بسجن كوم الدكة بالإسكندرية، والمؤسسة العقابية في المرج، شرق القاهرة. بعد خمسة أشهر على احتجازهم في سجن كوم الدكة، قرّرت إدارة السجن ترحيلهم يوم ٤ يونيو ٢٠١٥، رفقة ٤٤ قاصرا آخر، إلى المؤسسة العقابية في المرج بحسب أهالي الأطفال. اعترض الأطفال على قرار ترحيلهم، كون «المؤسسة العقابية» سيئة السمعة،إضافة إلى أن محاكمتهم تجري في الإسكندرية، ولا فائدة من ترحيلهم من القاهرة إلى الإسكندرية في كل جلسة محاكمة، وفق أهالي ثلاثة قصّر مسجونين، التقاهم «مدى مصر» في الإسكندرية. *** في سبتمبر ٢٠١٧ أكمل «أ.خ» عامه الـ٢١، وأنهى أقرانه في الفئة العمرية ذاتها دراستهم الجامعية. قُبض على «أ.خ»، قبل أن يكمل عامه الـ ١٧،برفقة خاله، أثناء زيارة أحد أصدقاء العائلة، بحسب ما روته والدته، المحامية في الإسكندرية، لـ«مدى مصر». وقتها كان طالبًا في الصف الثاني الثانوي، لكنه استطاع أن ينهي دراسته الثانوية بمعدل ٧٣ %، رغم ظروف الاحتجاز والتنقل بين سجن كوم الدكة، والمؤسسة العقابية في القاهرة، وسجن برج العرب بالإسكندرية، وسجن طرة شديد الحراسة، حيث مقر احتجازه حاليًا. قسّم «أ.خ»، مواد الدراسة على عامين. في عام ٢٠١٥ أنهى الصف الثاني الثانوي، ثم قسم مواد السنة النهائية الخمس في الثانوية العامة بين ثلاث في العام الماضي، واثنتين هذا العام. ونجح فيها جميعها. كان «أ.خ»، يأمل في دراسة الهندسة، لكن حلمه تبخّر داخل السجن، بعد أن فشلت والدته في إيجاد جامعة خاصة تتيح له أداء الامتحانات داخل مقر احتجازه. وفي المحصلة، التحق بكلية التجارة بالأكاديمية الحديثة «مودرن أكاديمي». كان«أ.خ»، المولود في ٣٠ سبتمبر ١٩٩٧، من بين المعترضين على الترحيل من سجن كوم الدكّة. واجه «أ.خ»، اتهامًا بالانضمام إلى جماعة محظورة، وحوكم في القضية رقم ١٠١ لسنة ٢٠١٤ إداري ثان العامرية. وبعد ١١ شهرًا على احتجازه، أخلي سبيله، لكنه وجد نفسه متهمًا في قضّية ثانية إثارة الشغب والتعدّي على أفراد الشرطة أثناء تأدية وظيفتهم (رقم ٢٥٨٠ لسنة ٢٠١٤ جنايات العطارين). بعد اعتراض الطفلين على قرار الترحيل من كوم الدكة، اتُهم ٢٠ منهم، بينهم «أ.خ»، و«ه.ن»، و«ع.ي»، و«م.ع»، و«م.أ»، بإثارة الشغب والتعدي على أفراد الشرطة أثناء تأدية وظيفتهم، وأحيلت القضية إلى محكمة جنايات الإسكندرية، وصدر ضدهم حكم بالسجن ثلاث سنوات، في ١٧ مارس ٢٠١٦. قضّى «أ.خ» مدّة العقوبة كاملة؛ ثلاث سنوات بدءًا من يونيو ٢٠١٤. وكان من المفترض خروجه في ٢٥ يونيو ٢٠١٧، إلا أنه فوجئ باسمه متهمًا في قضية أشد من القضيتين السابقتين أمام المحكمة العسكرية (الرقم ٢ شمال عسكرية). وهو يواجه تهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية تسعى إلى تقويض نظام الدولة. لم يكن «أ.خ» القاصر الوحيد الذي يواجه محاكمات عسكرية. إذ عانى ٨٦ طفلاً من بين ٧٤٢٠ مدنيًا مصريًا على الأقل من محاكمات عسكرية، منذ أكتوبر ٢٠١٤، بحسب منظمة هيومان رايتس ووتش. توسعت محاكمة الأطفال أمام المحاكم العسكرية، منذ أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في ٢٧ أكتوبر ٢٠١٤، قانونًا يسمح بمحاكمة من يعتدي على منشآت الدولة أمام القضاء العسكري، على أن يسري العمل بالقانون لمدة عامين. ذلك القانون«رقم ١٣٦ لعام ٢٠١٤ بشأن تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية» الذي واجه انتقادات حقوقية واسعة وضع جميع المنشآت العامة؛ مثل محطات الكهرباء وخطوط الغاز وآبار النفط وسكك الحديد وشبكات الطرق، تحت سلطة القضاء العسكري. وأتاح ذلك محاكمة من يُتهم بالتعدي على أي من هذه المنشآت أمام المحاكم العسكرية.