«صيف تجريبي» بكائيات الفشل والرثاء الذاتي للنخبة أنديل ١٥ أكتوبر ٢٠١٧ بعد أن لفتت الحملة الدعائية المشوّقة لفيلم «صيف تجريبي» انتباهي، دخلتُ الفيلم أخيرًا في سينما زاوية الأسبوع الماضي. ما شدّني في الحملة تحديدًا هو تجريبيتها وغموضها اللافت؛ فهي عبارة عن ملصق يحمل فقط صورة شخصية لفتاة ذات ملامح مميزة، تبتسم ابتسامة غامضة. اعتمدت الحملة على استخدام تلك الصورة في فيديوهاتها أو منشوراتها على فيسبوك، كل مرّة بسياق مختلف. مرة بالأبيض والأسود معلّقة على حائط ما في القاهرة، ومرة في أيدي شباب يرتدون ملابس شخصيات كوميكس المانجا الياباني، ومرة مشوّشة بتأثيرات برنامج الفيديو «جليتش». الألوان المشرقة والمتنوعة للحملة، هي أهم ما لفت نظري، بسبب افتقادي لحضورها في السينما المصرية النخبوية. فبينما تعج مشاهد الأفلام التجارية الشعبية بألوان زاعقة ومتنافرة، ارتبطت الأفلام «الفنية» في ذهني، بصورة باهتة، وباليتة ألون داكنة بنية وكئيبة، تتماشى مع مشاهد الصمت الطويلة والحوارات المبتورة لشخصيات الأبطال الغارقين في ميلانكوليا نخبوية، لا أجد لها مثيلًا إلا في أفلام البلدان باردة المناخ. لكونه تجريبيًا، تحمستُ لمشاهدته، متوقعًا، ربما بسبب طبيعة الدعاية، فيلمًا لطيفًا بروح شابة، مفعمًا بالألوان والأشياء. وقفت منتظرًا دوري في طابور التذاكر الطويل الذي امتد لخارج السينما، محاطًا بأصدقائي من الفنانين والفنانات والصحفيين والصحفيات والموسيقيين والموسيقيات والناشطين والناشطات و الأكاديميين والأكاديميات ذوي تسريحات الشعر الأنيقة، والحلقان اللطيفة. وبينما نحن ننتظر، نهض شاب كان يجلس على المقهى المقابل للسينما، واقترب مني، ليسألني دون تردد كابتن هو ده ايه؟ أنا ده إيه؟ الشاب المبنَى ده إيه؟ أنا دي سينما الشاب (ينظر حوله سريعاً متفحصاً وجوه الشباب الحضور) بتعرض أفلام إنجلش صح؟ أنا يعني إنجلش ومش إنجلش الشاب طب ده فيلم إيه؟ أنا فيلم اسمه «صيف تجريبي» الشاب ده حلو ده؟ أنا ماعرفش لسة هاشوفه الشاب يعني أخشه؟ أنا خشه، يمكن يعجبك ويمكن لأ الشاب شكراً يا رايق أنا العفو (يبتعد خطوتين ثم يعود مجددًا) معلش يا كابتن سؤال كمان.. أنا اتفضل الشاب هو أنا ينفع أدخل عادي صح؟ أنا يعني إيه؟ الشاب يعني أقطع تذكرة وهايدخلوني عادي؟ أنا آه عادي. الشاب أوكيه بهذه الروح دخلتُ الفيلم، متأثرًا بهذه المحادثة المحمّلة بتأويلات عن طبيعة علاقة نوع «الأفلام» التي تعرضها أماكن مثل زاوية، بالجمهور المصري العادي. في دقائقه الأولى بدا «تجريبيًا» بالفعل؛ بسبب الحرية والتلاعب في الطريقة التي اختارها للدخول للقصة. فأسلوب الحكي، الذي يفضل الكثير من أصدقائي تسميته بـ«السرد»، لم يلتزم بمسار محدّد أو متوقّع للولوج للقصة، ما جعله أحيانًا أشبه بوثائقي تتحدث فيه الشخصيات الحقيقية عن تجربتها مع رحلة البحث عن الفيلم المفقود، ثيمة الفيلم الأساسية، وأحيانًا أخرى يتحول لفيلم روائي عن قصة شاب وفتاة يمرون بوقائع غرائبية. ويجري هذا الانتقال بفواصل شديدة الجدية، ينقل بها الفيلم معلومات هامة للمشاهدين عن