مدى مصر

في حبّ ميرفت أمين (تدوينة) عمر خليفة ٢ سبتمبر ٢٠١٧ في أحد مشاهد فيلم حسين كمال الشهير «ثرثرة فوق النيل»، والقائم على رواية نجيب محفوظ، تكتب الصحفية سمارة (ماجدة الخطيب) تأملات حول سائر شخصيات الفيلم، ومنها الفتاة سناء التي تصفها سمارة بكونها «الجيل الضائع. لا ثقافة ولا تربية». ورغم المسحة الأخلاقية الرجعية التي غلفت رسم شخصية سناء في الرواية والفيلم، وربطها بين التحرر الجنسي والضياع، فإن تلك الجملة تلتقط شيئًا هامًا، ليس عن سناء، وإنما عن الفتاة التي جسّدت شخصيتها في الفيلم ميرفت أمين. كان ذلك من أوائل الأفلام التي ظهرت فيها ميرفت أمين، والتي ساهمت في ترسيخ صورتها الطاغية في سبعينيات القرن الماضي. ميرفت هي الجيل الضائع، سينمائيًا وقوميًا ومجتمعيًا. ماذا ستفعل أجيال من الممثلات المصريات بعد فاتن حمامة وسعاد حسني؟ ماذا ستُبقي لهن نكسة ٦٧؟ فاتن حمامة وزميلاتها لم يكنّ ممثلات فقط. كنّ مجازات واستعارات لأشياء أبعد من فيلم هنا أو مشهد هناك. ذاك زمن لم يكن فيه ربط المرأة بالوطن مكررًا ومألوفًا لحد الابتذال كما هو الحال الآن. مصر امرأة، كما يشير كتاب الباحثة الأمريكية بيث بارون. المصريون، كبعض الشعوب الأخرى، تخيلوا وطنهم امرأة؛ أمًّا في أحيان كثيرة، وحبيبة أيضًا، منذ ثورة ١٩١٩ وما تلاها. انعكس تأنيث الوطن هذا على علاقة المصريين (والعرب) بالشخصيات النسائية العامة، ومنها نجمات السينما. لم يكن التقسيم الساذج الذي شاع في السينما المصرية، بين القديسات (وعلى رأسهن فاتن) ونجمات الإغراء كهند رستم وهدى سلطان، مجرد مسألة أخلاقية، فطبيعة الأدوار التي أسندت لفاتن غلب عليها الضعف ومسكنة الأنثى التي تحتاج لرجل كي يحافظ عليها ويحميها. ومن يقرأ التعليقات التي رافقت عرض فيلم صلاح أبو سيف «لا أنام» في دور السينما المصرية، والذي كسرت فيه فاتن صورتها العامة، يفاجؤه رد فعل الجمهور الغاضب على دور فاتن في الفيلم، الجمهور الذي يكشف عن مماهاة كبيرة بين فاتن حمامة الحقيقية وأدوارها على الشاشة. فاتن هي مصر كما يريدها أغلب المصريين؛ لا تَخْدِش ولا تُخْدَش. جاءت سعاد حسني طبعًا، وأحدثت ما أحدثته من معان في الوطن المرأة في ستينيات القرن الماضي، مما لا يسع المجال لذكره هنا، لكن نكسة ٦٧ أجهضت ذلك التطور الطبيعي لحضور المرأة السينمائي وتعقيده. النكسة قتلت مصر، وكسرت زعيمها التاريخي. وإذا كان الوطن الحقيقي ذاته ضائعًا، فأي امرأة تلك التي سيماهيها به الناس؟ الأثر الإيجابي للنكسة على السينما المصرية كان أن تحررت المرأة من أن تكون رمزًا. المرأة في السينما المصرية في السبعينيات هي المرأة فقط، وبالنسبة لي، هي ميرفت أمين. في أفلام السبعينيات كان على ميرفت أن تحضر على الشاشة فقط كي يبدأ إغواؤها وسحرها. ليس ثمة سرد يبرّر انجذاب الرجال لها. لا قصة حب تنمو وتتطوّر. تفتح ميرفت الباب وتدخل كي يشهق الممثل الذي معها، ويشهق معه الجمهور. فتنتها أراحت المخرجين وكتاب السيناريو من تطوير الأحداث وتعقيدها. خلافًا لنجلاء فتحي التي أعادت تمثيل أدوار الخمسينيات القائمة على قصص حب مستحيلة يتخللها عذاب الفراق والشوق والانتظار، فإن ميرفت كانت العنوان الفوري لعلاقة ملتهبة لا مجال فيها سوى لجسدها الأخاذ كي يفرض حضوره الذي لا يقاوم على من أمامها. تجسد ذلك المشاهد الأولى التي تظهر فيها في أفلامها. في «الحب تحت المطر»، تدخل الاستديو فيترك الممثل خطيبته لأجلها. في «ثرثرة فوق النيل»، تظهر في أول مشاهدها فيلغي أحمد رمزي جلسة التصوير ويصطحبها للبيت. تقتحم مكتب محمود ياسين في «غابة من السيقان» فينتهي كل شيء. وحتى في أدوارها الأكثر براءة في «أبي فوق الشجرة» و«الحفيد»، فإن الفيلم يبدأ بعد قصة الحب، لا قبلها. أية قصة هذه التي ستبرّر انجذاب الرجال لميرفت؟ محظوظة ميرفت أمين. هي ليست استعارة ولا مجازًا لشيء. لا تصلح لأن تكون «مصر» ولا سواها. لا تعيش لغيرها في السينما. ميرفت شيطان وملاك معًا، تقفز من صورة لأخرى بسهولة كسهولة الزمن الذي أنتجها. لا تحمل على عاتقها تمثيل أمة. هي الجيل الضائع السعيد بضياعه. أدوارها ذاتية جدًا، رديئة في أحيان كثيرة وجيدة في أحيان أخرى، لكنها فيها كلها ميرفت أمين. وعلى عكس فاتن حمامة التي أبحث في أدوارها عن رموز أخرى خارجها، فإنني في أدوار ميرفت أمين لا أبحث إلا عنها هي فحسب. في «ثرثرة فوق النيل» و«أنف وثلاثة عيون» و«الحفيد» و«غابة من السيقان» و«أعظم طفل في العالم» و«السلم الخلفي» وغيرها، من الصعب أن أتابع الدور ذاته. من الصعب أن تكون ميرفت أمين شيئًا آخر سواها. حضورها الأنثوي الرهيب يخنق تلك المسافة المطلوبة بين المؤدِي والمؤدَّى. لا أدري حتى اللحظة إن كانت ممثلة عظيمة أم لا. لا يعنيني في الحقيقة. فقط ميرفت أمين تعنيني . ميرفت امتحان خطير أمام التزام المرء بأفكار تقدمية هامة قدّمتها لورا ميلفي وسواها حول ما يسمى بـ«تلصص الرجل» و«المتعة البصرية». تعاملت السينما في أغلب مراحلها مع جسد المرأة من منظور الرجل المخرج، الذي كانت كاميراه تتلصص وتدعو المشاهدين لمشاركتها التلصص على جسد المرأة. وتحرر المرأة سينمائيًا هو، في جزء أساسي منه، تحرر من هيمنة المتعة البصرية الذكورية التي تسيطر على الإنتاج السينمائي في العالم. ماذا نفعل مع ميرفت أمين إزاء كل هذا؟ أين نضع الخط الفاصل بين عشق الجسد وتشييئه؟ فيلم «أعظم طفل في العالم» مثلًا تلصصي بامتياز، وهو واحد من أردأ ما أنتجته السينما المصرية. هذه نقطة. لكن النقطة الثانية أنني ممتن لكل لحظة ظهرت فيها ميرفت أمين في هذا الفيلم. المشاهد ذاته يتلصص على كاميرا المخرج الذي يتلصص على جسد ميرفت هنا، يحاول أن يسرق منه الهواء الذي يلفها، يريدها له وحده، يريد القبض على رائحتها، أن يسكن بين نهديها وهي تعريهما وتقبض عليهما في لقطات قلَّ مثيلها في السينما المصرية. رغم كل هذا لم تُصنَّف ميرفت كنجمة إغراء، على غرار ناهد شريف وشمس البارودي، وحتى في شبابها لم تصل لأن تكون فتاة غلاف كبرى كنجلاء فتحي ومديحة كامل. ثمة شيء خاص بميرفت، شيء يحجبها حتى في أشد لحظاتها فتنة، ربما لهذا تواصل العين البحث عنها حتى وهي أمامنا. قد يكون صوتها الخافت الذي تحتاج أحيانًا للاقتراب من الشاشة كي تسمعه. يغيظني صوتها أحيانًا. أشعر أنه لا يعنيها وجودنا كمشاهدين. هي لا تتحدث إلينا. لا تقف أمام الكاميرا لتقول شيئًا. جسدها نص ناطق. لا تحاول أن تغري أحدًا. هي تكون ذاتها فقط. ليس ذنبها أن تكون ميرفت أمين. كيف تحمَّل المخرجون رؤيتها؟ كيف تعاملوا مع جسدها بتلك الاعتيادية التي تسمح لهم بتوقيف المشهد مرارًا وتكرار تصويره؟ اشرح ما يلي ميرفت أمين. التنورة التي تلتف على المؤخرة والفخذين. قلم الحمرة التي يصطك خائفًا بشفتيها. بقية اللعاب على شفاه الممثلين الذين قبلوها. المسافة التي تفصل بين ركبتيها والشورت الذي ترتديه. الجزمة التي ارتدتها في «أنف وثلاثة عيون». راحة يديها حين تلتف على أعناق عشاقها. الخاصرة التي ضغط عليها محمود ياسين. الأظافر المطلية بالأحمر التي اعتصرها أحمد رمزي. كل شبر فيها. كلُ كلٍ فيها. أهم أفلام ميرفت أمين هي تلك التي لم تكن فيها ميرفت أمين. تلك التي لم يكن جسدها محور العالم السردي للفيلم. منحها تقدمها في السن في الثمانينيات وما بعدها فرصة عظيمة سينمائيًا، قلَّل من وهجها، خفف من سطوة صدرها وفخذيها. ما اجتمع جسد ميرفت أمين ونص إلا وكان التلصص ثالثهما. وحين غاب التلصص ظهرت أفلام مثل «زوجة رجل مهم» و«سواق الأوتوبيس» و«الأراجوز»، رغم أن ميرفت لم تكن البطل الأساسي فيها. أفلام هامة طبعًا، لكن المشاهد، في جزء خفي منه، يحنّ إلى ميرفت الأخرى، وربما تكون ميرفت ذاتها تحن إليها. كسبنا سينما، لكننا خسرنا ميرفت أمين. ثمة مشهد معبر في فيلم «غابة من السيقان». يحاول محمود ياسين عبثًا الهروب من سطوتها. يواعدها في النادي وهو متردد، ويخرج مصممًا ألا يراها في اللحظة التي تدخل فيها هي لحديقة النادي. تدرك هي ما يحدث داخل عقله. تقف أمامه بعنفوانها، وهو واقف أمامها كأبله، وتسأله «واقف ليه؟ مش كنت خارج؟ مش كنت هربان؟ ما تهرب.. حد ماسكك؟» ثم تجرُّه من يده. المخاطَب في المشهد ليس محمود ياسين فقط، بل نحن. تتحدانا ميرفت أمين. تراهننا على أن نغمض أعيننا أمامها. أن نهرب من ظلالها. أين نهرب حين نهرب؟ هذه ليست سينما. ليست تمثيلًا لواقع ما. ميرفت تكون، وعلى الكل أن يتعامل مع هذا الواقع الجنوني، تمامًا كما تعامل معه محمود ياسين في الفيلم. «ما تهرب.. حد ماسكك؟» أجل يا ميرفت، ثمة شيء يمسكنا، شيء لا ينفع معه هدم الجدار لبريخت ولا نظريات أرسطو التطهيرية. لا نشاهد ميرفت لنخاف أو نحزن أو نشعر بالسعادة. نشاهد ميرفت كي نشاهدها، فقط.