وبعد انقضاء فترة العمل بالقانون في ٢٠١٦ طلبت الحكومة من البرلمان تمديد العمل به لسنتين جديدتين، إلى أن أعضاء البرلمان قرروا تمديد العمل بالقانون لخمس سنوات دفعة واحدة في أغسطس ٢٠١٦. في ٢٥ أغسطس الماضي، أنهى سيف أسامة شوشة، (١٦ عامًا)، عقوبة بالسجن ثلاث سنوات وغرامة ٥٠ ألف جنيه بموجب حكم من محكمة جنايات الإسماعيلية العسكرية. وقائع تلك القضية (رقم ٣٥٩ لسنة ٢٠١٤ كلي إسماعيلية) تعود إلى الثالث من أغسطس ٢٠١٤. قُبض على «سيف»، المولود في ١٠ نوفمبر ١٩٩٨، في محافظة دمياط، شمال مصر، في شارع الصعيدي بينما كان عائدًا إلى منزله عقب احتفاله برفقة أصدقائه بنجاحه في الصف الثالث الإعدادي بمعدل ٩٣ %، بحسب والده «يبدو أن الشارع كان فيه مظاهرة، والشرطة كانت منتشرة بكثافة في المكان». ويضيف والده «بعد القبض عليه، اعتُدي عليه من قبل قوات الشرطة، حتى غمرت الدماء ملابسه». احتجزت قوات الأمن «سيف» داخل قسم شرطة دمياط الجديدة، واتهمته بالتظاهر دون ترخيص، والتعدي على منشآت حكومية، وقطع الطريق. في صباح ذلك اليوم، كان «سيف»، بحسب والده، يقدّم اختبار القبول بالمدرسة الثانوية العسكرية، تمهيدًا للالتحاق بفصل المتفوقين. لكن في اليوم التالي كان «سيف» يعرض على النيابة بملابس غارقة بالدماء وآثار كدمات على وجهه. يقول والده إن وكيل النيابة »لم يكترث بهذا كله، وقرّر حبسه ١٥ يومًا على ذمة التحقيق. لاحقاً، جددت له النيابة الحبس تسع مرات، مدّة كل منها ١٥ يومًا، قبل أن تحال القضية إلى المحكمة العسكرية«. ولم يتسن لنا التحقق من شكوى الأب حول تجاهل وكيل النيابة إصابات ابنه. في الشهر التالي للقبض على «سيف»، حلّ موعد بدء العام الدراسي. وبعد ١١ يومًا على بدئه، فُصل من المدرسة، لتكرار غيابه، فيما كان محبوسًا. قضى «سيف»أيام احتجازه الأولى في قسم شرطة دمياط الجديدة. بعدها أمضى ٤١ يومًا في قسم شرطة كفر سعد، ثم ١٤ شهراً في مركز شرطة «فارسكور»في دمياط؛ وجميعها أماكن غير مخصصة لاحتجاز الأطفال. عند الحكم عليه، كان عمره ١٧ عامًا، ورُحّل إلى المؤسسة العقابية في المرج، حيث قضى عامًا كاملًا، إلى أن بلغ الثامنة عشرة، ليرسل إلى سجن«جمصة»، بمحافظة الدقهلية. خلال فترة سجنه الأولى، داخل مركز شرطة «فارسكور»، أصرّ على استكمال دراسته، ونجح في الصف الأول الثانوي. لاحقاً، وأثناء سجنه في المرج، استطاع تجاوز الصف الثاني الثانوي بنجاح، وأجّل له والده السنة النهائية لما بعد خروجه. مع اقتراب الموعد، حجز والده مجموعات التقوية له، حتى يبدأ دراسته فور خروجه مباشرة. حاولنا التواصل بشكل رسمي مع المجلس القومي للأمومة والطفولة طوال فترة إعداد التحقيق ومنحهم حق الرد، لكننا لم نتلق أي رد على طلب مقابلة الدكتورة مايسة شوقي، نائبة وزير الصحة والسكان والمشرفة العامة على المجلس. ولم يرد المجلس كذلك على الأسئلة المرسلة عبر البريد الإلكتروني إلى مستشاره صبري عثمان. من جهتها رفضت مارجريت عازر، عضو لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب المصري، في حديثها مع «مدى مصر» القبول بوجود ثغرة في قانون الطفل المصري، مؤكدة أنه لا يحتاج إلى تعديل فيما يخص محاكمة الأطفال أمام المحاكم الجنائية. واتهمت «عازر» ما وصفته بـ «محاولة منظمات ممّولة من الخارج تحميل القوانين دلالات فوق ما