واقع متخيّل يختلف تمامًا عن واقعنا الحالي. التباين بين طريقة تصوير ماهو وثائقي وماهو روائي خيالي أعطى انطباعًا أوليًا بالثراء البصري للفيلم، وبلغة سينمائية فريدة، بمفردات متنوّعة. وطمحتُ وقتها لأن يعطي الفيلم نفسه مساحة أكبر لتطوير لغته، وأن يؤكد على التكنيكات السينمائية المستخدمة لحكي كلا القصتين، فتكون اللحظتان متنافرتين بعمق أكبر، ويصبح الوثائقي أكثر وثائقية على مستوى واقعية الصورة واختيارات المونتاج وعفوية الأحداث الموثقة، و الروائي الخيالي أكثر خيالًا. لكن رغم هذا، كنتُ مستمتعًا بمتابعة ما يحدث، بل وأعجبتُ بنجاح الفيلم في اكتشاف بعض اللحظات والعلاقات الجديدة بالنسبة لي. بعد دقائق بدأ انطباعي المبدئي في الاضمحلال، بزوال اهتمام الفيلم بهذه العلاقات، واعتماده خط «البحث عن الفيلم المفقود» كخط درامي رئيسي ووحيد، ليختفي التجريب تدريجيًا ومعه الألوان المشرقة، ويبقى البُنِّي والصمت، ويتحوّل من فيلم باحتمالات مفتوحة، لمشهد واحد يُعاد ويُكرَّر إلى ما لا نهاية، يعبّر فيه أشخاص لا نعرفهم، عن الجزع بخصوص شيء يفترضون أنني، كمشاهد، أشاركهم الاهتمام به. بكل صدق، وبعد مرور نصف الفيلم، أصبحتُ غير مهتم بالمرة بـ«الفيلم» الذي يبحث عنه الأبطال ودلالاته وإحالاته، بل وبدت قصة البحث بالنسبة لي خاوية وفارغة، لا تحدِّي حقيقي فيها، ولا شعور إنساني عام يمكنني الانخراط فيه. عند هذه النقطة، تجلّت أمامي وبوضوح كل عيوب الفيلم، من رداءة التصوير وفقر الخيال في اختيار الزوايا وتصميم الإيقاع. ومع غياب حدوتة متقنة، اختفى التواطؤ الذي كان يعميني عن مشاكل الصنع. إشكاليات صناعة فن عن «الفن» من المفهوم تمامًا، في بلد مثل مصر، وبسبب المعوّقات الكثيرة التي يواجهها الفنان من أجل إنجاز عمله، أنه من الصعب على المشتغلين بالفن، تجاهل الميلودارما المتعلّقة بشخصية «الفنان». فالتحدي الذي تواجهه صناعة الفن في مصر، من صعوبات إبداء الرأي وعدم الترحيب بخصوصية الصوت الفني، إلى جانب المشاكل الأهم، من صعوبات الإنتاج وإمكانيات التنفيذ، هي معضلات حقيقية، يصعب ألا تثير شهية الفنانين لصنع أعمالًا فنية عنها. بشكل شخصي، أكن احترامًا كبيرًا لهؤلاء الفنانين الذين يتمحور فنّهم، حول التساؤلات المحيطة بتجربة صناعة الفن، والمعطيات المكوّنة لشخصية الفنان ورؤيته لنفسه ولمحيطه. كما أنني أتفهم، أن سعي الشخصيات الرئيسية في فيلم «صيف تجريبي» للعثور على «الفيلم المفقود»، هو انعكاس لرحلة بحث صانعيه الشخصية المضنية عن فُرص لصناعة الفن. كان بإمكان الفيلم أن يكون عبارة عن تدفق للمحادثات والأفكار حول تلك القضية. لكن صانعيه تلاعبوا بتوقعاتنا كمشاهدين، وانشغلوا بالتأكيد على «اختلافه» من خلال طريقة السرد المراوغة، والنهايات المزيّفة المتعددة، والظهور المشوش لمخرج الفيلم نفسه داخل الفيلم. هدفت هذه الاختيارات الفنية، لتمييز الفيلم، عن الأفلام الوثائقية العادية، ولإعطائه بعدًا طموحًا وطليعيًا، ما وعدنا كمشاهدين بوعود برّاقة، لم يستطع الفيلم تلبيتها، بسبب فشله في خلق قناة اتصال بينه وبيني