في رفح.. مدينة الدماء والرحيل مراد حجازي ٣٠ أغسطس ٢٠١٧ مع نهاية يوليو الماضي، انتهت حملة أمنية سيطرت خلالها قوات الجيش على مدينة العريش طوال أسبوعين، عانى خلالها سُكان المدينة من أوضاع شديدة السوء، مليئة بالمعاناة والدماء، وبانتهاء الحملة عادت الاتصالات التي انقطعت طوال الحملة للعمل بشكل جزئي في مدن شمال سيناء الثلاث الكبرى؛ العريش والشيخ زويد ورفح، إلا أنها كانت عودة دامت أيامًا قليلة فقط. وذلك قبل أن تنقطع مرة أخرى عن المدن الثلاثة. مع انقطاع الاتصالات مرة أخرى، توقع سُكان العريش أن تعود الأيام العصيبة مع حملة جديدة، إلا أن الحملة واﻷوضاع السيئة والمعاناة والدماء كانت من نصيب آخر المدن المصرية على الحدود الشرقية؛ رفح. *** يقطن في مركز رفح والـ ١١ قرية التابعة له أكثر من ٨١ ألف نسمة، بحسب آخر إحصاء رسمي، يعود لعام ٢٠١٦، على موقع محافظة شمال سيناء. تناقص العدد بشكل كبير، في السنوات اﻷخيرة، خاصة مع موجات النزوح التي بدأت في نهايات ٢٠١٤، وذلك مع بداية إخلاء الدولة لمنطقة عازلة بعمق ١٠٠٠ متر، في اﻷراضي المصرية المتاخمة لقطاع غزة، وهي العملية التي تم خلالها هدم ٢١٠٠ منزل. ظروف الحياة في مدينة رفح عصيبة بشكل واضح؛ يقول عدد من السُكان إن إمدادات المياه لا تصل نهائيًا إلى أحياء المدينة منذ ثلاث سنوات، فضلًا عن النقص الحاد في مستلزمات المعيشة والمواد الغذائية والخضروات، والتي ارتفعت، مؤخرًا، أسعارها بصورة مبالغ فيها. وصل سعر صفيحة السولار، على سبيل المثال، إلى ٤٠٠ جنيه، وهي الوسيلة التي يعتمد عليها اﻷهالي في توليد الكهرباء لعدد ساعات محدود خلال اليوم. يحاول الأهالي تعويض استمرار انقطاع التيار الكهربائي بالكامل طوال ٦٠ يومًا عبر المولدات. وفيما تشهد رفح، والشيخ زويد، فرضًا لحظر تجوال، منذ أكتوبر ٢٠١٤، ويبدأ في الخامسة مساءً وحتى السادسة من صباح اليوم التالي، يطلب اﻷهالي من السلطات السماح بمرور اﻷغذية، خاصة ألبان الأطفال والدقيق، إلى المدينة. *** في العاشرة من صباح الأحد، ٢٠ أغسطس الجاري، عُزلت مدن شمال سيناء الثلاثة؛ رفح والشيخ زويد والعريش، عن العالم لمدة زادت على ٤٨ ساعة، إثر انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت بشكل مفاجئ. في البداية حاول الأهالي معرفة ماذا يحدث، ليتبيّنوا بعد ذلك أن حملة أمنية كبيرة تستهدف رفح. أغلقت جميع الطرق المؤدية للمدينة بسواتر رملية. وأصبح دخول المدينة أو الخروج منها ممنوعًا إلا بالسير على اﻷقدام. يقول «أبو محمد»، أحد سكان رفح، لـ «مدى مصر» إنهم فوجئوا مع بداية يوم ١٩ أغسطس بقيام قوات الأمن بإغلاق الطريق الفرعي، والوحيد، للدخول والخروج من مدينتهم رفح. جرى وضع ساتر ترابي كبير بالقرب من منطقة «ياميت»، في قرية أبو شنار. يشير أبو محمد إلى أن الطريق الدولي الرئيسي مُغلق في وجه اﻷهالي وسياراتهم منذ عام ٢٠١٤. لا تسير عليه سوى الحملات العسكرية أو الأقوال الأمنية أو القوافل الرسمية. يصبح الطريق الفرعي القريب من أبو شنار، القريبة بدورها من ساحل رفح، هو الحل الوحيد للوصول للمدينة. لكن مع الحملة الأخيرة أغلق هذا الطريق نهائيًا. طالت الحملة كل قرى وأحياء مدينة رفح، وبحسب أبو محمد، كان انتشار قوات الجيش على الأرض بشكلٍ غير مسبوق، بداية من ساحل رفح وحتى قرى جنوبها. نقطة الارتكاز الرئيسية للحملة كانت في «أبو شنار» ما أقلق أهل المنطقة، ليقوم عدد كبير منهم بجمع أمتعته والرحيل بعيدًا عن منطقة العمليات خوفًا على أرواحهم. *** لم ينتظر اﻷهالي كثيرًا، ما خافوا منه بدأ في الحدوث سريعًا، في يوم الثلاثاء، ٢٢ أغسطس، سقطت قذيفة مجهولة المصدر على منزل في قرية نجع شيبانة، لتقتل أسرة كاملة من قبيلة الريشات؛ أم عمرها ٤٥ عامًا، وابنتيها (عامان ونصف، و١٤ عامًا). بعدها، وإثر قذيفة أخرى مجهولة المصدر، قُتل شاب وأصيب آخر على أطراف مدينة الشيخ زويد، وأنهت طلقات نارية طائشة حياة شاب آخر في منطقة ياميت برفح. *** في يوم ٢٣ أغسطس أصبحت رائحة الدماء أكثر حضورًا. قررت أربع أُسر في قرية «نجع شيبانة»، جنوبي رفح، أن تتجمع في منزل واحد؛ هربًا من الاشتباكات والحرب المحيطة بهم، إلا أن قذيفة مجهولة المصدر سقطت على المنزل لتنسفه بالكامل مخلفة ٢٤ قتيلًا ومصابًا. أسفر الحادث عن إصابة ١٦ شخصًا؛ ٥ سيدات، وطفلتين كل منهما عمره ١٣ عامًا، وتسعة أطفال دون العشر سنوات، والذين تمّ نقلهم جميعًا إلى مستشفى العريش، التي أكد مصدر من داخلها أن مَن لم يدخل غرفة العمليات من اﻷمهات والسيدات رقد في غيبوبة، فيما بقى اﻷطفال بمفردهم في غرف المستشفى، وبعد يوم واحد توفى طفلين منهما (٣ و١٠ سنوات)، فيما تمّ تحوّيل بعض الحالات إلى مستشفيات خارج شمال سيناء، وتكفل بعض «أهل الخير» بعلاجهم. أحد سُكان القرية، طَلَبَ عدم ذِكر اسمه، قال لـ «مدى مصر» إن ثمانية أشخاص جميعهم سيدات وأطفال، قتلوا في الحال إثر سقوط القذيفة. لم يُنقلوا إلى المستشفى، ودفنهم اﻷهالي في القرية. أكد المصدر أن معظم الأقارب الرجال للقتلى الثمانية معتقلين بالفعل لدى قوات اﻷمن، فيما هرب آخرون من الملاحقات اﻷمنية التي تطال شباب ورجال المنطقة. مصدر آخر في القرية أكد على أن قوات اﻷمن أمرت جميع سُكان القرية بالرحيل الفوري منها. في حين لم يتمكن بعضهم حتى من جمع أمتعته، وبقت القرية خاوية. *** بعد موجات النزوح اﻷولى، في أواخر ٢٠١٤، كانت قرية «الطايرة»، جنوبي رفح، بمثابة ملاذًا لكثير من الأهالي الذين رفضوا مغادرة المدينة كليةً، ليستقروا في القرية الصغيرة آملين أن تكون أكثر أمانًا لهم وﻷسرهم. ولكن في يوم ٢٦ أغسطس تبددت كل أحلامهم في الاستقرار، وصاروا مجبرين على الرحيل من القرية إلى المجهول. يتذكر أحد سكان القرية الراحلين ما جرى قائلًا «حضرت قوات الجيش إلى المكان، وطالبت عدد من السكان بإخلاء منازلهم، لإنشاء كمائن أمنية في محيط القرية، وأمهلتهم ثلاثة أيام، أما باقي الأهالي فقرروا الرحيل النهائي، خوفًا من البقاء في محيط الكمائن الأمنية وما يصاحبها من اشتباكات ورصاص عشوائي». بحسب ساكن «الطايرة»، الذي غادرها الآن، رَحَلَ بعض اﻷهالي تاركين خلفهم كل شيء، وذلك بسبب صعوبة الخروج باﻷمتعة، فضلًا عن تكلفة سيارات النقل، والتي وصلت إلى ١٧٠٠ جنيه من رفح وحتى الإسماعيلية. بينما لا يزال معظم أهل القرية عالقين فيها، بسبب عدم قدرتهم على حمل أمتعتهم ومتعلقاتهم وأثاث منازلهم، بعد إغلاق الطرق الواصلة من قريتهم وحتى الطريق الفرعي الوحيد. شاهد عيان آخر من سُكان رفح قال إن اﻷهالي كانوا يحملون ما يستطيعون من أمتعتهم وأثاثهم في السيارات، التي تمنَع قوات الأمن مرورها حين يصلون إلى الحاجز الترابي، ما يضطرهم لإنزال اﻷمتعة واستئجار عربات كارو لنقل تلك اﻷمتعة إلى الجانب الآخر على مراحل. بحسب ساكن «الطايرة»، الذي غادرها، كانت مدينة الصالحية ومحافظة الإسماعيلية عمومًا هي الوجهة الجديدة لمعظم الأهالي الراحلين، خاصة مَن يعملون منهم في الزراعة، أملًا في الالتحاق بأقاربهم المقيمين في أراضيهم الزراعية هناك، وهروبًا من الملاحقة اﻷمنية التي تطال أهالي رفح والشيخ زويد في أي مكان داخل شمال سيناء. بحسب عديد من المصادر المحلية التي تحدثت لـ «مدى مصر»، فقد استقر لدى أهالي رفح هاجس أن الدولة تحاول بشتى الطرق دفعهم للخروج من قراهم ومدنهم وترك سيناء بالكامل، وهو الهاجس الذي يتأكد لديهم أكثر في ظل تردي اﻷوضاع المعيشية في رفح والشيخ زويد والعريش، واستمرار «الحرب على الإرهاب» منذ أربع سنوات دون أن تبدو لها نهاية قريبة، خاصة مع زحف العمليات الإرهابية من مدينة إلى أخرى. وفيما استنكر اﻷهالي فصل شبكات الاتصال والإنترنت عن مدن شمال سيناء مع كل حملة أمنية، أكدوا أن شبكات الاتصال المصرية لا تعمل في مدينة رفح بالكامل، سوى في مناطق ضيقة جدًا على ساحل المدينة، فيما يستقبل الهاتف المحمول ﻷي شخص يدخل المدينة للمرة اﻷولى رسائل ترحيب من شبكات الاتصال الإسرائيلية، التي تعمل، بمفردها، في رفح. البعض اﻵخر من السكان رأى أن الدولة تحاول التهرب من مسؤوليتها في دفع تعويض لمَن يخلي منزله، على غرار ما حدث وقت الإعلان عن إقامة منطقة عازلة بعمق ١٠٠٠ متر، والتي طالبت الدولة سكانها بشكل رسمي بالإخلاء، على أن تدفع لهم تعويضات. كان إبراهيم محلب، رئيس الوزراء السابق، قد أصدر في أكتوبر ٢٠١٤ قرارًا بإخلاء ٥ كيلومترات في مدينة رفح، وألزم القرار، في مادتيه الثانية والثالثة، الدولة بتوفير مساكن بديلة وتعويضات لمَن يترك منزله في تلك المنطقة. من الكيلومترات الخمس، تمّ إخلاء كيلومتر واحد فقط رسميًا، وتمّ تعويض قاطنيه بقرابة ٦٥٠ مليون جنيه، بحسب بيانات محافظة شمال سيناء، وهو ما لم يحدث مع مَن رحلوا من باقي المدن التي تشهد حربًا على الإرهاب. كانت الإحصائية الرسمية الوحيدة الخاصة بتعداد النازحين هي تلك المُعلنة من محافظة شمال سيناء في أواخر أغسطس ٢٠١٦، والتي قدرت النازحين بـ ١٢ ألفًا و٨٦١ فردًا، موزعين على ٦٨ تجمعًا في مدن العريش، وبئر العبد، والحسنة، بإجمالي ٥٣٢٤ أسرة. *** على طول الطريق الدولي «العريش القنطرة» تتناثر عشرات العشش على جانبي الطريق، جميعها يقطنها نازحون، تركوا منازلهم ومزارعهم وقراهم في رفح والشيخ زويد منذ أواخر ٢٠١٤، بعد زيادة حدة الاشتباكات بين القوات المسلحة وبين ما يعرف بـ «تنظيم ولاية سيناء»، وهو النزوح الذي لم يتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. ساكن «الطايرة» الراحل عنها وصف فكرة النزوح بـ «العصيبة والقاسية»، وقال «إحنا البدو ارتباطنا باﻷرض اللي اترعرعنا فيها وثيق جدًا، صعب ننفك عنها»، وأضاف «أصعب حاجة إنه ييجي اليوم اللي تنقلع فيه من جذورك». أما ساكن مدينة رفح الذي كان شاهدًا على لحظات رحيل أهلها، وصف الساتر الترابي الذي أقامته قوات اﻷمن على طريق دخول المدينة بأنه كان حاجز يفصل ما بين الذكريات في المدينة، والمستقبل المجهول غربًا. فيما تبقى عبارة «راجع يا رفح» مستقرة على جدار منزل بمدينة شبه خاوية، لم تعد تعرف إلا الرحيل.