تحتمل لأهداف غير وطنية»، مشيرةً إلى أن مجلس النواب يبحث بشكل دوري حالة جميع المسجونين في مصر، بمن فيهم القُصر المتهمون في قضايا جنائية، للنظر في أوضاعهم بما لا يخل بالقانون والدستور. واختتمت حديثها بالقول إن «الإرهاب والوضع الأمني يستوجب دعم الشرطة والجيش حيال كُل الإرهابيين». منذ أكثر من ثلاث سنوات، تتفاقم المخالفات القانونية في المحاكمات وأماكن الاحتجاز بحق القصّر في مصر، وسط تناقض في مواد قانون الطفل، ما أفضى إلى ضياع مستقبل المئات؛ مثل «آسر»الذي تفصله شهور قليلة عن بقائه للعام الثاني رهن الحبس الاحتياطي، في انتظار ما ستسفر عنه محاكمته أمام دائرة الإرهاب بمحكمة جنايات الجيزة. وتتمنى عائلة آسر أن يعامله القاضي كطفل لم يبلغ عمره وقت ارتكاب «الجريمة» ١٥ عاما، وليس كمجرم وُضع اسمه على قائمة الإرهابيين. أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية «أريج»وبإشراف الزميل حمد العثمان.
«صيف تجريبي» بكائيات الفشل والرثاء الذاتي للنخبة أنديل ١٥ أكتوبر ٢٠١٧ بعد أن لفتت الحملة الدعائية المشوّقة لفيلم «صيف تجريبي» انتباهي، دخلتُ الفيلم أخيرًا في سينما زاوية الأسبوع الماضي. ما شدّني في الحملة تحديدًا هو تجريبيتها وغموضها اللافت؛ فهي عبارة عن ملصق يحمل فقط صورة شخصية لفتاة ذات ملامح مميزة، تبتسم ابتسامة غامضة. اعتمدت الحملة على استخدام تلك الصورة في فيديوهاتها أو منشوراتها على فيسبوك، كل مرّة بسياق مختلف. مرة بالأبيض والأسود معلّقة على حائط ما في القاهرة، ومرة في أيدي شباب يرتدون ملابس شخصيات كوميكس المانجا الياباني، ومرة مشوّشة بتأثيرات برنامج الفيديو «جليتش». الألوان المشرقة والمتنوعة للحملة، هي أهم ما لفت نظري، بسبب افتقادي لحضورها في السينما المصرية النخبوية. فبينما تعج مشاهد الأفلام التجارية الشعبية بألوان زاعقة ومتنافرة، ارتبطت الأفلام «الفنية» في ذهني، بصورة باهتة، وباليتة ألون داكنة بنية وكئيبة، تتماشى مع مشاهد الصمت الطويلة والحوارات المبتورة لشخصيات الأبطال الغارقين في ميلانكوليا نخبوية، لا أجد لها مثيلًا إلا في أفلام البلدان باردة المناخ. لكونه تجريبيًا، تحمستُ لمشاهدته، متوقعًا، ربما بسبب طبيعة الدعاية، فيلمًا لطيفًا بروح شابة، مفعمًا بالألوان والأشياء. وقفت منتظرًا دوري في طابور التذاكر الطويل الذي امتد لخارج السينما، محاطًا بأصدقائي من الفنانين والفنانات والصحفيين والصحفيات والموسيقيين والموسيقيات والناشطين والناشطات و الأكاديميين والأكاديميات ذوي تسريحات الشعر الأنيقة، والحلقان اللطيفة. وبينما نحن ننتظر، نهض شاب كان يجلس على المقهى المقابل للسينما، واقترب مني، ليسألني دون تردد كابتن هو ده ايه؟ أنا ده إيه؟ الشاب المبنَى ده إيه؟ أنا دي سينما الشاب (ينظر حوله سريعاً متفحصاً وجوه الشباب الحضور) بتعرض أفلام إنجلش صح؟ أنا يعني إنجلش ومش إنجلش الشاب طب ده فيلم إيه؟ أنا فيلم اسمه «صيف تجريبي» الشاب ده حلو ده؟ أنا ماعرفش لسة هاشوفه الشاب يعني أخشه؟ أنا خشه، يمكن يعجبك ويمكن لأ الشاب شكراً يا رايق أنا العفو (يبتعد خطوتين ثم يعود مجددًا) معلش يا كابتن سؤال كمان.. أنا اتفضل الشاب هو أنا ينفع أدخل عادي صح؟ أنا يعني إيه؟ الشاب يعني أقطع تذكرة وهايدخلوني عادي؟ أنا آه عادي. الشاب أوكيه بهذه الروح دخلتُ الفيلم، متأثرًا بهذه المحادثة المحمّلة بتأويلات عن طبيعة علاقة نوع «الأفلام» التي تعرضها أماكن مثل زاوية، بالجمهور المصري العادي. في دقائقه الأولى بدا «تجريبيًا» بالفعل؛ بسبب الحرية والتلاعب في الطريقة التي اختارها للدخول للقصة. فأسلوب الحكي، الذي يفضل الكثير من أصدقائي تسميته بـ«السرد»، لم يلتزم بمسار محدّد أو متوقّع للولوج للقصة، ما جعله أحيانًا أشبه بوثائقي تتحدث فيه الشخصيات الحقيقية عن تجربتها مع رحلة البحث عن الفيلم المفقود، ثيمة الفيلم الأساسية، وأحيانًا أخرى يتحول لفيلم روائي عن قصة شاب وفتاة يمرون بوقائع غرائبية. ويجري هذا الانتقال بفواصل شديدة الجدية، ينقل بها الفيلم معلومات هامة للمشاهدين عن واقع متخيّل يختلف تمامًا عن واقعنا الحالي. التباين بين طريقة تصوير ماهو وثائقي وماهو روائي خيالي أعطى انطباعًا أوليًا بالثراء البصري للفيلم، وبلغة سينمائية فريدة، بمفردات متنوّعة. وطمحتُ وقتها لأن يعطي الفيلم نفسه مساحة أكبر لتطوير لغته، وأن يؤكد على التكنيكات السينمائية المستخدمة لحكي كلا القصتين، فتكون اللحظتان متنافرتين بعمق أكبر، ويصبح الوثائقي أكثر وثائقية على مستوى واقعية الصورة واختيارات المونتاج وعفوية الأحداث الموثقة، و الروائي الخيالي أكثر خيالًا. لكن رغم هذا، كنتُ مستمتعًا بمتابعة ما يحدث، بل وأعجبتُ بنجاح الفيلم في اكتشاف بعض اللحظات والعلاقات الجديدة بالنسبة لي. بعد دقائق بدأ انطباعي المبدئي في الاضمحلال، بزوال اهتمام الفيلم بهذه العلاقات، واعتماده خط «البحث عن الفيلم المفقود» كخط درامي رئيسي ووحيد، ليختفي التجريب تدريجيًا ومعه الألوان المشرقة، ويبقى البُنِّي والصمت، ويتحوّل من فيلم باحتمالات مفتوحة، لمشهد واحد يُعاد ويُكرَّر إلى ما لا نهاية، يعبّر فيه أشخاص لا نعرفهم، عن الجزع بخصوص شيء يفترضون أنني، كمشاهد، أشاركهم الاهتمام به. بكل صدق، وبعد مرور نصف الفيلم، أصبحتُ غير مهتم بالمرة بـ«الفيلم» الذي يبحث عنه الأبطال ودلالاته وإحالاته، بل وبدت قصة البحث بالنسبة لي خاوية وفارغة، لا تحدِّي حقيقي فيها، ولا شعور إنساني عام يمكنني الانخراط فيه. عند هذه النقطة، تجلّت أمامي وبوضوح كل عيوب الفيلم، من رداءة التصوير وفقر الخيال في اختيار الزوايا وتصميم الإيقاع. ومع غياب حدوتة متقنة، اختفى التواطؤ الذي كان يعميني عن مشاكل الصنع. إشكاليات صناعة فن عن «الفن» من المفهوم تمامًا، في بلد مثل مصر، وبسبب المعوّقات الكثيرة التي يواجهها الفنان من أجل إنجاز عمله، أنه من الصعب على المشتغلين بالفن، تجاهل الميلودارما المتعلّقة بشخصية «الفنان». فالتحدي الذي تواجهه صناعة الفن في مصر، من صعوبات إبداء الرأي وعدم الترحيب بخصوصية الصوت الفني، إلى جانب المشاكل الأهم، من صعوبات الإنتاج وإمكانيات التنفيذ، هي معضلات حقيقية، يصعب ألا تثير شهية الفنانين لصنع أعمالًا فنية عنها. بشكل شخصي، أكن احترامًا كبيرًا لهؤلاء الفنانين الذين يتمحور فنّهم، حول التساؤلات المحيطة بتجربة صناعة الفن، والمعطيات المكوّنة لشخصية الفنان ورؤيته لنفسه ولمحيطه. كما أنني أتفهم، أن سعي الشخصيات الرئيسية في فيلم «صيف تجريبي» للعثور على «الفيلم المفقود»، هو انعكاس لرحلة بحث صانعيه الشخصية المضنية عن فُرص لصناعة الفن. كان بإمكان الفيلم أن يكون عبارة عن تدفق للمحادثات والأفكار حول تلك القضية. لكن صانعيه تلاعبوا بتوقعاتنا كمشاهدين، وانشغلوا بالتأكيد على «اختلافه» من خلال طريقة السرد المراوغة، والنهايات المزيّفة المتعددة، والظهور المشوش لمخرج الفيلم نفسه داخل الفيلم. هدفت هذه الاختيارات