كمشاهد. في رأيي أن عملية صنع الفن مبنية في المقام الأول على الرغبة في إحداث تواصل بين الفنان والمشاهد. ومهما أبدى الفنانون النخبويون من تعالي على الشعبوية والجماهيرية، ومهما بذلوا من جهود لفصل فنهم عن الفن الشعبي المبتذل، يظل أقصى مرادهم في النهاية، هو إيصال فنهم لأكبر عدد ممكن من الناس. فإذا اعتبرنا «التواصل» قيمة سطحية، حسب ما فهمت، وأتمنى أن أكون مخطئًا، من اختيارات فيلم صيف تجريبي، إذن فليست هناك قيمة من «عرض» ومشاركة الأعمال الفنية من الأساس مع أي عدد. لذا فالإلمام بمفردات اللغة المستخدمة لصنع التواصل هو شرط أساسي لإنجاحه. وإذا كانت الثيمة الرئيسية للعمل الفني تدور عن غياب التواصل والفجوة بين صانع الفن ومتلقيّه، فتلك قصة تحتاج بالذات، من أجل إيصالها، لامتلاك المقدرة والرغبة على إحداث تواصل. التقييم الإنفعالي للأعمال الفنية ذكرني «صيف تجريبي» بمناقشة دارت بيني وبين بعض الأصدقاء حول فيلم إبراهيم البطوط الروائي الأول، «عين شمس» الذي لم أستطع إكماله من فرط شعوري بالاغتراب وعدم تصديقي لما يجري أمامي على الشاشة. قال لي أحد الأصدقاء أيوة بس الفيلم ده معمول بتلاتين ألف جنيه بس!، وكأن هذا في حد ذاته مبرر للإعجاب به، بغض النظر عن مدى نجاحه في التواصل مع حواسي. هذه الطريقة المهتمة بسياق العمل أكثر من اهتمامها بلب العمل نفسه، هي في رأيي، مرض عضال في الوسط الفني المصري، بل في العقل المصري عمومًا. فالتقييم الانفعالي المبني على الخبرة الشخصية، والمتأثر بطبيعة العلاقات التي تربط الفنانين ببعضهم، يؤدي أحيانًا لعكس المراد منه. فبينما يحتاج صانعو الأفلام للفت نظرهم لمشاكل تقنية في عملهم، كأن يقال لمخرج معيّن أن لقطاته المتوسطة تأتي في التوقيت الخاطئ، أو أنه يحتاج لتطوير أدواته في توجيه الممثلين، لا يتلقى أيًا منهم نقدًا حقيقيًا وموضوعيًا ما يدفعهم للغرق في علاقات إشكالية مع فنهم، ويحرمهم من فرص حقيقية لتطويره. وبسبب أن تخوفهم من السينما التجارية، خلق حاجزًا نفسيًا بينهم وبين احتراف حرفة الحكي والحدوتة الخيالية المضفرة، وأن تعرضهم لإطراءات مبالغ فيها، أو هجمات عنيفة، يعود عادة لدوافع شخصية وغير فنية، ارتبكت علاقتهم بكل من الجمهور والنقد، ما انعكس على أعمالهم المغرِقة في الذاتية والتي تنضح جنباتها بعداوة مضمرة للجمهور. تتجلّى هذه المشكلة بوضوح في فيلم صيف تجريبي، فهو فيلم متمحور حول ذاته، غير مهتم بالتواصل مع الجمهور، يركّز فقط على الإحساس الدفين بالظلم والرفض لدى الفنان. وهو وإن كان شعور جدير بالاحترام، فإنه لا يأخذ في اعتباره، أن الحياة بها انفعالات أخرى، بالإضافة إلى أن تجارب الفنانين أنفسهم مليئة بمشاعر كثيرة نادرًا ما نراها حاضرة في أعمالهم. أهمية السينما المستقلة في الخروج من أسر الدولة أكثر ما شدني للسينما المستقلة والإنتاج السينمائي المنفصل عن سيطرة شركات الانتاج العملاقة ووصاية الدولة؛ هو محاولات الاستقواء والمشاغبة. فلأن كل كل تجربة يمر بها الإنسان في مصر مع المحيط العام، تزرع داخله بالتدريج شعورًا بقلة الحيلة، ولأن كل أمل