نجيب محفوظ.. انتصار الدراما وشخصيات أهلكها البحث رامي وفا ٣١ أغسطس ٢٠١٧ «الحقيقة بحث وليست وصول» أول دروس بناء الشخصية التي يتعلَّمها دارسو الدراما هي ألا تكره بطلك أبدًا، فمعنى هذا أنك لم تعرفه جيدًا بعد، فكل إنسان يجد لأفعاله، مهما كان سوءها، مبرِّرًا أو حكمة تقف وراءها، وفي أسوأ الأحوال يراها رد فعل لظلمٍ ما يتعرض له. بهذا التناقض تصبح للشخصية أبعاد حقيقية وتزداد تعقيدًا. هذا التعقيد في بناء الشخصيات هو ما يخلق الدراما ويحرِّك الأحداث. وما ينطبق بالطبع على كراهية كاتب الدراما لشخصياته ينطبق كذلك على التعلق بها. كان نجيب محفوظ أستاذًا في بناء شخصياته، ما يجعل إطلاق الأحكام السهلة على أبطاله مستحيلًا، وما يضع بدوره قارئه في حالة شك دائمة؛ هل يكره اللص سعيد مهران أم يتعاطف مع مأساته؟ هل يحتقر محجوب عبد الدايم أم يقدّر ظروفه؟ هل يحترم لهاث عثمان بيومي وراء المنصب أم ينعته بالحمق؟ تدفع حالة الشك هذه القارىء للبحث عن ذاته. وكلمة «البحث» هذه ترتبط في ذهني بأدب محفوظ، فهي كلمة السر في خلق شخصياته. في هذا المقال، أحاول استعراض ثلاثة من أبطال رواياته، يفتِّش كل منهم عن شيء يفتقده، إما بشرف أو بارتكاب الحماقات أو حتى بالتسوّل، لكن ما يجمعهم هو حالة البحث الدائمة هذه، والتي تدفع بثلاثتهم نحو اكتمال مأساتهم. ١ عُمر حمزاوي.. البحث عن النشوة «نشوة الحب لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر» عمر حمزاوي الشحاذ عمر حمزاوي بطل رواية «الشحّاذ»، محام لامع في الخامسة والأربعين من العمر، أصابه الداء الذي ليس له دواء بتعبير المفكر جورج طرابيشي. يكتشف فجأة فراغ حياته من المعني، فيفقد رغبته في العمل، ويُصاب بالسأم بعد أن يكون وصل لكل شيء أراده. هنا تبدأ الأسئلة الكبيرة في الظهور. يذهب لطبيبه الخاص، ويلخِّص مأساته له قائلًا «ليس تعبًا بالمعنى المألوف، يُخيّل إليّ أني لا زلت قادرًا على العمل ولكني لا أرغب فيه. لم تعد لدي رغبة فيه على الإطلاق، تركته للمحامي المساعد في مكتبي، وكل القضايا عندي تؤجل منذ شهر، وكثيرًا ما أضيق بالدنيا، بالناس، بالأسرة نفسها، فاقتنعت بأن الحال أخطر من أن أسكت عنها، وكما هو الحال في كل مرض، يحلو للمريض أن يتصوّر أن له سببًا عضويًا ويأمل أن يجد له علاجًا بحَبّة بعد الأكل أو ملعقة قبل النوم.» حمزاوي الذي كان مناضلًا وشاعرًا وثائرًا، تحول مع الوقت لمحام لامع مشهور شديد الثراء؛ لقد ترك كل ما أحبّ خلف ظَهره، الشعر والثورة والنضال السياسي لم يعودوا عليه بالنفع، فقرر مثل الكثيرين أن يهجر ما لا ينفعه، وأن يحقق انتصارات ملموسة في واقع الحياة مهما كان ثمنها. واليوم يستيقظ حمزاوي من النوم ليكتشف عطبًا في روحِه؛ عطبًا بالكاد يستطيع وصفه للطبيب، الذي لا يمتلك له غير إجابة «الدواء الحقيقي بيدك أنت وحدك». ولأن الأشياء تُدرَك من نقيضها، فكان لأصدقائه دور في إبراز تركيبته المعقدة. هناك مثلًا عثمان خليل المناضل السياسي الذي يرزح في السجن منذ عقدين، والذي مع اقتراب الإفراج عنه، تبدأ الأعراض المَرَضية في الظهور على حمزاوي. أيضًا هناك مصطفى منياوي الذي تحوّل للعمل بالصحافة والتلفزيون، بعد أن كان شاعرًا وفنانًا شغوفًا. هذان الصديقان يمثلان جزءًا من ماضي حمزاوي الذي فرّ منه، بعد أن أعطى ظهره للشعر والنضال، ودهس روحه في طريق تحقيق ما رآه جديرًا به من شهرة وثراء واستقرار، قبل أن تستيقظ روحه فجأة لتسأله عن نفسها، ويبدأ رحلة طويلة في البحث عن دهشة جديدة تعيد إليه الحياة، أو نشوة واحدة تشتعل داخله دون أن تتحول لرماد. حمزاوي، الذي يستمع إلى نصائح طبيبه بالاستجمام في الاسكندرية وممارسة الرياضة وفقدان الوزن، يرسل لمصطفى صديقه قائلًا «أبشر يا عزيزي بأنني أتقدم نحو شفاء جسماني واضح، ولكنني أقترب في الوقت نفسه من جنون طفيف». يزداد جنون حمزاوي عندما يعرف أن ابنته بثينة تكتب الشعر خِلسة. تكتب قصائد رومانسية عذبة محيّرة، تُوقظ الحنين القديم في روحه، ليدرك أن علاجها يكمن في نشوة جديدة أو مغامرة تجدّد دمائها. ولأن مخزونه الروحي قد نَضِب، سواء كان كتابة أو قضية يناضل من أجلها، فلم يعد يمتلك في داخله أطواق نجاته، وصار يبحث عنها في الخارج، متسولًا معجزة تحركه وتُخرِجه مما هو فيه. ومن يتسوّل المعجزات كمن يتسول المال، كلاهما شحاذ. يبدأ حمزاوي، وهو المحامي المشهور، حياته في التسوّل في الملاهي الليلية. يتسول عشق كل امرأة يقابلها، فيتسول حب مرغريت المغنية، ثم يدير الدفة لوردة الراقصة. ولأنه لم يجد في ذلك نشوته، تطول رحلة بحثه عن ذاته، مدركًا أنه كلما انحلت ارتباطاته بالحياة وانفصل عنها، كلما اقترب من النشوة المرجوّة. أحس بذلك في لحظة خلاء في الصحراء، في نفس الوقت الذي كانت زوجته تضع مولودها فيه، كأنها مفارقة بين شخص يدخل للدنيا وآخر يخرج منها. وتتكرر هذه المفارقة عند خروج صديقه خليل من السجن للدنيا، ويقال له إن حمزاوي «تائه يبحث عن روحه»، فيرد في بساطة «أليس هو الذي أضاعها؟» حمزاوي الذي فقد اهتمامه بالشعر، وتخلى عن النضال السياسي، يقرّر أن يصبح خارج التاريخ؛ أن يتلاشى كأنه لم يوجد، بعد أن جرّب تسوّل النشوات بكل أشكالها، واكتشف أن حتى أعظمها، وهي نشوة الحب، لا تدوم. قرّر حتى بعد زواج عثمان بابنته بثينة، في ما يمكن أن نطلق عليه «زواج النضال بالشعر»، أن ينفي نفسه بنفسِه. وعندما تكتمل مأساته وتنتهي رحلته إلى لا شيء، يتذكر بيتًا من الشعر يقول «إذا كنت تريدني حقًّا فلمَ هجرتني؟» في أحد أعداد أخبار الأدب العام الماضي علمتُ من مقالٍ مطول للكاتب محمد شعير عن رواية «الشحاذ»، أن شخصية حمزاوي مستوحاة من شخصية الروائي عادل كامل والذي كان يومًا أحد أعضاء شلة الحرافيش وأكبرهم سنًا. أصدر كامل رواية وحيدة مبشرّة اسمها «مليم الأكبر»، لكنه ترك الكتابة فجأة، واتجه للمحاماة. وعندما سُئل عن سبب عزوفه عن الأدب أجاب «كان الأدب بالنسبة لي حياة، غاليتُ في حبه لدرجة العبادة وأقمته فوق منصة عالية من التقديس،‬ وكانت الصدمة قاسية، ‬مسرحيات لا يعبأ بها المسرح، ‬وروايات نضطّر إلي نشرها بمعرفتنا، ‬ولا يكاد يقرؤها أحد،‬ وأحسست أنني كعروس افتُتنت في زينتها فلما خرجت لملاقاة عريسها لم تجده، ‬ونظرتُ من حولي فوجدت الأدب في ذلك الوقت هو عمل من لا عمل له، ‬عمل العاجزين أو المنحلين من رواد المقاهي، ‬فعزّت عليَّ ‬نفسي أن يكون هذا مصيرها بينما أنا صاحب مهنة قضيت زهرة عمري في تلقّي أصولها، ‬ففعلت ما فعله الشاعر المصري القديم حسين الجزار حين ترك الأدب وفتح محل جزارة. ‬حين أقبلت علي هذه الخطوة كنت أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الأدب علامة مرض لا صحة، ‬وأن الإنسان الصحيح لا يفكر في امتهان الأدب، ‬وكنت أقول لنفسي هؤلاء جميعًا عجزوا عن النزول في تيار الحياة الخضم، ‬فقنعوا بالجلوس علي شاطئها يصفون الحياة من بعيد دون أن يعركوها.. ‬والآن، ‬بعد أن بارت المحاماة وبرت معها عدت كما عاد حسين الجزار ‘‬يا ليتني لا عدت جزارًا ولا أصبحت شاعرًا’... ‬فبعد سنوات من التوقف عن الكتابة حاولت أن أعود، ‬لكنني ‬اكتشفت أن قلمي قد صدأ، ‬وأن روحي لم تعد روح كاتب.»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ٢ عثمان بيومي.. البحث عن الاحترام «ما أشد حيرتي بين ما أريد وما أستطيع» عثمان بيومي – حضرة المحترم عثمان بيومي بطل رواية «حضرة المحترم» هو أكثر شخصيات نجيب محفوظ امتلاءً بالتناقضات. تبدأ مأساته عندما ينبهر بمنصب المدير العام؛ باتساع مكتبه وديكوراته وكراسيه. ينبهر بمكانته الرفيعة وباحترام الموظفين له، فيقرّر في داخله أن هذا هو ما يريده بالضبط، أن يصبح «المدير العام»، ولا شيء آخر. وفي سبيل ذلك، هو مستعد لبذل كل حياته للفوز بهذه المكافآة الكبيرة، التي سيصير بعدها «حضرة المحترم» في نظر نفسه. حضرة المحترم هنا ليس عثمان بيومي الشخص، بل هو المُسَّمى الوظيفي «المدير العام»، المُسَمَّى الذي سينقله إلى مكانة كبيرة يستطيع أن يستريح بعدها. تناقُض شخصية بيومي يتجلّى في كل شيء، فمع كونه يلهث وراء مكانة المحترم، ويفعل كل ما يمكن فعله ليصل إليها، نجده يشعر من حينٍ لآخر بألا معنى للحياة بأكملها، وأن «لا نجاة له إلا بالجنون، الجنون وحده هو الذي يتسع للإيمان والكفر، للمجد والخزي، للحب والخداع، للصدق والكذب، أما العقل فكيف يتحمل هذه الحياة الغريبة؟ كيف يشيم ألق النجوم وهو مغروس حتى قمة رأسه في الوحل؟» وفي موضعٍ آخر نجده يقول «كلّنا يتكلم عن الحياه بثقة كأنما يعرفها حق المعرفة. لولا وجود الله سبحانه وتعالى لكانت لعبة خاسرة لامعنى لها». تتحرك هذه العدمية جنبًا إلى جنب مع سعيه الحثيث إلى مكسب دنيويّ صغير مثل منصب المدير العام، ظنًا منه أن كل هذا الشقاء والألم الذي يتحمله في سبيل تحقيق حلمه، سيُمحى تمامًا عندما ينال مراده. لكن عثمان بيومي الذي كان يترقَّى في سُلمه الوظيفي يومًا بعد يوم، كان ينحدر في سلم الحياة بالمقابل. تزداد سِنُّه وتتضاءل فرصته في العثور على الحب، أو أن يكون له ابن. هو يريد أن يتزوج ولكنه يخشي أن يعطله الزواج أو ألا يعود عليه بفائدة مرجوّة، فكان يوصي دائمًا في رحلة بحثه عن عروس، بأن تكون عائلتها ذات حسب ونسب، قدوةً بمديره العام، الذي كانت زوجته السبب الرئيسي في النعيم الذي يعيشه. يزداد بؤسه وشقاؤه كل يوم، لكنه راضٍ مادام يقترب ولو بخطوة صغيرة من الهدف الأعظم. وحين يتزوج من سكرتيرته وبينهما فارق سن كبير، يفاجئه المرض الذي يجعله طريح الفراش وأقرب للموت منه للحياة. عندها فقط، يزوره وكيل الوزارة ليزف إليه نبأ ترقيته لمنصب المدير العام. وصل عثمان بيومي أخيرًا لما أراد، حقق حُلمَه الأعظم الذي قدَّم من أجله كل ما يمكن من تضحيَّات، لكنه في هذه اللحظة طريح الفراش، عاجز عن مغادرته والذهاب لتسلُّم وظيفته الجديدة، هذه هي لحظة الكشف لعثمان بيومي، هي اللحظة التي يقارن فيها ما بذله بما حصل عليه، شقاء حياتِه بنهايته في سرير المستشفى بمنصب حصل عليه اسمًا فقط، وبلا ولد أو حب حقيقي. هنا يترك محفوظ المساحة للقارئ كي يصبح هو شخصيًا عثمان بيومي، ويتخيل ما يمكن أن يحس به، وكل ما يخبرنا به عن عثمان أنه «من محاسن الصدف أن القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس». ٣ محجوب عبد الدائم.. البحث عن المكسب الشخصي «ليكن بى أسوة حسنة فى إبليس .. الرمز الكامل للكمال المطلق. هو التمرٌد الحق؛ الكبرياءالحق؛ والطموح الحق والثورة على جميع المبادئ» محجوب عبد الدائم القاهرة الجديدة محجوب عبد الدائم أحد أبطال رواية «القاهرة الجديدة» وواحد من أشهر شخصيات محفوظ، نظرًا لمعالجة قصته سينمائيًا في فيلم «القاهرة ٣٠» بدور أداه الفنان حمدي أحمد. محجوب مثال للمهزوم الذي يفقد مع هزيمته كل شيء. يتخلى عن أخلاقه ومبادئه ليتمكن من تحقيق انتصارات يعوّض بها هزائمه، لذا لا عجب أن يكون شعاره في الحياة هو «طز». يرى محجوب أن أي شيء لا يحقّق مكسبًا لا يستحق عناء التفكير فيه، وأن أي شيء يحقق النفع، مهما كان غير أخلاقي، هو جدير بكل المجهود. محجوب الطالب بالجامعة، والقادم من قرية فقيرة لأبوين فقيرين يشعر في داخله بأنه ضحية؛ ضحية الفقر والحظ السيء الذي جعله ابنًا لوالديه. يعيش الحرمان منذ صغره و يتطلَّع إلى حياة أخرى، عازمًا على الوصول إليها مهما كلفه ذلك من متاعب. يشعر بعد انتقاله للقاهرة أن له قدمًا في العالم الجديد، ويودُّ لو يمحو ماضيه بالكامل مع عالمه القديم، ولولا احتياجه لأموال والده لكان تبرأ من أهله تمامًا. يتطلَّع محجوب عبد الدائم إلى حمديس بك ابن عم والدته، الرجل الثري صاحب المكانة الكبيرة. ومع أنه يشعر بالحقد عليه، إلا أنه يحاول بشدة التقرب منه ومن أبنائه، لعلّه يفوز بوظيفة جيدة يبدأ بها بناء مستقبل جديد، لكنّه يفشل في ذلك، لتُضاف تلك الهزيمة إلى سلسلة طويلة من الهزائم في داخله. ومع كل يوم يمر عليه يزداد حقده على المجتمع، فهو فقير ينتقل من منزل لآخر أفقر لأنه لا يستطيع دفع إيجاره. لا يجد وظيفة، بل ويفشل في أن تكون له هوية أو مواقف أخلاقية مثل أصدقائه بالجامعة. يحتقر محجوب عبد الدائم ظروفه وفقره ونفسه ويبدأ في الانكماش لتبدو كل الأشياء أكبر حجمًا منه. ولأنه انكمش لهذه الدرجة داخله ولم يعد لديه كبرياء أو كرامة، ولم يتبق له شيء من قيمه وأخلاقه، يصير مهزومًا هزيمة كاملة، ويسعى فقط للانتصار، وبهذا يصبح أي شيء متوقعًا منه، وهذا ما حدث. يصادف سالم الإخشيدي ابن بلدته، الموظف لدى قاسم بك، والذي يشبهه كثيرًا، فكلاهما يبحث عن مكسبه الشخصي بالشكل الذي يستبيح به كل شيء، ويحاول التقرب له، ويطلب منه وظيفة، فيوافق سالم على شرط أن يتزوج محجوب من إحسان عشيقة قاسم بك، ويسمح له بالاختلاء بها مرة كل أسبوع. ولأنه انهزم هزيمة كاملة، لم يوقظ هذا الطلب ما تبقى منه من مروءة، بل فكر بمنطقه القديم «طز». وجد محجوب نفسه فجأة قريبًا من انتصار كبير يتمناه مقابل تنازل أخلاقي، فيقرر القبول قاطعًا آخر صلاته مع أي شيء يعطّله عن الانتصار الشخصي، مدركًا أنه لا يمكن أن يعود كما كان من قبل، ومقتنعًا في داخله بأن «الشرف قيد لا يغلّ إلا أعناق الفقراء». محجوب مليء بكل مركبات النقص؛ أخذ من الفقر والحرمان شقاءهما وذلهما ولم يتعلَّم منهما الرضا أو الاعتزاز بالنفس، هو ساخط على كل شيء، كاره لكل نعيم لا يجري بين يديه، حاقد على كل ثري لا يعطيه من مالِه، متطلِّع شَرِه إلى كل مكاسب الآخرين، حتى أنه يكره زملاءه أصحاب المبادئ لأنه يشعر بتفوقهم عليه. كل هذه الكراهية التي يحملها محجوب بين ضلوعه تجعله مستعدًا لفعل أي شيء لكي يتحوَّل هو إلى من يحقد عليهم؛ ليستطيع أن يتباهى بغِلّ أمام زملائه القدامى، وبفخر أمام والديه، وأن يخرج لسانه لسنين الشقاء والفقر. ينتهي محجوب فعلًا عندما يرى صورته في عين أبيه الذي يكتشف الأمر برمته، وهذه هي لحظة الهزيمة الكبرى الحقيقة له، فكل ما قدَّم من تنازلات أخلاقية كان من أجل مقاومة ذله الداخلي، من أجل أن يرفع رأسه مفتخرًا بنفسه، وها هو يجد نفسه في أشد لحظات الذل عندما يدرك أبوه أن زوجة محجوب على علاقة برجل آخر بعلمه وتسهيله شخصيًا. في تلك اللحظة، ينهدم كل ما بناه محجوب فوق رأسِه، وتكتمل هزيمته على كل الأصعدة. هكذا بحَثتْ كل شخصية عمَّا ينقصها، وسلَكت كل منها مسلكها في الوصول إليها. عايش محفوظ جميع الشخصيات معايشة كاملة ورسم عوالمها الداخلية بدقة وأقنعنا بتاريخها الشخصي. تحدث على ألسنتهم أحيانًا وترك خيالنا يتحدث معهم أحيانًا. قد تجد في كل شخصية شيئًا منك، وقد تسأل نفسك عمّا تبحث أنت في الحياة، وعما إذا كان من الممكن أن يورّطك بحثك لأن تتسوّل مثل عمر حمزاوي، أو تبدّد عمرك في الشقاء مثل عثمان بيومي، أو تتخلّى عن مبادئك مثل محجوب عبد الدائم؟ أن تسأل نفسك يعني أن الدراما انتصرت، وأن الأدب تخطى حاجز الأوراق ليصفعك شخصيًا.