الفنية، لتمييز الفيلم، عن الأفلام الوثائقية العادية، ولإعطائه بعدًا طموحًا وطليعيًا، ما وعدنا كمشاهدين بوعود برّاقة، لم يستطع الفيلم تلبيتها، بسبب فشله في خلق قناة اتصال بينه وبيني كمشاهد. في رأيي أن عملية صنع الفن مبنية في المقام الأول على الرغبة في إحداث تواصل بين الفنان والمشاهد. ومهما أبدى الفنانون النخبويون من تعالي على الشعبوية والجماهيرية، ومهما بذلوا من جهود لفصل فنهم عن الفن الشعبي المبتذل، يظل أقصى مرادهم في النهاية، هو إيصال فنهم لأكبر عدد ممكن من الناس. فإذا اعتبرنا «التواصل» قيمة سطحية، حسب ما فهمت، وأتمنى أن أكون مخطئًا، من اختيارات فيلم صيف تجريبي، إذن فليست هناك قيمة من «عرض» ومشاركة الأعمال الفنية من الأساس مع أي عدد. لذا فالإلمام بمفردات اللغة المستخدمة لصنع التواصل هو شرط أساسي لإنجاحه. وإذا كانت الثيمة الرئيسية للعمل الفني تدور عن غياب التواصل والفجوة بين صانع الفن ومتلقيّه، فتلك قصة تحتاج بالذات، من أجل إيصالها، لامتلاك المقدرة والرغبة على إحداث تواصل. التقييم الإنفعالي للأعمال الفنية ذكرني «صيف تجريبي» بمناقشة دارت بيني وبين بعض الأصدقاء حول فيلم إبراهيم البطوط الروائي الأول، «عين شمس» الذي لم أستطع إكماله من فرط شعوري بالاغتراب وعدم تصديقي لما يجري أمامي على الشاشة. قال لي أحد الأصدقاء أيوة بس الفيلم ده معمول بتلاتين ألف جنيه بس!، وكأن هذا في حد ذاته مبرر للإعجاب به، بغض النظر عن مدى نجاحه في التواصل مع حواسي. هذه الطريقة المهتمة بسياق العمل أكثر من اهتمامها بلب العمل نفسه، هي في رأيي، مرض عضال في الوسط الفني المصري، بل في العقل المصري عمومًا. فالتقييم الانفعالي المبني على الخبرة الشخصية، والمتأثر بطبيعة العلاقات التي تربط الفنانين ببعضهم، يؤدي أحيانًا لعكس المراد منه. فبينما يحتاج صانعو الأفلام للفت نظرهم لمشاكل تقنية في عملهم، كأن يقال لمخرج معيّن أن لقطاته المتوسطة تأتي في التوقيت الخاطئ، أو أنه يحتاج لتطوير أدواته في توجيه الممثلين، لا يتلقى أيًا منهم نقدًا حقيقيًا وموضوعيًا ما يدفعهم للغرق في علاقات إشكالية مع فنهم، ويحرمهم من فرص حقيقية لتطويره. وبسبب أن تخوفهم من السينما التجارية، خلق حاجزًا نفسيًا بينهم وبين احتراف حرفة الحكي والحدوتة الخيالية المضفرة، وأن تعرضهم لإطراءات مبالغ فيها، أو هجمات عنيفة، يعود عادة لدوافع شخصية وغير فنية، ارتبكت علاقتهم بكل من الجمهور والنقد، ما انعكس على أعمالهم المغرِقة في الذاتية والتي تنضح جنباتها بعداوة مضمرة للجمهور. تتجلّى هذه المشكلة بوضوح في فيلم صيف تجريبي، فهو فيلم متمحور حول ذاته، غير مهتم بالتواصل مع الجمهور، يركّز فقط على الإحساس الدفين بالظلم والرفض لدى الفنان. وهو وإن كان شعور جدير بالاحترام، فإنه لا يأخذ في اعتباره، أن الحياة بها انفعالات أخرى، بالإضافة إلى أن تجارب الفنانين أنفسهم مليئة بمشاعر كثيرة نادرًا ما نراها حاضرة في أعمالهم. أهمية السينما المستقلة في الخروج من أسر الدولة أكثر ما شدني للسينما المستقلة والإنتاج السينمائي المنفصل عن سيطرة شركات الانتاج العملاقة ووصاية الدولة؛ هو محاولات الاستقواء والمشاغبة. فلأن كل كل تجربة يمر بها الإنسان في مصر مع المحيط العام، تزرع داخله بالتدريج شعورًا بقلة الحيلة، ولأن كل أمل أو طموح يصطدم عاجلًا أم آجلًا بأمور كالتجنيد الإجباري، رفض فيزا، منع من الرقابة، تأتي عبقرية السينما المستقلة في