أو طموح يصطدم عاجلًا أم آجلًا بأمور كالتجنيد الإجباري، رفض فيزا، منع من الرقابة، تأتي عبقرية السينما المستقلة في رأيي، بعثورها على وسيط تقني، تستطيع من خلاله، خلق حالة تحرر صادمة من هذه القيود التي لا يرى المصريون لأنفسهم وجوداً خارجها. كاميرا ديچيتال رخيصة، وقصة مثيرة، وبعض الشباب الذي يجيد الكلام، يمكنهم صنع فيلم يراه الناس ويسألون أنفسهم كيف صنع هؤلاء الشباب هذا!. هذه هي الرسالة الأقوى في رأيي والأهم. مشاهدة فيلم مستقل متقن التنفيذ هي رسالة لكل الناس أن أي شيء ممكن، وأننا قادرون لو أردنا. لهذا تشن أجهزة الدولة حربًا على صناعة السينما المستقلة، ولهذا يعاني فيلم مثل «أخضر يابس» لمحمد حمّاد في الحصول على تصريحات للعرض رغم الحفاوة التي قوبل بها في كل مهرجانات العالم. وللسبب نفسه يخوض فيلم «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد؛ معركة شبيهة وأكثر ضراوة مع الرقابة. ليس لأنها أفلام ثورية محرّضة أو صادمة، لكن لأنها أفلام متقنة الصنع، تقوّض القناعة المصرية بالفشل والعجز. هي أفلام استطاعت تحقيق ما أرادته، بطريقة متقنة للغاية، وفي انعزال تام عن السلطات الرسمية أو القوى الإنتاجية الضخمة. هذه الأفلام قادرة، إذا عرضت وعرف الناس قصتها وتحت أي ظروف صُنعت، على أن تكون ملهمة لتجارب أخرى للاستقلال الفني، بل ولفكرة «الاستقلال» عن الدولة بشكل عام. أقتبس من حماد وأقول أن نجاح أي فيلم هو فقط أن يُصنع. وأضيف أن أي رد فعل عليه، لا ينتقص بالضرورة من كونه «صُنع» لأن هذا في حد ذاته، شيء أشبه بالمعجزة. فيلم «صيف تجريبي» في رأيي لم يُدرك معجزته الخاصة، فتبنّى بكائية خجولة عن حياة الفنان وصدّر شعورًا بالعجز، منعه من الاستفادة من نقاط قوته ولغته الخاصة. إذا لم تجد أفلام مثل «صيف تجريبي» طريقة أخرى لتناول مجتمع الفنانين ومأساة الفنان غير القادر على تحقيق ما يريد؛ فهي في الحقيقة ترسّخ في ذهن الكثيرين نفس الرسالة التي تنفق الدولة ملايين الجنيهات من أجل إرسائها، وهي أنّنا لا نستطيع، كما تشارك بنفسها في تعلية السور الذي يفصلها عمن حولها، ويغرقها في عُزلة أكبر. الأفلام التي تؤمن أن مشكلتها مع الجمهور تكمن في انشغالها بقضايا عصيّة على استيعاب المواطن العادي، تضع نفسها في خانة شديدة الخطورة، لأنها بذلك تبني تصوراتها عن قطاعات عريضة من البشر بمنطق طبقي وعنصري، يُجردهم من أهليتهم لمجرد فشلهم في التواصل مع «فنهم». بكل تأكيد، لا أعتقد أن هذه هي الطريقة التي ينظر بها صناع فيلم «صيف تجريبي» لأنفسهم أو للجمهور، كما أنني لا أدافع عن تبني الشعبوية ومداهنة الذوق العام ومجاراة مقتضيات الترفيه كحل وحيد. لكنني أعتقد أن الفن الذي يَطمح لأن يتبوأ مكانة مميزة، وأن يترك تأثيرًا ملفتًا، لابد أن يفصل نفسه عن الأطر المهترئة القديمة، والمسمّيات الجزافية التي تضع حدودًا عريضة بين ما هو «نخبوي» و«شعبوي» و«فهلوي». الحياة أكثر رحابة الآن، ونحن في زمن آخر. يُعرض فيلم صيف تجريبي في سينما زاوية حتى يوم ١٧ أكتوبر. أكثر من ٦ سنوات فى مدى مصر

ذكر فى هذا الخبر