في رفح.. مدينة الدماء والرحيل مراد حجازي ٣٠ أغسطس ٢٠١٧ مع نهاية يوليو الماضي، انتهت حملة أمنية سيطرت خلالها قوات الجيش على مدينة العريش طوال أسبوعين، عانى خلالها سُكان المدينة من أوضاع شديدة السوء، مليئة بالمعاناة والدماء، وبانتهاء الحملة عادت الاتصالات التي انقطعت طوال الحملة للعمل بشكل جزئي في مدن شمال سيناء الثلاث الكبرى؛ العريش والشيخ زويد ورفح، إلا أنها كانت عودة دامت أيامًا قليلة فقط. وذلك قبل أن تنقطع مرة أخرى عن المدن الثلاثة. مع انقطاع الاتصالات مرة أخرى، توقع سُكان العريش أن تعود الأيام العصيبة مع حملة جديدة، إلا أن الحملة واﻷوضاع السيئة والمعاناة والدماء كانت من نصيب آخر المدن المصرية على الحدود الشرقية؛ رفح. *** يقطن في مركز رفح والـ ١١ قرية التابعة له أكثر من ٨١ ألف نسمة، بحسب آخر إحصاء رسمي، يعود لعام ٢٠١٦، على موقع محافظة شمال سيناء. تناقص العدد بشكل كبير، في السنوات اﻷخيرة، خاصة مع موجات النزوح التي بدأت في نهايات ٢٠١٤، وذلك مع بداية إخلاء الدولة لمنطقة عازلة بعمق ١٠٠٠ متر، في اﻷراضي المصرية المتاخمة لقطاع غزة، وهي العملية التي تم خلالها هدم ٢١٠٠ منزل. ظروف الحياة في مدينة رفح عصيبة بشكل واضح؛ يقول عدد من السُكان إن إمدادات المياه لا تصل نهائيًا إلى أحياء المدينة منذ ثلاث سنوات، فضلًا عن النقص الحاد في مستلزمات المعيشة والمواد الغذائية والخضروات، والتي ارتفعت، مؤخرًا، أسعارها بصورة مبالغ فيها. وصل سعر صفيحة السولار، على سبيل المثال، إلى ٤٠٠ جنيه، وهي الوسيلة التي يعتمد عليها اﻷهالي في توليد الكهرباء لعدد ساعات محدود خلال اليوم. يحاول الأهالي تعويض استمرار انقطاع التيار الكهربائي بالكامل طوال ٦٠ يومًا عبر المولدات. وفيما تشهد رفح، والشيخ زويد، فرضًا لحظر تجوال، منذ أكتوبر ٢٠١٤، ويبدأ في الخامسة مساءً وحتى السادسة من صباح اليوم التالي، يطلب اﻷهالي من السلطات السماح بمرور اﻷغذية، خاصة ألبان الأطفال والدقيق، إلى المدينة. *** في العاشرة من صباح الأحد، ٢٠ أغسطس الجاري، عُزلت مدن شمال سيناء الثلاثة؛ رفح والشيخ زويد والعريش، عن العالم لمدة زادت على ٤٨ ساعة، إثر انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت بشكل مفاجئ. في البداية حاول الأهالي معرفة ماذا يحدث، ليتبيّنوا بعد ذلك أن حملة أمنية كبيرة تستهدف رفح. أغلقت جميع الطرق المؤدية للمدينة بسواتر رملية. وأصبح دخول المدينة أو الخروج منها ممنوعًا إلا بالسير على اﻷقدام. يقول «أبو محمد»، أحد سكان رفح، لـ «مدى مصر» إنهم فوجئوا مع بداية يوم ١٩ أغسطس بقيام قوات الأمن بإغلاق الطريق الفرعي، والوحيد، للدخول والخروج من مدينتهم رفح. جرى وضع ساتر ترابي كبير بالقرب من منطقة «ياميت»، في قرية أبو شنار. يشير أبو محمد إلى أن الطريق الدولي الرئيسي مُغلق في وجه اﻷهالي وسياراتهم منذ عام ٢٠١٤. لا تسير عليه سوى الحملات العسكرية أو الأقوال الأمنية أو القوافل الرسمية. يصبح الطريق الفرعي القريب من أبو شنار، القريبة بدورها من ساحل رفح، هو الحل الوحيد للوصول للمدينة. لكن مع الحملة الأخيرة أغلق هذا الطريق نهائيًا. طالت الحملة كل قرى وأحياء مدينة رفح، وبحسب أبو محمد، كان انتشار قوات الجيش على الأرض بشكلٍ غير مسبوق، بداية من ساحل رفح وحتى قرى جنوبها. نقطة الارتكاز الرئيسية للحملة كانت في «أبو شنار» ما أقلق أهل المنطقة، ليقوم عدد كبير منهم بجمع أمتعته والرحيل بعيدًا عن منطقة العمليات خوفًا على أرواحهم. *** لم ينتظر اﻷهالي كثيرًا، ما خافوا منه بدأ في الحدوث سريعًا، في يوم الثلاثاء، ٢٢ أغسطس، سقطت قذيفة مجهولة المصدر على منزل في قرية نجع شيبانة، لتقتل أسرة كاملة من قبيلة الريشات؛ أم عمرها ٤٥ عامًا، وابنتيها (عامان ونصف، و١٤ عامًا). بعدها، وإثر قذيفة أخرى مجهولة المصدر، قُتل شاب وأصيب آخر على أطراف مدينة الشيخ زويد، وأنهت طلقات نارية طائشة حياة شاب آخر في منطقة ياميت برفح. *** في يوم ٢٣ أغسطس أصبحت رائحة الدماء أكثر حضورًا. قررت أربع أُسر في قرية «نجع شيبانة»، جنوبي رفح، أن تتجمع في منزل واحد؛ هربًا من الاشتباكات والحرب المحيطة بهم، إلا أن قذيفة مجهولة المصدر سقطت على المنزل لتنسفه بالكامل مخلفة ٢٤ قتيلًا ومصابًا. أسفر الحادث عن إصابة ١٦ شخصًا؛ ٥ سيدات، وطفلتين كل منهما عمره ١٣ عامًا، وتسعة أطفال دون العشر سنوات، والذين تمّ نقلهم جميعًا إلى مستشفى العريش، التي أكد مصدر من داخلها أن مَن لم يدخل غرفة العمليات من اﻷمهات والسيدات رقد في غيبوبة، فيما بقى اﻷطفال بمفردهم في غرف المستشفى، وبعد يوم واحد توفى طفلين منهما (٣ و١٠ سنوات)، فيما تمّ تحوّيل بعض الحالات إلى مستشفيات خارج شمال سيناء، وتكفل بعض «أهل الخير» بعلاجهم. أحد سُكان القرية، طَلَبَ عدم ذِكر اسمه، قال لـ «مدى مصر» إن ثمانية أشخاص جميعهم سيدات وأطفال، قتلوا في الحال إثر سقوط القذيفة. لم يُنقلوا إلى المستشفى، ودفنهم اﻷهالي في القرية. أكد المصدر أن معظم الأقارب الرجال للقتلى الثمانية معتقلين بالفعل لدى قوات اﻷمن، فيما هرب آخرون من الملاحقات اﻷمنية التي تطال شباب ورجال المنطقة. مصدر آخر في القرية أكد على أن قوات اﻷمن أمرت جميع سُكان القرية بالرحيل الفوري منها. في حين لم يتمكن بعضهم حتى من جمع أمتعته، وبقت القرية خاوية. *** بعد موجات النزوح اﻷولى، في أواخر ٢٠١٤، كانت قرية «الطايرة»، جنوبي رفح، بمثابة ملاذًا لكثير من الأهالي الذين رفضوا مغادرة المدينة كليةً، ليستقروا في القرية الصغيرة آملين أن تكون أكثر أمانًا لهم وﻷسرهم. ولكن في يوم ٢٦ أغسطس تبددت كل أحلامهم في الاستقرار، وصاروا مجبرين على الرحيل من القرية إلى المجهول. يتذكر أحد سكان القرية الراحلين ما جرى قائلًا «حضرت قوات الجيش إلى المكان، وطالبت عدد من السكان بإخلاء منازلهم، لإنشاء كمائن أمنية في محيط القرية، وأمهلتهم ثلاثة أيام، أما باقي الأهالي فقرروا الرحيل النهائي، خوفًا من البقاء في محيط الكمائن الأمنية وما يصاحبها من اشتباكات ورصاص عشوائي». بحسب ساكن «الطايرة»، الذي غادرها الآن، رَحَلَ بعض اﻷهالي تاركين خلفهم كل شيء، وذلك بسبب صعوبة الخروج باﻷمتعة، فضلًا عن تكلفة سيارات النقل، والتي وصلت إلى ١٧٠٠ جنيه من رفح وحتى الإسماعيلية. بينما لا يزال معظم أهل القرية عالقين فيها، بسبب عدم قدرتهم على حمل أمتعتهم ومتعلقاتهم وأثاث منازلهم، بعد إغلاق الطرق الواصلة من قريتهم وحتى الطريق الفرعي الوحيد. شاهد عيان آخر من سُكان رفح قال إن اﻷهالي كانوا يحملون ما يستطيعون من أمتعتهم وأثاثهم في السيارات، التي تمنَع قوات الأمن مرورها حين يصلون إلى الحاجز الترابي، ما يضطرهم لإنزال اﻷمتعة واستئجار عربات كارو لنقل تلك اﻷمتعة إلى الجانب الآخر على مراحل. بحسب ساكن «الطايرة»، الذي غادرها، كانت مدينة الصالحية ومحافظة الإسماعيلية عمومًا هي الوجهة الجديدة لمعظم الأهالي الراحلين، خاصة مَن يعملون منهم في الزراعة، أملًا في الالتحاق بأقاربهم المقيمين في أراضيهم الزراعية هناك، وهروبًا من الملاحقة اﻷمنية التي تطال أهالي رفح والشيخ زويد في أي مكان داخل شمال سيناء. بحسب عديد من المصادر المحلية التي تحدثت لـ «مدى مصر»، فقد استقر لدى أهالي رفح هاجس أن الدولة تحاول بشتى الطرق دفعهم للخروج من قراهم ومدنهم وترك سيناء بالكامل، وهو الهاجس الذي يتأكد لديهم أكثر في ظل تردي اﻷوضاع المعيشية في رفح والشيخ زويد والعريش، واستمرار «الحرب على الإرهاب» منذ أربع سنوات دون أن تبدو لها نهاية قريبة، خاصة مع زحف العمليات الإرهابية من مدينة إلى أخرى. وفيما استنكر اﻷهالي فصل شبكات الاتصال والإنترنت عن مدن شمال سيناء مع كل حملة أمنية، أكدوا أن شبكات الاتصال المصرية لا تعمل في مدينة رفح بالكامل، سوى في مناطق ضيقة جدًا على ساحل المدينة، فيما يستقبل الهاتف المحمول ﻷي شخص يدخل المدينة للمرة اﻷولى رسائل ترحيب من شبكات الاتصال الإسرائيلية، التي تعمل، بمفردها، في رفح. البعض اﻵخر من السكان رأى أن الدولة تحاول التهرب من مسؤوليتها في دفع تعويض لمَن يخلي منزله، على غرار ما حدث وقت الإعلان عن إقامة منطقة عازلة بعمق ١٠٠٠ متر، والتي طالبت الدولة سكانها بشكل رسمي بالإخلاء، على أن تدفع لهم تعويضات. كان إبراهيم محلب، رئيس الوزراء السابق، قد أصدر في أكتوبر ٢٠١٤ قرارًا بإخلاء ٥ كيلومترات في مدينة رفح، وألزم القرار، في مادتيه الثانية والثالثة، الدولة بتوفير مساكن بديلة وتعويضات لمَن يترك منزله في تلك المنطقة. من الكيلومترات الخمس، تمّ إخلاء كيلومتر واحد فقط رسميًا، وتمّ تعويض قاطنيه بقرابة ٦٥٠ مليون جنيه، بحسب بيانات محافظة شمال سيناء، وهو ما لم يحدث مع مَن رحلوا من باقي المدن التي تشهد حربًا على الإرهاب. كانت الإحصائية الرسمية الوحيدة الخاصة بتعداد النازحين هي تلك المُعلنة من محافظة شمال سيناء في أواخر أغسطس ٢٠١٦، والتي قدرت النازحين بـ ١٢ ألفًا و٨٦١ فردًا، موزعين على ٦٨ تجمعًا في مدن العريش، وبئر العبد، والحسنة، بإجمالي ٥٣٢٤ أسرة. *** على طول الطريق الدولي «العريش القنطرة» تتناثر عشرات العشش على جانبي الطريق، جميعها يقطنها نازحون، تركوا منازلهم ومزارعهم وقراهم في رفح والشيخ زويد منذ أواخر ٢٠١٤، بعد زيادة حدة الاشتباكات بين القوات المسلحة وبين ما يعرف بـ «تنظيم ولاية سيناء»، وهو النزوح الذي لم يتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. ساكن «الطايرة» الراحل عنها وصف فكرة النزوح بـ «العصيبة والقاسية»، وقال «إحنا البدو ارتباطنا باﻷرض اللي اترعرعنا فيها وثيق جدًا، صعب ننفك عنها»، وأضاف «أصعب حاجة إنه ييجي اليوم اللي تنقلع فيه من جذورك». أما ساكن مدينة رفح الذي كان شاهدًا على لحظات رحيل أهلها، وصف الساتر الترابي الذي أقامته قوات اﻷمن على طريق دخول المدينة بأنه كان حاجز يفصل ما بين الذكريات في المدينة، والمستقبل المجهول غربًا. فيما تبقى عبارة «راجع يا رفح» مستقرة على جدار منزل بمدينة شبه خاوية، لم تعد تعرف إلا الرحيل.