رأيي، بعثورها على وسيط تقني، تستطيع من خلاله، خلق حالة تحرر صادمة من هذه القيود التي لا يرى المصريون لأنفسهم وجوداً خارجها. كاميرا ديچيتال رخيصة، وقصة مثيرة، وبعض الشباب الذي يجيد الكلام، يمكنهم صنع فيلم يراه الناس ويسألون أنفسهم كيف صنع هؤلاء الشباب هذا!. هذه هي الرسالة الأقوى في رأيي والأهم. مشاهدة فيلم مستقل متقن التنفيذ هي رسالة لكل الناس أن أي شيء ممكن، وأننا قادرون لو أردنا. لهذا تشن أجهزة الدولة حربًا على صناعة السينما المستقلة، ولهذا يعاني فيلم مثل «أخضر يابس» لمحمد حمّاد في الحصول على تصريحات للعرض رغم الحفاوة التي قوبل بها في كل مهرجانات العالم. وللسبب نفسه يخوض فيلم «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد؛ معركة شبيهة وأكثر ضراوة مع الرقابة. ليس لأنها أفلام ثورية محرّضة أو صادمة، لكن لأنها أفلام متقنة الصنع، تقوّض القناعة المصرية بالفشل والعجز. هي أفلام استطاعت تحقيق ما أرادته، بطريقة متقنة للغاية، وفي انعزال تام عن السلطات الرسمية أو القوى الإنتاجية الضخمة. هذه الأفلام قادرة، إذا عرضت وعرف الناس قصتها وتحت أي ظروف صُنعت، على أن تكون ملهمة لتجارب أخرى للاستقلال الفني، بل ولفكرة «الاستقلال» عن الدولة بشكل عام. أقتبس من حماد وأقول أن نجاح أي فيلم هو فقط أن يُصنع. وأضيف أن أي رد فعل عليه، لا ينتقص بالضرورة من كونه «صُنع» لأن هذا في حد ذاته، شيء أشبه بالمعجزة. فيلم «صيف تجريبي» في رأيي لم يُدرك معجزته الخاصة، فتبنّى بكائية خجولة عن حياة الفنان وصدّر شعورًا بالعجز، منعه من الاستفادة من نقاط قوته ولغته الخاصة. إذا لم تجد أفلام مثل «صيف تجريبي» طريقة أخرى لتناول مجتمع الفنانين ومأساة الفنان غير القادر على تحقيق ما يريد؛ فهي في الحقيقة ترسّخ في ذهن الكثيرين نفس الرسالة التي تنفق الدولة ملايين الجنيهات من أجل إرسائها، وهي أنّنا لا نستطيع، كما تشارك بنفسها في تعلية السور الذي يفصلها عمن حولها، ويغرقها في عُزلة أكبر. الأفلام التي تؤمن أن مشكلتها مع الجمهور تكمن في انشغالها بقضايا عصيّة على استيعاب المواطن العادي، تضع نفسها في خانة شديدة الخطورة، لأنها بذلك تبني تصوراتها عن قطاعات عريضة من البشر بمنطق طبقي وعنصري، يُجردهم من أهليتهم لمجرد فشلهم في التواصل مع «فنهم». بكل تأكيد، لا أعتقد أن هذه هي الطريقة التي ينظر بها صناع فيلم «صيف تجريبي» لأنفسهم أو للجمهور، كما أنني لا أدافع عن تبني الشعبوية ومداهنة الذوق العام ومجاراة مقتضيات الترفيه كحل وحيد. لكنني أعتقد أن الفن الذي يَطمح لأن يتبوأ مكانة مميزة، وأن يترك تأثيرًا ملفتًا، لابد أن يفصل نفسه عن الأطر المهترئة القديمة، والمسمّيات الجزافية التي تضع حدودًا عريضة بين ما هو «نخبوي» و«شعبوي» و«فهلوي». الحياة أكثر رحابة الآن، ونحن في زمن آخر. يُعرض فيلم صيف تجريبي في سينما زاوية حتى يوم ١٧ أكتوبر.
ثلاثة مشاهد على مدار قرن كيف يرى المصريون التعداد؟ ملك لبيب ١٥ أكتوبر ٢٠١٧ «التعداد هيعرفك زي العيلة، اللي عارفة كل صغيرة وكبيرة عن ولادها. مافيش حد ناسيه، وكل واحد معمول حسابه. ولإننا في مصر عيلة واحدة كبيرة، التعداد هيروح لكل مبنى.. وكل أسرة.. وكل منشأة. اتعاون معانا وادينا بياناتك علشان نعرف محتاجين كام مدرسة، كام مستشفى، وكام فرصة عمل. وبجمع البيانات الدقيقة هنقدر نخطّط للمستقبل ونبني لقدام. تعداد مصر ٢٠١٧، تعدادنا مستقبلنا.» الإعلان المنقول نصه هنا هو جزء من الحملة الإعلامية الواسعة التي أطلقها جهاز التعبئة والإحصاء للدعاية لتعداد السكان، والذي أعلنت نتائجه في الثلاثين من سبتمبر الماضي. وبعيدًا عن تحليل تلك النتائج، التي ستتيح مادة ثرية لقراءة تحولات المجتمع المصري في العشر سنوات الأخيرة، فسأنطلق هنا من نقطة مختلفة، وهي خطاب الدولة حول التعداد، وذلك بهدف إلقاء الضوء على بعض جوانب «سياسة الأرقام» وتاريخها. في الإعلان المشار إليه، تبدو الدولة مثل رب الأسرة الذي، بمعرفته لكل تفاصيل أبنائها، يرعاها ويخطط لمستقبلها. ولكن إعادة استخدام هذا التشبيه الأبوي في سياق التعداد لا تشير، في الحقيقة، إلا إلى توجس قطاعات غير صغيرة من السكان من «الطموحات» المعلوماتية للدولة. حالة التوجس هذه شكا منها معاونو التعداد المكلّفون بجمع البيانات على الأرض، فبعضهم قال «المواطنين بيجروا ورانا»، وقال آخرون إنهم تعرضوا أحيانًا «للضرب والطرد». مسؤولو الجهاز الإحصائي من جانبهم أرجعوا المشكلة جزئيا للسياق العام المصاحب للتعداد؛ ارتفاع الأسعار وما يتردد عن خطط الحكومة لرفع الدعم على السلع الغذائية، وإعادة هيكلته. لكن مع هذا، فالعنوان الأوسع لخطاب المسؤولين ظل هو «غياب الوعي»، بالأخص لدى الفئات غير المتعلمة، ولذلك كان التشديد على سرية البيانات الفردية، وعلى «الفائدة القومية» للتعداد. ١٩١٧ احتلال وحرب وتعداد «لا يزال الفلاح المصري والطبقة الجاهلة من سكان المدن ينظرون إلى عمليات التعداد بعين الشك والريبة… هم يغفلون الارتباط بين المصلحتين العامة والخاصة، ويجهلون ضرورة تزويد الحكومة بالبيانات الصحيحة حتى تضمن التوزيع العادل للأعباء الوطنية وتقسيم الإيرادات الأهلية وانتهاز الفرص المحيطة بها، كما يجهلون الفائدة التي يمكن أن تعود على الشعب من وضع تقرير صحيح عن التعداد».. من تقرير التعداد العام للسكان لسنة ١٩١٧. في مثل هذه العام من القرن الماضي، أجرت السلطات البريطانية التعداد العام للسكان. لم يكن هذا هو التعداد الأول من نوعه – فمصر لها تاريخ طويل من التعدادات، كان أولها عام ١٨٤٨ – ولكن الظروف المحيطة به كانت استثنائية. في ١٩١٤، ومع بداية الحرب العالمية الأولى، أُعلنت الحماية على مصر، وترتب على ذلك توسع أشكال تدخل سلطة الاحتلال في الجوانب المختلفة من حياة للمصريين، ما بين تعبئة العمالة للمشاركة في المجهود الحربي، إلى الاستحواذ على الإنتاج الزراعي. ولعبت الإدارة المركزية للإحصاء، التي كانت قد أُنشأت قبلها ببضعة سنوات (بالتحديد في ١٩٠٥)، دورًا مركزيًا في مسح الموارد وتعبئتها. لم يكن غريبًا، في هذا السياق، أن تسبق تعداد سكان ١٩١٧ حملة دعائية واسعة من خلال الصحف والمدارس والمساجد، إذ أن السلطات كانت تخشى رد فعل السكان على هذه العملية. تعداد ١٩١٧ كان أيضًا أول تعداد يعتمد رسميًا – وإن كان بشكل جزئي – «سريَّة» البيانات الشخصية، حيث أقر منع استخدام المعلومات الخاصة بالسن والمهنة والجنسية والحالة الاجتماعية، لغير الأغراض الإحصائية، أو من قبل جهات أخرى في الدولة. إلا أن التأثير المباشر لتلك الإجراءات كان محدودًا فيما يبدو. فقد أشارت صحف تلك الفترة إلى الصعوبات التي واجهها العدّادون على الأرض، وعلى سبيل المثال، تحدثت جريدة الأهرام بتاريخ ٩ مارس، عن محاولات مندوبي الإحصاء جمع وحصر الفقراء الذين لا سكن لهم، وكيف أن هؤلاء «فروا من وجههم… أو ادعوا أن لهم منزلًا ولكن النعاس ران على أجفانهم وهم في الطريق فناموا في زاوية من الزوايا». وبشكل عام، فرغم توسع أعمال الإحصاء تدريجيًا خارج استخدماته التاريخية، والمرتبطة خصيصًا بجمع الضرائب والسخرة والتجنيد، إلا أن جمع بيانات السكان مع ذلك ظل مسألة خلافية. خصوصية الفرد.. سرية الدولة «البيانات الفردية التي تتعلق بأي إحصاء أو تعداد (سرية) ولا يجوز إطلاع أي فرد أو هيئة عامة أو خاصة عليها... يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين ...كل من أخل بسرية البيانات الإحصائية أو أفشى بيانًا من البيانات الفردية أو سرًا من أسرار الصناعة أو التجارة أو غير ذلك من أساليب العمل التي يكون قد أطلع عليها بمناسبة عمله في الإحصاء أو التعداد.» بهذا الاقتباس – الوارد في القانون رقم ٣٥ لسنة ١٩٦٠ عن الإحصاء والتعداد – ننتقل إلى الفترة الناصرية التي شهدت تغيرات عدة في منظومة جمع ونشر المعلومات. من إنشاء عدد من اللجان والهيئات الاقتصادية الجديدة، والاستعانة بعدد من الخبراء المصريين والأجانب للعمل بها، إلى استحداث قياسات وتقنيات جديدة، اكتسبت «خبرة الأرقام» موقعًا مركزيًا في نشأة سياسات التخطيط الناصرية. كان معنى التوجه نحو التخطيط المركزي توسع الدولة في جمع وإنتاج البيانات، الاقتصادية بالتحديد، لكنه كان يعني أيضًا تضييق نشر تلك البيانات وإتاحتها. فاللافت في قانون ١٩٦٠ هو كيفية استخدامه لمفهوم «سرية المعلومات»، وإشارته لمصطلح «أسرار الصناعة والتجارة»، في سياق التدخل المتزايد للدولة في المجال الاقتصادي. كان تقييد نشر المعلومات وتداولها، ومنها البيانات الإحصائية، سمة سائدة في سياق الحرب الباردة، وبالتحديد فيما يخص الدول التي اتبعت نمط التخطيط الاشتراكي. وفي مصر أيضًا كان سياق الحرب حاضرًا، وإن كان الحديث هنا بالأساس عن الصراع العربي الإسرائيلي. ففي عام ١٩٦٠، وبعد إصدار قانون التعداد والإحصاء بعدة أشهر، جرى إصدار قانون التعبئة العامة الذي ينظّم إعداد وتهيئة السكان والموارد في حالة الحرب أو تهديد «الأمن القومي»، كما ضُمّت بعدها مصلحة الإحصاء لإدارة التعبئة العامة. كانت تلك التغيرات في التشريعات الخاصة بالإحصاء كذلك تعبيرًا عن ازدياد نفوذ المؤسسة العسكرية، على حساب الأجهزة الأخرى للدولة. فبعد إنشاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ١٩٦٤، نُقلت تبعيته من رئاسة الجمهورية إلى وزارة الحربية وعُيّن على رأسه لواء من الجيش وهو جمال عسكر، كما يروي الفريق محمد فوزي في مذكراته التي صدرت حديثًا تحت عنوان «مذكرات الثلاث سنوات ١٩٦٧ ١٩٧٠». *** على اختلافها، تطرح الثلاث لحظات التي توقفنا عندها أسئلة حول آليات جمع ونشر المعلومات، وعلاقتها بالنظام السياسي، وحول مدى حضور وتأثير لحظات التأسيس، التي أشرنا إلى بعضها هنا، على حاضرنا اليوم، إن نظرنا مثلًا لعلاقة السكان بالمؤسسة الإحصائية أو ارتباط المعلومات بـ«الأمن القومي»، وإن كان مضمون ما يدخل تحت هذا المسمى قد تغير هو نفسه، فمثلًا، كان من الأسئلة التي طرحت نفسها مجددًا في ضوء نشر نتائج تعداد ٢٠١٧، غياب الإحصاءات الخاصة بالديانة عن نتائج التعداد، حيث دخلت هذه المسألة ضمن مفهوم «الأمن القومي». في هذا المثال بالتحديد، وعلى عكس خطاب السلطة حول «جهل» السكان بفوائد التعداد، نجد هناك ضغطًا وتحركًا من قبل جماعة من السكان من أجل جمع ونشر تلك البيانات، بالتحديد لأنهم يجدون مصلحة وفائدة في ذلك، ولكنهم يواجهون رفض الدولة، والتي، ورغم جمعها تلك البيانات، إلا إنها تمتنع عن نشرها.