بعد ارتفاعها لـ ٤٠٥ موقعًا.. إدانة أممية للحجب في مصر مدى مصر ٣٠ أغسطس ٢٠١٧ نَشَرَ موقع المندوب السامي للأمم المتحدة بجينيف اليوم، الأربعاء، بيانًا مشتركًا لاثنين من الخبراء المعينين من قِبل مجلس حقوق الإنسان الدولي. وقد أعربا عن «قلقهما البالغ» حيال حجب الحكومة المصرية لمواقع إلكترونية. ووصف البيان قرارات الحجب بـ «الاعتداء المستمر من الحكومة المصرية على حرية التعبير». في حين وصل عدد المواقع المحجوبة في مصر أمس الأول، الإثنين، إلى ٤٠٥ موقعًا، وذلك حسب رصد مؤسسة «حرية الفكر والتعبير» المصرية. فيما رَجَح ديفيد كاي، المقرر الخاص لتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، وفيونوالا ني ألوين، المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، أن تكون قرارات الحجب قمعية، وليست من شأنها مكافحة الإرهاب. ويُكلف الخبراء، الذين يُعينهم مجلس حقوق الإنسان في جينيف، بدراسة الأوضاع الخاصة بحقوق الإنسان وتقديم تقارير عنها. وتكون مناصبهم شرفية، ولا يُعد أصحابها من الموظفين بالمجلس الأممي. وقالا الخبيران، في بيانهما، إن قرارات الحجب جاءت في ظل غياب للشفافية، وعدم تحديد «الأكاذيب» التي تنشرها المواقع المحجوبة أو «الأعمال الإرهابية» التي تدعمها. وأضاف البيان «أن منَع الوصول إلى المواقع الإلكترونية بجميع أنواعها، وخاصة المواقع الإخبارية، يحرم كل المصريين من معلومات أساسية من أجل المصلحة العامة». كما انتقد الحجب لكونه يستند إلى تشريعات «مُفرطة» لمكافحة الإرهاب، وذلك فضلًا عن إمكانية خضوعه لرقابة قضائية «محدودة للغاية». وأكد كلٍ من كاي وألوين، في النسخة الإنجليزية من البيان، على أن السلطات المصرية لم تُقدم أي دلائل بأن الحجب يتطابق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان. وأوضحا أن الإجراءات يجب أن تُأخذ وفقًا للقانون، فضلًا عن أن تكون ضرورية ومتناسب مع الغرض المطلوب. ويأتي ذلك في حين لم تعلن أي جهة رسمية مصرية عن أسباب الحجب. وكانت قرارات الحجب في مصر قد تزامنت مع نَشَر وكالة أنباء الشرق الأوسط المملوكة للدولة لخبر نقلًا عن «مصدر أمني رفيع المستوى»، في شهر مايو. وقد شَمَلَت ٢١ موقعًا إلكترونيًا داخل البلاد؛ وقد فَسَرَ المصدر ذلك بقوله «تضمينها محتوى يدعم الإرهاب والتطرف ويتعمد نشر الأكاذيب»، وأنه «تمّ اتخاذ الإجراءات القانونية المتبعة حيال هذه المواقع». وقد وصل عدد المواقع المحجوبة في مصر أمس الأول، الإثنين، إلى ٤٠٥ موقعًا بعد حجب ٢٦١ موقعًا من مقدمي خدمات VPN، التي توفر اتصالًا آمنًا بالمواقع المحجوبة، وذلك حسب تقرير «قرار من جهة مجهولة عن حجب مواقع الوب في مصر» الصادر عن «حرية الفكر والتعبير». كما حُجبت، مؤخرًا، مدونتا «منال وعلاء» و«بهية»، وتُعدا من أقدم المدونات في مصر، لتنضما إلى مدونة الصحفي «أحمد جمال زيادة» التي حُجبت خلال الشهر الجاري. ومن المنتظر أن ينظر القضاء الإداري، في ٩ سبتمبر المُقبل، أولى جلسات الطعن الذي أقامه موقع «مدى مصر» ضد قرار الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بحجب الموقع.
بمناسبة اليوم العالمي للاختفاء القسري، نعيد نشر مقال عبد الرحمن جاد «روابط دي مايو».. من الدكتاتورية الأرجنتينية إلى الفاشية المصرية ١٦ يونيو ٢٠١٥ «في الواقع إنه يوم عيد الأمهات، لأننا تمكننا بعد ٣٥ عامًا من رؤية القتلة وراء القضبان.. إنه إنجاز للأمهات». هيبيه دي بونافيني، مديرة منظمة «أمهات بلازا دي مايو». في ٣٠ أبريل ١٩٧٧، في ذروة القمع الدكتاتوري، احتشدت مجموعة من أمهات المفقودين للمرة الأولى في ساحة «بلازا دي مايو» أمام مقر الرئاسة الأرجنتينية في بوينوس أيرس، مطالبة بإعادة أبنائها وبناتها، ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الأمهات بالتجمع كل خميس وعلى رؤوسهن وشاح أبيض اعتمدنه كشعار لهن. كان هذا الوشاح، الذي أصبحن بفضله معروفات في العالم أجمع، مطرزًا بأسماء أبنائهن الذين فُقدوا في عهد الدكتاتورية. في سنة ١٩٨٧، انقسمت المنظمة التي تعتبر رمزًا من رموز الدفاع عن حقوق الإنسان في الأرجنتين إلى مجموعتين، وسميت المجموعة الأولى الأكثر استقلالية «أمهات بلازا دي مايو.. الخط المؤسس»، وبقيت منظمة صغيرة تُعنَى حصرًا بالدفاع عن حقوق الإنسان. أما المجموعة الثانية؛ فاكتسبت طابعًا سياسيًا وأصبحت في عهد الرئيس نستور كيرشنر منظمة غير حكومية تضم ستة آلاف موظف، وتعنى ببناء المساكن والمستشفيات في كل أنحاء البلاد . على جانب آخر من العالم، في مصر، هناك روابط أسرية تشكلت في طوابير الزيارات داخل السجون، وعلى عتبات المحاكم، وأمام مراكز الشرطة.. أعلنت عن نفسها بتشكيل حركات اجتماعية ترتكز على وحدات صغيرة لا مركزية. فهل ستكون بداية حركة اجتماعية جديدة في مصر تؤثر في صانعي القرار، أم ستكون هذه الروابط مجرد منتديات للطرح والتنفيس عن معاناتهم ومعاناة أبنائهم في السجون؟! هذه الحركات الاجتماعية الصغيرة غلب عليها الطابع النسائي؛ فهي مكونة من أمهات وأخوات المحتجزين والمحتجزات على خلفيات سياسية. لم يتقابلوا في بهو أحد الفنادق أو في إحدي القاعات، ولكن مقابلاتهم كانت في طوابير الدخول وأثناء انتظار ميعاد الزيارة داخل السجون المختلفة، يشكون في تلك الفترة أوضاعهم المأساوية، يشكون آلام الفراق وشظف العيش والعائل الوحيد للأسرة يقبع داخل أسوار السجن، فهو أسير الحبس الاحتياطي، أو حكم عليه بثلاث سنوات على خلفية قانون «التظاهر».. يأتي وقت الزيارة فيفترقون للحظات ثم يعُودون للحديث مرة أخرى ولكن يزداد الحديث مرارة عند معرفتهم بما حدث معهم ليلة أمس، وقد تعرضوا لحملة مداهمة من قبل أفراد الشرطة والاعتداء بالضرب ومنع الطعام وتجريدهم من ملابسهم ليبيتوا ليلة سوداء.. «من حكايات أهالي المحتجزين عن الأوضاع في السجون». هي تلك الروابط التي لم يُعلن عن تأسيسها في نقابة «الصحفيين»، أو مقار الأحزاب، ولكن أُعلن عن تأسيسها على الأرصفة أمام مراكز الشرطة ومجمعات المحاكم وفي معهد الأمناء بطرة، ينتظرون نزول أبنائهم من عربة الترحيلات للعرض على القاضي وينتظرون في شغف خروج المحامي من قاعة المحكمة ليقول لهم براءة أو إخلاء سبيل.. ولكن دائمًا ما يخيب الظن! قررت تلك الروابط الصغيرة الخروج للمجتمع ومشاركة الناس والعالم همومهم، معلنين رفضهم الأوضاع التي يتعرضون لها أثناء زياراتهم، وما يتعرض له ذووهم داخل أسوار السجون، تلك التدابير والإجراءات البسيطة مثل المشاركة في المؤتمرات الصحفية، والتواصل مع المنظمات الحقوقية، والتصوير مع الشبكات الإعلامية حتى غير المرئية منها، التوجه الى السوشيال ميديا وإنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي يسلكونها من مبدأ الأخذ بالأسباب، وهي بالنسبة لهم مكسبًا رغم عدم إحداث أي تأثير من جانب متخذي القرارات. استفادت تلك الروابط من تكنولوجيا الاتصالات في التعبير عن مشكلاتهم، وكان هدفهم من استغلالها إعلان مقاومة ورفض الأوضاع عن طريق صفحات «الفيس بوك» لمشاركة ما يحدث معهم ومع ذويهم داخل السجون، فعندما تكتب في خانة البحث «رابطة أسر» سيظهر أمامك رابطة أسر …. وباقى الاسم «اسم السجن، أو المحافظة التي ينتمي إليها السجن جغرافيا»، مثل رابطة معتقلي سجن العقرب، ورابطة أسر معتقلي البحيرة، ورابطة أسر معتقلي السويس. لم يتوقف الأمر عند أسر المعتقلين فحسب؛ حيث انضمت إليهم رابطة أكثر بؤسًا، وهي «رابطة أسر المفقودين.. المختفين قسرًا». في شهر مايو من العام الماضي، كنت على موعد مع أحد أهالي المختفين قسريًا لإعداد بحث عن منهجية الاختفاء القسري في مصر بعد الثلاثين من يونيو، كان محمد عبدالسلام والد عبدالحميد، وهو أحد المختفين قسريًا منذ فض اعتصام «رابعة العدوية»، يقدم بلاغًا للنائب العام عن اختفاء ابنه؛ حيث فقد الاتصال به أثناء عملية فض الاعتصام، في هذا اليوم وجدت عددًا من الأهالى قادمين للسبب نفسه لتقديم بلاغات عن اختفاء ذويهم ولكن في أحداث متفرقة، ومن خلال الحديث اكتشفت أنهم قد تعرّفوا إلى بعضهم البعض أثناء انخراطهم في إجراءات كتقديم البلاغات وأثناء البحث عن ذويهم في السجون المختلفة، يتحركون سويًا من أجل هدف مشترك يجمعهم. مد ذلك الهدف بينهم أواصر علاقات اجتماعية هدفها التواصل سويًا من أجل اتخاذ جميع الطرق والسبل للتواصل مع المنظمات الحقوقية والتحاور مع شخصيات عامة، وتنظيم مؤتمرات صحفية. فكانوا يتجمعون مرة أسبوعيًا لعقد مقابلة مع إحدى المنظمات أو تقديم بلاغات جماعية للنائب العام، أو التواصل مع الشبكات الإخبارية أو حضور مؤتمر صحفي تنظمه إحدي المؤسسات. وبالفعل قد حضرت معهم أحد المؤتمرات بعنوان «مصر تبحث عن أبنائها المفقودين»، داخل نقابة الصحفيين في سبتمبر ٢٠١٤، وكان عددهم ١٢ أسرة من الصعيد والدلتا والإسكندرية والسويس والقاهرة، وكان المؤتمر عن المختفين قسريًا منذ أحداث ثورة يناير، بمشاركة حملة «هنلاقيهم»، وتحدث الأهالي ووالد الطالب عبدالحميد عن معاناتهم خلال رحلة بحثهم عن ذويهم وما تعرضوا له من نصب، وكذلك استهلاكهم ماديًا وصحيًا، إلى أن توفي منذ بضعة أيام لتفقد الرابطة أحد أعضائها المقهورين. لكن كل تلك المعاناة قد أفرزت لنا حركة اجتماعية من نوع جديد؛ تقع خارج إطار السياسة المتمثلة في الأحزاب السياسية. وهذه الحركات لا تطرح استراتيجيات للوصول إلى السلطة، فغايتهم الوحيدة هي التأثير في صانعي القرارات. كما أنها لا تلتزم بإطار تنظيمي فكل ما تسعي إليه هو لفت انتباه العالم من حولهم لقضاياهم، مثل ما فعلت أمهات «دي مايو» في الأرجنتين، ولكن في الوقت نفسه لم تتميز تلك الروابط في اتخاذ آليات جديدة سوي أنها انتقلت من الأحاديث الثنائية إلى الاتجاه لتعريف المجتمع بما يواجهونه وهذا شيء إيجابي من وجهة نظري. و يبقى السؤال ماذا لو انتظمت هذه الروابط في إطار تنظيمي يجمعها مع بعضها البعض، له قيادة مركزية تتبنى تطبيق آليات كتلك المتبعة في حملات المناصرة والحشد والضغط بأساليبها المتنوعة؟ هل سيكون بمقدورها أن تصل إلى ما وصلت إليه «دي مايو» من الوصول إلى ذويهم المفقودين؟ أم ستشكل تلك المطالب من المعاملة الكريمة الإنسانية خلال زيارات السجون عبئًا على صانع القرار؟
مجلس الدولة يُصدر بيانين لتفسير حُكم «الحدود البحرية بين مصر وقبرص» خلال ٢٤ ساعة رنا ممدوح ٣٠ أغسطس ٢٠١٧ أصدرت محكمة القضاء الإداري أمس، الثلاثاء، حُكمًا بعدم اختصاصها نَظَرَ دعوى وقف وإلغاء الاتفاقيتين لتعيين الحدود البحرية بين مصر وقبرص. وقد أصدر المكتب الإعلامي لمجلس الدولة بيانَيْن رسميَيْن لتفسير الحكم، منذ صدوره. فَسَرَ البيان الأول، الذي صَدَرَ بالأمس، الثلاثاء، حكم الدائرة الأولى برئاسة المستشار بخيت إسماعيل، بعدم اختصاص المحكمة في الفصل لكون الاتفاقيات تدخل ضمن أعمال السيادة التي تخرج عن اختصاص القضاء الإداري. في حين أشار البيان الثاني الصادر اليوم، الأربعاء، أن الحكم تضمن عدم اختصاص المحكمة بنظر إلغاء الاتفاقيتين لكونهما صدرا بقانون وأن الحكم لم يتعرض لمسألة السيادة. وذلك دون أن ينفي ما تضمنه البيان الأول من اعتبار الاتفاقيات من أعمال السيادة التي لا تختص بنظرها محكمة القضاء الإداري. وتعود وقائع القضية إلى أغسطس من العام الماضي، عندما رُفعت للمطالبة بوقف تنفيذ وإلغاء اتفاق تحديد المنطقة الاقتصادية الخاصة، والذي صدر قرار رئيس الجمهورية برقم ١١٥ لسنة ٢٠٠٣ بإقرارها. فضلًا عن إلغاء الاتفاقية الإطارية بين البلدين بشأن تنمية الخزانات الحاملة للهيدروكربون، وقد صَدَرَ قرار رئيس الجمهورية رقم ٣١١ لسنة ٢٠١٤ بشأنها. وقد حصلت «مدى مصر» على نَصّ الحكم، لتبيّن أسباب عدم تصدي المحكمة للدعوى، وذلك لانتهاء التصديق عليهما ونشرهما في الجريدة الرسمية كقانونَيْن ضمن قوانين الدولة. وقالت المحكمة، في حكمها، إن الطعن على الاتفاقيتين بعد نشرهما يعد طعنًا على قانونين صدرا من السلطة التشريعية. مما لا يجعل المنازعة في هذه الحالة من المنازعات الإدارية التي تختص بها محاكم مجلس الدولة. ولا يجوز التعرض لها إلا بطريق الطعن عليها بعدم دستوريتها طبقا للإجراءات المقررة لذلك في قانون المحكمة الدستورية العليا، حسبما جاء في نَصّ الحكم. وكانت محكمة القضاء الإداري قد قَضَتَ، في يونيو من العام الماضي، ببطلان اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية لتضمنها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة، وهو الحكم، الذي أصدر المستشار بخيت إسماعيل، صاحب حكم الأمس، حكمَيْن بإلزام الحكومة بتنفيذه. من جانبه قال أحد نواب رئيس مجلس الدولة، والذي فَضَلَ عدم ذِكر اسمه، لـ «مدى مصر» مُفسرًا ما جاء في البيان الأول «إن تعمد استخدام الحكم الصادر بشأن اتفاقيتي الحدود البحرية بين مصر وقبرص، ليكون في وضع مقارنة مع الحكم الصادر، في ٢١ يونيو ٢٠١٦، والذى قضى ببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية». كما أضاف أن ذلك يعُد إعلانًا بأن محاكم مجلس الدولة تراجعت عن اختصاصها في الرقابة على مشروعية إجراءات إبرام الاتفاقيات الدولية، وهو ما لم يحدث. كما أوضح المصدر لـ «مدى مصر» أن محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار بخيت إسماعيل لم تقضِ بعدم اختصاصها بالفصل في الاتفاقيات الدولية بشكل عام، وهو ما جاء في البيان الأول الصادر عن رئيس مجلس الدولة، وإنما قَضَتَ بعدم اختصاصها بنظر دعوى بطلان اتفاقيتي تعيين الحدود بين مصر وقبرص لكون كل واحدة منهما صدرت بقانون، والطعن، في هذه الحالة، يستلزم إقامة دعاوى جديدة. وستكون الجهة المختصة بنظرها حينها المحكمة الدستورية العليا، وليس محاكم مجلس الدولة. ومن جانبه قال مصدر بالأمانة العامة لمجلس الدولة لـ «مدى مصر» إن البيان الأول تسبب في حالة من الغضب داخل مجلس الدولة، وذلك بعد اعتراض عدد من مستشاري محكمة القضاء الإداري على ما جاء فيه. الأمر الذي أوحى بأن القضاء الإداري تراجع عن اختصاصه في الرقابة على مشروعية إجراءات إبرام الاتفاقيات الدولية، وهو ما أكدت عليه وسائل الإعلام بنشرها للبيان الأول، حسبما أوضح المصدر. وكان السفير إبراهيم يسري وآخرون قد أقاموا دعوى قضائية، في أغسطس ٢٠١٦، ضد كلٍ من رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء، فضلًا عن وزيري الخارجية والبترول بصفاتهم. وذلك للمطالبة بوقف تنفيذ وإلغاء اتفاق تحديد المنطقة الاقتصادية الخاصة، والذي وُقَعَ في القاهرة بتاريخ ١٧ فبراير ٢٠٠٣، بين حكومتَي مصر وقبرص. وقد صدر قرار رئيس الجمهورية برقم ١١٥ لسنة ٢٠٠٣، وقد صُدق عليه في ١٢ أبريل من العام نفسه. كما تضمنت الدعوى وقف تنفيذ وإلغاء الاتفاقية الإطارية بين مصر وقبرص بشأن تنمية الخزانات الحاملة للهيدروكربون الموقعة في القاهرة في ١٢ ديسمبر ٢٠١٣. وقد صَدَرَ قرار رئيس الجمهورية رقم ٣١١ لسنة ٢٠١٤ بشأنها وقد تم التصديق عليها في ١١ سبتمبر ٢٠١٤. ودَفَعَت الدعوى بأن الاتفاقيتَيْن ترتب عليهما استحواذ قبرص، وإسرائيل كذلك، على حقول غاز طبيعي، وذلك بمساحات ضخمة شمال شرق البحر المتوسط. في حين لا تبعد الحقول المُستحوَذ عليها عن دمياط بمسافة ٢٠٠ كيلومتر، لكن المسافة بينها وبين حيفا تصل إلى ٢٣٠ كيلومترًا. كما أشارت الدعوى إلى أن الخرائط القبرصية توضح أن حقل «أفروديت» في جبل إراتوستينس يدخل في عمق منطقة امتياز نيميد، التي كانت مصر قد منحتها لشركة «شل»، ثم تراجعت عنها دون مبررات منطقية أواخر عام ٢٠١٥. وفي سياق متصل، كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد استبعد، في يوليو الماضي، المستشار يحيى دكروري صاحب أول حكم ببطلان اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، من رئاسة مجلس الدولة بدلًا من إعمال مبدأ الأقدمية المعمول به. وكان السيسي قد أصدر قانون الهيئات القضائية، في أبريل الماضي، والذي يمكنه من اختيار رؤساء الهيئات القضائية، بما فيها مجلس الدولة، وذلك بدلا من التصديق على اختيار مستشاري المجلس لأقدم مستشار به. وقد أصدر السيسي القرار الجمهوري رقم ٣٤٧ لسنة ٢٠١٧ باختيار المستشار أحمد أبو العزم لرئاسة المجلس رغم كونه الرابع في ترتيب الأقدمية بين نواب رئيس مجلس الدولة. الصور لبيانَي المكتب الإعلامي لمجلس الدولة عن حكم القضاء الإداري الصادر في ٢٩ أغسطس ٢٠١٧
النوادي الرياضية في معركة التدجين عبد العظيم حماد ٣٠ أغسطس ٢٠١٧ يستحسن النظر لأزمة الثقة الناشبة مؤخرًا بين أعضاء الأندية الرياضية وبين وزارة الشباب والرياضة على مستويين؛ الأول هو تراث نظام يوليو ١٩٥٢ في الهيمنة على كل مؤسسات المجتمع وتقويض استقلالها الذاتي، والثاني هو اعتبار هذه الأزمة حلقة جديدة في سلسلة متصلة من الأزمات أدخل النظام الحالي نفسه والبلاد كلها فيها. فيما يتعلق بتراث يوليو سبق للكاتب أن استخدم تعبير «تعقيم المجتمع» لوصف حرص نظام الضباط على وأد فكرة التنظيم الأهلي المستقل عن السلطة في مصر، وتصفية أو إخضاع وتدجين الموجود منها، من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية، إلى جمعية الرفق بالحيوان، وجمعية منتجي البطاطس، كما قيل حرفيًا في تلك المناسبة. في حديث مع الكاتب جرى مؤخرًا، قال المفكر والمؤرخ والقاضي سابقًا طارق البشري إن التنظيم المستقل في دولة يوليو يشبه «الشرك بالله» عند الموحدين، مضيفًا أن نظام الضباط لا يكره الإخوان المسلمين لأنه يكره الإسلام، ولكن لأنه يكره الاستقلال التنظيمي، بغض النظر عن كفاءة الاخوان من الناحية السياسية من عدمها. لم تكن النوادي الرياضية يومًا استثناء من هذا المخطط الواعي، بل كانت في مقدمة المؤسسات التي حرص نظام يوليو على السيطرة عليها منذ تحول للشمولية الكاملة في أواخر خمسينيات القرن الماضي وأوائل الستينيات، حين أطيح بأحمد عبود باشا من رئاسة النادي الأهلي في العام نفسه الذي أُمّمت فيه شركاته ومصانعه، وكذلك أطيح بعبد اللطيف أبو رجيلة باشا من رئاسة نادي الزمالك في نفس الوقت الذي أُمّمت فيه شركاته وصودرت فيه ثروته، وجيء بلواء الشرطة صلاح دسوقي محافظ القاهرة، والمقرب من الضباط الأحرار، رئيسًا للنادي الأهلي بالتعيين، أما نادي الزمالك فقد جيء بالمهندس حسن عامر، شقيق المشير عبد الحكيم عامر، رئيسًا له بالتعيين هو الآخر. كانت هذه مجرد البداية، التي اكتملت برئاسة المشير عامر نفسه للاتحاد المصري لكرة القدم، ورئاسة حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة لاتحاد الفروسية، ورئاسة عبد اللطيف البغدادي عضو المجلس لاتحاد الكروكيه، ورئاسة الفريق سليمان عزت قائد البحرية للنادي الأوليمبي السكندري وأوليمبي القنال في نفس الوقت، وكذلك جاء الفريق أنور القاضي ليرأس نادي الاتحاد السكندري، ثم جرى الأمر على هذا النحو، أو على نحو قريب في سائر النوادي والاتحادات الرياضية. كان المطلوب هو إبقاء الحركة الرياضية وجماهير النوادي في حظيرة النظام، بما أن كل مؤسسات الدولة والمجتمع قد أُدخلت الحظيرة، أو قُضي عليها من الأصل. وبما أن هزيمة يونيو ١٩٦٧ أوهنت قبضة السلطوية في بعض المجالات، فقد كان لابد لهذه القبضة أن تتراخى كثيرًا على النوادي وعلى الحركة الرياضية، و من ثم عاد أسلوب الانتخاب طريقًا لاختيار رؤساء وأعضاء مجالس إدارات الأندية والاتحادات الرياضية، واللجنة الأوليمبية المصرية، مع استبقاء الوسائل غير المباشرة للتدخل للتأثير في هذه الانتخابات، ومع التدخل الإداري بحل هذا المجلس أو ذاك عند اللزوم. كما أن التطورات السريعة والثورية في الحركة الرياضية الدولية، أجبرت الإدارة الحكومية المصرية للرياضة على الخضوع للقواعد المعمول بها عالميًا، وبمفادها فالرياضة نشاط أهلي غير حكومي، ويجب أن تبقى إداراتها أهلية وديمقراطية، أي أن تتشكل بالانتخابات الحرة، ويؤدي أي تدخل حكومي فيها لقرار بالحرمان من النشاط الدولي في اللعبة أو الألعاب التي تديرها الحكومة بالتعيين، وقد تصل العقوبة إلى وقف النشاط المحلي الرسمي كليًا. أرغمت هذه التطورات الإدارة المصرية، وبعد طول تباطؤ، على إصدار قانون جديد للرياضة يستوفي هذه المعايير، وبما أن الطبعة الجديدة والحالية من نظام يوليو ١٩٥٢ تبدي علنًا حرصها على استنساخ شمولية وسلطوية الحقبة الناصرية، ومن دون انحيازاتها الاجتماعية والتزاماتها الوطنية والتنموية، فقد كان لابد من فتح ثغرات تنفذ منها للسيطرة على الحركة الرياضية ومؤسساتها عند اللزوم، وقطعًا للطريق على أية ديناميات ذاتية من داخل الحركة تشجع على شيء من الاستقلال في هذا القطاع، وتمتد عدواها لقطاعات أخرى. وبالتالي فلا يتسق مع منطق النظام أن تستقل المنظمات الرياضية بسبب المعايير الدولية، في وقت تُحكم فيه السلطة قبضتها على المنظمات والجمعيات الأهلية بالقانون الجديد، وعلى كبريات المؤسسات الإعلامية والصحفية والجامعات والنقابات، وفي وقت تُجهَض فيه محاولات تشكيل نقابات عمالية حرة، فضلًا عن محاصرة الأحزاب وتقزيم البرلمان، وإلغاء مبدأ الأقدمية الموضوعي في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، وتقنين حق السلطة التنفيذية في عزل رؤساء الأجهزة الرقابية. كعادتها قدّمت البيروقراطية المصرية للجهات الدولية المعنية قانونًا لا غبار عليه، مدّخرة الثغرات للائحة التنفيذية، وأهمها ثغرتان؛ الأولى اعتبار مجلس الادارة الذي لا يقبل حكم مركز التسويات الرياضية في ظرف ستين يومًا منحلًا، مع تعيين بديل له بالطريق الإداري لحين انتخاب مجلس جديد، علمًا بأن مركز التسويات الرياضية هذا مُعيَّن من الإدارة، وليس محصنًا ضد العزل، أي أن الإدارة ستكون هي الخصم والحكم معًا. أما الثغرة الثانية، فهي العضويات الاستثنائية، ومنح أعضاء فروع النوادي حقوقًا متساوية مع أعضاء الفرع الرئيسي، بما يفتح الباب أمام تغير طفري في تكوين الجمعيات العمومية، التي لها وحدها حق انتخاب مجلس الادارة. سيبدو رفض الجمعيات العمومية في النوادي الكبرى للائحة الحكومية استعلاء طبقيًا، أو أنانية نخبوية ترفض مساواة أعضاء الفروع بأعضاء المقر الرئيسي، كما سيبدو رفض ضم أعضاء استثنائيين حرصًا من الجمعيات العمومية على إبقاء أعضاء كل نادٍ كجماعة مغلقة على نفسها. لكن شبهة الطبقية تنهار أمام حقيقة أن جميع المرشحين للعضوية الاستثنائية ليسوا من طبقة أدنى، بل ربما كان بعضهم من شرائح أعلى في الطبقة الوسطى التي جاء منها كل أعضاء الأندية الكبيرة والشهيرة، والأهم أن هؤلاء المرشحين للعضوية الاستثنائية كانوا هم من سيحصلون على امتياز غير قانوني تفرضه السلطة، حين يُعفوْن من رسم الاشتراك لأول مرة، وهو يصل إلى مليون جنيه في بعض الحالات، ولا يدفعون سوى الاشتراك السنوي المعتاد، ثم مع الوقت يشكلون «لوبي» يدين بصوته الانتخابي لمرشح السلطة التي منحتهم هذا الامتياز. وأما شبهة انعدام المساواة بين أعضاء الفروع والأعضاء الأصليين، فإنها تسقط أمام حقيقة أن هذه الفروع أنشئت بأموال الأعضاء الأصليين، وأن من تقدموا لعضوية الفروع لم يتحملوا أعباء رسوم الاشتراك لأول مرة في المقر الأصلي، ثم إنهم كانوا على علم بكل ذلك وقبلوه، والأهم أنهم لم يطالبوا بتلك المساواة من وزارة الشباب والرياضة، وأن الباب مفتوح لهم للحصول على المساواة إذا دفعوا الرسم المقرر. إذن، فقضية النوادي الرياضية في مواجهة اللائحة الحكومية هي في الجانب الأكبر منها قضية حقوق وحريات في مواجهة السلطة، وليست قضية استعلاء أو انعزال طبقي في مواجهة بقية المواطنين، وسائر الشرائح الاجتماعية. هذه الحقيقة هي ما تفسر الإقبال الكثيف من أعضاء النوادي الكبرى؛ هليوبوليس والأهلي والزمالك والجزيرة في القاهرة، وسموحة في الاسكندرية، على حضور الجمعيات العمومية الطارئة، كلٌ في ناديه، والتصويت الإجماعي لصالح لائحة كل ناد، رفضًا للائحة الحكومية، إذ أن الأعضاء خافوا على هذه المساحة المحدودة التي يمارسون فيها قدرًا من الحرية والخصوصية من التغول السلطوي، المنذر بتغريبهم على المدى الطويل، في مكان ألفوه، وعن تقاليد حرصوا على احترامها، وعن جماعة يعتزون بالانتماء إليها. ولا يصح هنا الجدال بأن وزارة الشباب والرياضة هي نفسها من أتاحت للأندية حرية الاختيار بين اللائحة الاسترشادية الحكومية، وبين لائحة خاصة يضعها كل ناد بشرط إقرارها من جمعية عمومية طارئة، لأن عدم إتاحة هذه الفرصة كان ليعد مخالفة جسيمة للقوانين الدولية للحركة الرياضية، ولأن الحكومة كانت تراهن على تعذر انعقاد الجمعيات العمومية بالنصاب المحدد، بشكل تعسفي، وفي شهر أغسطس المتعارف على كونه «شهر العطلات الصيفية». *** أما عن المستوى الثاني للنظر في هذه القضية، بوصفها حلقة في سلسلة أزمات اختلقها النظام، وعرّض نفسه وعرّض المجتمع لها، فلنتذكر أولًا هذه السلسلة المطوّلة، بداية من أزمة تيران وصنافير، والتي لا تزال تبعاتها تتداعى لدى الرأي العام، ثم أزمة إضراب عمال المحلة، فأزمة جزيرة الوراق، فأزمة محاولة تعديل الدستور، وأخيرًا أزمة خفض المعونة الأمريكية الذي أُعلن أن سببه هو السجل المحزن للنظام في انتهاكات حقوق الإنسان المصري، وقبل كل ذلك، ومعه وبعده، الأزمات الاقتصادية الطاحنة. هذه الأزمات كلها تندرج في سياق واحد، وهو معاناة النظام المصري في اللحظة الراهنة من أزمة اتصال وحوار وإقناع، رغم كل الصخب البادي على السطح، وأن المعادلة الحالية هي رفض شعبي يتنامى، وفرض سلطوي يتزايد، وكانت هذه هي الدائرة الخبيثة التي وقعت مصر فيها في السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك، إلا أنها جاءت مبكرة في النظام الحالى. إن تساوي قوة الرفض مع قوة الفرض يؤدي إلى الجمود، أما تفوق قوة الفرض فلا يضمن الاستقرار، في حين يجب أن يؤدي تفوق قوة الرفض إلى الاصلاح والتغيير.
ما بعد «ريجيني».. المصالح المشتركة والوعود السياسية يمهدان للقاء السيسي وجنتيلوني أسمهان سليمان ٢٩ أغسطس ٢٠١٧ قال مصدر دبلوماسي مصري إن اتصالات تجرى حاليًا لترتيب لقاء قصير، معلن، بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني، وذلك على هامش مشاركتهما المتوقعة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، المقرر عقدها في نيويورك الشهر المقبل. يأتي اللقاء المرتقب على خلفية إعلان وزير الخارجية الإيطالي أنجلينو آفانو، في ١٤ أغسطس الجاري، عن اقتراب عودة السفير باولو كانتيني لمكتبه بالقاهرة، في ظل التقدم الملحوظ في تعاون البلدين في التحقيقات الخاصة بقضية مقتل الباحث والطالب الإيطالي جوليو ريجيني. وعثر على جثة ريجيني في مطلع فبراير من العام الماضي، وعليها آثار تعذيب شديد، وذلك بعد أيام من اختفائه بالتزامن مع الذكرى الخامسة لثورة يناير، فيما تتهم أسرته السلطات المصرية بقتله، وهي التهمة التي تنفيها السلطات المصرية برغم اعتراف النائب العام المصري بخضوع ريجيني للرقابة الأمنية. كانت إيطاليا سحبت سفيرها في مصر، موريسيو ماساري، في أبريل ٢٠١٦، احتجاجًا على عدم تعاون الجانب المصري في الكشف عن مرتكبي حادث مقتل الطالب الإيطالي. من جانبه، قال المصدر الدبلوماسي إن عودة تبادل السفراء التي رجح أن تتم في أكتوبر المقبل أتت نتيجة لجملة من التفاهمات المتبادلة، كان منها اتصالات قام بها عدد من رجال اﻷعمال الذين يجمعهم تعاون كبير مع الجانب الإيطالي، إضافة إلى «اتفاقات مبدئية مهمة» للتعاون الاقتصادي بين البلدين، وأخيرًا «دعم كبير من الإمارات العربية المتحدة». في الوقت نفسه قال مصدر آخر بوزارة الخارجية المصرية إنه تم إبلاغ هشام بدر، مساعد وزير الخارجية، والمرشح سفيرًا لمصر لدى إيطاليا، أنه سيبقى مرشحًا لسفارة روما، خلفًا لعمر حلمي، الذي أنهى مهمته في روما في ديسمبر العام الماضي. وبحسب المصدر، لم يتم تضمين بدر في الحركة الدبلوماسية اﻷخيرة الصادرة في نهاية يوليو الماضي، نظرًا لاعتبارين؛ أولهما أن إيطاليا لم تعيد ترشيح كانتيني إلى منصب آخر في الحركة الدبلوماسية التي صدرت قبل نظيرتها المصرية، وثانيهما هو أمل القاهرة في تولي بدر مهام منصبه قريبًا، وأنها لا ترغب في سحب ترشيحه رغم عدم تحريك طلب الموافقة الدبلوماسية للاعتماد خوفًا من إرسال إشارة سلبية إلى روما. مصدر حكومي إيطالي، تحدث لـ «مدى مصر» من روما، مشددًا على الاحتفاظ بهويته، أشار إلى أن عودة تبادل السفراء ستتم في اﻷغلب ما بين أواخر سبتمبر ومطلع أكتوبر. وقال المصدر إنه في حين كانت «المصالح المشتركة الكبيرة» عنصرًا دافعًا لإعادة السفراء لمدن خدمتهم، «غير أننا تلقينا من القاهرة أوراق تحقيقات مطلوبة، تم توجيهها من مكتب النائب العام المصري إلي مكتب النائب العام الإيطالي، وكذلك وعدًا باستمرار التشاور للنظر في كيفية التعامل مع ملف شرائط كاميرات مترو الأنفاق في المحطة الأخيرة التي نظن أن جوليو اختفى عندها، فضلًا عن وعد سياسي صريح، لن أقول على أي مستوى، بالتعامل القانوني السليم مع عدد من المشتبه فيهم في فترة زمنية ليست بالضرورة قصيرة جدًا، مع الاتفاق على عدم إعلان أي تفاصيل من الجانبين قبل انتهاء الإجراءات الفنية والقانونية». كان النائب العام المصري قد وافق، في يناير الماضي، على طلب المحققين الإيطاليين بمشاركة خبراء ألمان في استرجاع بيانات كاميرات المراقبة بمحطتي متر أنفاق الدقي ومحمد نجيب، قبل أن يتم التراجع عن تلك الخطوة في أبريل، وهو ما برره وقتها مصدر حكومي مصري تحدث لـ «مدى مصر»، موضحًا «أبدينا استعدادنا لاستقبال الخبراء الألمان والتعاون معهم، لكنهم أخبرونا بأنهم سيضطرون لنقل الأشرطة إلى معاملهم الموجودة في ألمانيا والولايات المتحدة لأسباب فنية، وهذا أمر مرفوض بتاتًا من جانبنا». فيما أضاف المصدر الحكومي الإيطالي أن الخطوة المتوقعة من القاهرة والتي يمكن أن تحدث نقلة كبيرة حاليًا هي التعاون بصدد عرض وتحليل كاميرات مترو الأنفاق. واستكمل «لم يكن ممكنًا فيما سبق أن نقبل الروايات المفبركة، ولا كان ممكنًا للحكومة فيما مضى، ولا يمكن لها الآن، أن تتصرف دون حدوث تقدم حقيقي يمكن تقديمه للرأي العام الإيطالي، ولأسرة ريجيني التي تتحرك باستمرار للمطالبة بالكشف عن الحقيقة وراء مقتل ابنها». كانت الداخلية المصرية، قد أعلنت في مارس الماضي، عن قتلها خمسة أشخاص، اتهمتهم بالانتماء لعصابة لخطف اﻷجانب، وزعمت أنها وجدت في منزل أحدهم بطاقات هوية ومتعلقات تخص ريجيني. ولم تصمد تلك الرواية بعد أن أثبت تتبع سجلات مكالمات الخمسة المقتولين بعدهم عن المكان الذي اختفى فيه الطالب الإيطالي. وكذلك بعدما نشرت جريدة ريبوبليكا الإيطالية، في أبريل الماضي، تقريرًا في نسختها المطبوعة، قالت فيه إن أحد المسؤولين عن تصفية أفراد العصابة المزعومة، هو ضابط، برتبة عقيد، وهو الذي وضع متعلقات ريجيني في منزل أحد الضحايا، وأن هذا الضابط نفسه كان واحدًا ممن قاموا بتفتيش شقة ريجيني قبل اختفائه، وهو الإجراء الذي تم بمعاونة من شريك ريجيني في السكن. وكشفت أسرة ريجيني، بعد قرار الحكومة الإيطالية مؤخرًا بإعادة السفير إلى مصر، أنها تمتلك أسماء ثلاثة مسؤولين أمنيين مصريين، قالت إنهم متورطين في تعذيب وقتل ابنهم. من جهته، أشار المصدر الإيطالي إلى المصالح الاقتصادية المختلفة المتاحة بين مصر وإيطاليا، بما فيها التوسع المحتمل في التعاون في استخراج الغاز الطبيعي، فضلًا عن المصالح الإقليمية الهامة بما في ذلك الوضع في ليبيا، وعلاقات مصر المتوترة مع إثيوبيا، على خلفية ملف سد النهضة، والتي تمتلك إيطاليا علاقات سياسية واقتصادية جيدة جدًا معها. إلا أنه استدرك قائلًا إن «كل ما يحتاجه الأمر من الجانب المصري هو تحرك جاد يمكن أن يدعم رغبة إيطالية جادة في تطوير العلاقات مع مصر، خاصة وأن القاهرة لا بد وأن تتذكر أن روما كانت أولى العواصم الداعمة للتغيير السياسي الذي شهدته مصر في صيف ٢٠١٣ وبدون أي تردد».
إخلاء سبيل مالك مصطفى ومحمد عبدالعظيم بكفالة ألفين جنيه لكل منهما في قضية «المجتمع المدني» مدى مصر ٢٩ أغسطس ٢٠١٧ أخلى قاضي التحقيق المستشار هشام عبدالمجيد، في القضية رقم ١٧٣ لسنة ٢٠١١، اليوم الثلاثاء، المعروفة إعلاميًا بقضية «المجتمع المدني»، سبيل كل من مالك مصطفى والمحامي محمد عبدالعظيم بكفالة قدرها ٢٠٠٠ جنيه لكل منهما، بعد توجيه اتهامات لهما بالاشتراك في أنشطة مركز هشام مبارك للقانون. وكان قاضي التحقيق ضم المخلى سبيلهما إلى القضية، عقب جلسة التحقيق المنعقدة الثلاثاء الماضي، والتي وجهت فيها اتهامات للمحامي مالك عدلي بمساعدة مركز هشام مبارك بالمشاركة في أعمال تضر بالأمن القومي، وللمحامي أسامة خليل بالاشتراك مع آخرين في مركز هشام مبارك بتلقي أموال للتحريض على مؤسسات الدولة والاشتراك مع المركز في ممارسة نشاط الجمعيات الأهلية دون ترخيص والتهرب الضريبي، ثم أخلى سبيل مالك عدلي بضمان محل الإقامة وأسامة خليل بكفالة ٣ آلاف جنيه. كان «عبدالمجيد» قرر إخلاء سبيل المحامي الحقوقي أحمد راغب في يونيو الماضي بكفالة قدرها خمسة آلاف جنيه بصفته أحد مؤسسي مركز هشام مبارك للقانون، في ذات القضية، حيث واجه اتهامات بـ «الاشتراك مع آخرين في تلقي مبالغ مالية من جهات خارجية واردة لمركز هشام مبارك، كونه كيان غير مسجل، وصرفها في أوجه غير مشروعة بقصد الإضرار بالأمن القومي وصالح البلاد». كما واجه مدير المركز مصطفى الحسن، في وقت سابق تحقيقات مشابهة قبل إخلاء سبيله بكفالة ٢٠ ألف جنيه بعدما وجهت إليه تهمًا بـ«تلقي أموال للإضرار بالمصلحة الوطنية وهدم أعمدة الدولة الأساسية الجيش والشرطة والقضاء، وإنشاء كيان يمارس عمل الجمعيات دون تسجيل. وأخيرًا تهمة التهرب من سداد ضريبة إيرادات». وشهدت الفترة الأخيرة موجة من التحقيقات المكثفة مع عدد من العاملين في المنظمات الحقوقية المختلفة، منهم مؤسس المركز المصري للحق في التعليم عبدالحفيظ طايل، والذي أُخلي سبيله بكفالة ٢٠ ألف جنيه في اتهامات مشابهة، بالإضافة إلى مدير مكتب مصر بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان محمد زارع. وأخلى قاضي التحقيق سبيل «زارع» بكفالة ٣٠ ألف جنيه. وأمر «عبدالمجيد» أيضًا بإخلاء سبيل مدير مركز قضايا المرأة عزة سليمان، بكفالة ٢٠ ألف جنيه بعد التحقيق معها في ديسمبر الماضي. وكانت الشرطة تحفظت على «سليمان» من منزلها واقتادتها إلى مقر التحقيق، بعد صدور قرار بضبطها وإحضارها.
حقوقيون يطعنون على«تجديد ندب» قاضي التحقيق في قضية «المجتمع المدني» أمام القضاء الإداري مدى مصر ٢٨ أغسطس ٢٠١٧ طَعَنَ عدد من الحقوقيين المتهمين في قضية «منظمات المجتمع المدني» أمام القضاء اﻹداري السبت الماضي، وذلك لوقف وإلغاء قرار رئيس محكمة استئناف القاهرة بتجديد نَدَبَ قاضي التحقيق في القضية، حسب بيان أصدروه اليوم الإثنين. وقد تقدم بالطعن كلٍ من بهي الدين حسن، وجمال عيد، وعايدة سيف الدولة، وعزة سليمان، ومحمد زارع، ومزن حسن، ومصطفى الحسن. ويباشر قاضي التحقيق هشام عبد المجيد عمله في القضية للعام الثالث على التوالي، مما اعتبره الطاعنون مخالفًا للمادة ٦٦ من قانون الإجراءات الجنائية. وتشترط المادة أن يكون نَدَبَ قضاة التحقيق لمدة لا تتجاوز ٦ أشهر، يجوز تجديدها لمرة واحدة لمدة مماثلة. كما اعتبر البيان أن قاضي التحقيق «ولمدة عامين على الأقل باشر عمله دون ولاية قانونية أو قضائية، أصدر خلالهما عشرات القرارات الباطلة قانونًا بالمنع من السفر وطلبات بمنع التصرف في الأموال، فضلاً عن قرار واحد على الأقل بالضبط والإحضار». وقال محمد زارع، مدير مكتب مصر في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، لـ «مدى مصر» «إن المشاكل في اﻹجراءات تُشكك في المحاكمة ككل، كما تُشير إلى وجود نية مُسبَّقة ﻹدانة المتهمين». وقد تقدم الحقوقيون بالطعن بعد عدد من قرارات الاستدعاء للتحقيق مع المتهمين، خلال الفترة اﻷخيرة، والتي واجههوا فيها اتهامات تتعلق بتلقي أموال للتحريض على مؤسسات الدولة، والاشتراك في كيان يمارس نشاط الجمعيات الأهلية بدون ترخيص، والتهرب الضريبي. وكان آخر الجلسات قد خصصت للتحقيق مع كلٍ من مالك عدلي وأسامة خليل الأسبوع الماضي. وقد أوضح البيان أن القانون يقيد عمل قاضي التحقيق لمدة ستة شهور ﻹنجاز تحقيقه. وفي حالة عدم قدرة القاضي على الانتهاء من تحقيقه يتقدم بطلب للجمعية العامة لمحكمة الاستئناف لمَدّ فترة انتدابه لستة أشهر أخرى كحد أقصى على أن يوضح فيه أسباب عدم تمكنه من الانتهاء من التحقيقات. وجاء في البيان أن «الغرض من تقييد فترة ندب قاضي التحقيق هي إنجاز التحقيقات حتى لا يبقى الاتهام سيفًا مُعلقًا فوق رقاب المتهمين لفترة طويلة، خصوصًا مع اﻹجراءات التي اتخذها القاضي خلال تحقيقاته من التحفظ على أموال المتهمين ومنعهم من السفر». وكان زارع قد تقدم خلال جلسة التحقيق معه، في مايو الماضي، بطلب للاطلاع على المذكرات التي تقدم بها قاضي التحقيق لبيان أسباب عدم تمكنه من الانتهاء من التحقيق وطلب فترة إضافية، ليكون ذلك متماشيًا مع المادة ٦٦ من قانون الإجراءات الجنائية. وأوضح زارع لـ «مدى مصر» أن محكمة استئناف القاهرة كانت قد وافقت على الطلب الخاص بالاطلاع على المذكرات. وقد رفض قاضي التحقيق، وقتها، تنفيذ الطلب وعرض المذكرات المطلوبة على زارع وفريق الدفاع عنه. وكانت التحقيقات في قضية ١٧٣ لسنة ٢٠١١، المعروفة بقضية «المجتمع المدني»، قد أُثيرت، في ديسمبر من العام ٢٠١١. وقد وجهت اتهامات إلى العاملين في منظمات غير حكومية بإدارة منظمات والحصول على تمويل من حكومات أجنبية دون ترخيص بذلك. وانقسمت القضية، وقتها، إلى شقيَن؛ يختص اﻷول بالمنظمات غير الحكومية الأجنبية، بينما يتعلق الثاني بمثيلاتها المحلية. وكانت محكمة جنايات القاهرة قد أصدرت، في يونيو ٢٠١٣، حُكمها على ٤٣ متهمًا بعقوبات حبس لمددٍ تتراوح بين عام واحد وخمسة أعوام، وذلك فيما يخص المنظمات غير الحكومية الأجنبية. وكان من ضمن المتهمين ١٧ مواطنًا أمريكيًا فضلًا عن أجانب تنوعت جنسياتهم بين الألمانية، والصربية، والنرويجية، والأردنية وعدد من المصريين. وقد صدر الحكم غيابيًا ضد العديد من المتهمين في القضية. كما أمرت جنايات القاهرة بإغلاق المنظمات غير الحكومية المتهمة ومنها «المعهد الجمهوري الدولي»، «المعهد الوطني الديمقراطي»، و«فريدوم هاوس». فيما تستكمل التحقيقات المتعلقة بالمنظمات المحلية، والتي تجدد الاستدعاء للعاملين بالمجتمع المدني لجلسات تحقيق من جانب عدد من القُضاة منذ ديسمبر ٢٠١٤. وكان آخرهم قاضي التحقيق هشام عبد المجيد.
اتفاق مصري إسرائيلي تخفيض غرامة التحكيم مقابل استيراد الغاز وترسيم الحدود البحرية أحمد سعيد أسمهان سليمان ٢٨ أغسطس ٢٠١٧ توصلت الحكومة المصرية إلى اتفاق مبدئي مع نظيرتها الإسرائيلية على حل لأزمة قضية التحكيم الدولي بينهما المتعلقة بتغريم قطاع البترول المصري نحو ١.٧٦ مليار دولار، بسبب وقف تصدير الغاز لتل أبيب. وأكدت أربعة مصادر مصرية على علم وثيق بتطورات المفاوضات ومن بينها مصادر حكومية لـ«مدى مصر» أن الحكومة الإسرائيلية وافقت «بشكل مبدئي» على تخفيض قيمة الغرامة، مقابل أن تسمح مصر للقطاع الخاص باستيراد الغاز من إسرائيل، بالإضافة إلى فتح باب التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. وكشف مسؤول مصري على اطلاع مباشر على ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية أن مسألة إطلاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل كانت موضوعًا لحوار مباشر بين الرئيس، عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في لقاء غير معلن عقده الاثنان في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من العام الماضي. وأضاف المسؤول أن وفودًا من البلدين تبادلت زيارات أولية في هذا الشأن وأن إسرائيل تسعى لقبول مؤسسة الرئاسة بمسودة ترسيم مقترحة يمكن فيما بعد التفاوض حول تفاصيلها وسبل تنفيذها بين الجهات المعنية في البلدين. كانت غرفة التجارة الدولية بجنيف قد أصدرت حكمًا نهائيًا، في أواخر ٢٠١٥، يقضي بإلزام الشركة القابضة للغازات الطبيعية «إيجاس»، والهيئة العامة للبترول بدفع تعويض بقيمة ١.٧٦ مليار دولار لشركة كهرباء إسرائيل، بالإضافة إلى ٢٨٨ مليون دولار لصالح شركة غاز شرق المتوسط، بعد قرار مصر وقف تصدير الغاز لتل أبيب في ٢٠١٢. وكانت مصر تصدر الغاز الطبيعي إلى إسرائيل منذ ٢٠٠٨، بموجب اتفاق مدته ٢٠ عامًا، من خلال خط أنابيب شركة غاز شرق المتوسط، ثم تعرض ذلك الخط لعدة هجمات بعد ثورة يناير ٢٠١١ على يد مسلحين من سيناء. وفي أبريل ٢٠١٢ قررت «إيجاس» إنهاء التعاقد مع الحكومة الإسرائيلية، مبررة ذلك بتراكم مستحقاتها لدى شركة غاز شرق المتوسط، التي تتوزع ملكيتها بين رجال أعمال مصريين وإسرائيليين. وقالت المصادر الأربعة، التي طلبت عدم كشف هويتها بسبب سرية المفاوضات، إن الحكومة المصرية لجأت إلى وساطة أمريكية وأوروبية لحل أزمة قضية التحكيم الدولي المرفوعة من الجانب الإسرائيلي، وتم التوصل لاتفاق مبدئي على تخفيض قيمة الغرامة إلى ما يتراوح بين ٣٠٠ إلى ٥٠٠ مليون دولار، مشيرة إلى أن المفاوضات لازالت جارية بشأن القيمة النهائية للغرامة وتفاصيل السداد. ويتطلب استيراد الغاز من إسرائيل حصول الشركات المصرية والأجنبية العاملة في مصر على موافقة من الجهاز القومي لتنظيم سوق الغاز المصري، والذي أصدرت الحكومة قانونًا بإنشائه مطلع أغسطس الجاري وصدق رئيس الجمهورية عليه بعد إقراره بمجلس النواب. وبموجب قانون تنظيم سوق الغاز ستتمكن شركات القطاع الخاص للمرة الأولى من استيراده وبيعه داخل السوق المصرية بعد الحصول على ترخيص من الجهاز. وتسعى الشركات الخاصة في مصر إلى البدء في استيراد الغاز خلال العام المقبل عقب الحصول على التراخيص. اتفاقات مبدئية للاستيراد من إسرائيل وقعت شركات تعمل في مصر اتفاقات مبدئية خلال ٢٠١٥ لاستيراد الغاز من إسرائيل وتسييله في محطات الإسالة التابعة لتلك الشركات لإعادة تصديره مسالًا، حيث تلتزم تلك الشركات بعقود تصديرية. ولجأت تلك الشركات لذلك بعد تعرض السوق المصري لأزمة في إمدادات الغاز الطبيعي، مما دفع الحكومة إلى وقف إمداداتها من الغاز لمحطات الإسالة بغرض التصدير وتوجيهها إلى محطات الكهرباء. ويوجد بمصر مصنعان لإسالة الغاز الطبيعي، الأول مصنع إدكو، المملوك للشركة المصرية للغاز الطبيعي المسال، ويضم وحدتين للإسالة، والآخر في دمياط ويتبع شركة يونيون فينوسا الإسبانية الإيطالية ويضم وحدة واحدة فقط. والشركة المصرية للغاز الطبيعي المسال، المالكة لمصنع إدكو، تأسست باستثمارات أجنبية بحوالي ملياري دولار، وتساهم في رأسمالها الهيئة المصرية العامة للبترول بنسبة ١٢% والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) بنحو ١٢%، وكل من «بى جى» بنسبة ٣٥.٥%، والتي استحوذت عليها شركة شل الهولندية، وبتروناس الماليزية بنحو ٣٥.٥%، وغاز دى فرانس بنسبة ٥%. كما وقعت شركة دولفينوس القابضة، المملوكة لرجال أعمال مصريين بقيادة علاء عرفة، عقودًا لاستيراد الغاز من إسرائيل. بي جي مصر (التي استحوذت عليها شل) اتفقت بشكل مبدئي على استيراد ٧ مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا من حقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي العملاق لوثيان إلى مصنع الإسالة في إدكو بدمياط، لمدة ١٥ عامًا عبر خط أنابيب تحت الماء، وبقيمة ٣٠ مليار دولار خلال مدة العقد. يونيون فينوسا جاس الأسبانية وقعت خطابًا أوليًا مع شركة نوبل إنيرجي الأمريكية التي تمتلك نسبة ٣٦% في حقل تمار للغاز الإسرائيلي، لتوريد نحو ٢.٥ تريليون قدم مكعب من الغاز على مدى ١٥ عامًا إلى مصنع إسالة الغاز الطبيعي في دمياط. دولفينوس القابضة استيراد ما يصل إلى ٤ مليارات متر مكعب سنويًا من الغاز الإسرائيلي لمدة تتراوح بين ١٠ إلى ١٥ سنة، بحسب ما أعلنته دولفينوس في ٢٠١٥. مفاوضات ترسيم الحدود أحد المصادر الأربعة التي تحدث إليها «مدى مصر» ذكر أن الاتفاق المبدئي بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية لحل أزمة قضية التحكيم الدولي يتضمن أيضًا فتح المفاوضات الخاصة بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وذلك ضمن مفاوضات أوسع لترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان. وقامت مصر بترسيم حدودها البحرية مع قبرص عام ٢٠٠٣، فيما لا تزال المباحثات الفنية مستمرة بين القاهرة وأثينا بشأن ترسيم الحدود بين البلدين. ولم توقع مصر اتفاقًا لتعيين حدودها البحرية مع إسرائيل أو السلطة الفلسطينية حتى الآن. وقال المصدر «توجد تفاهمات بين مصر وقبرص واليونان وإسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية فيما بينها، حيث توجد خطة لدى الدول الأربعة تتضمن ترسيم الحدود بما يمكنها من البدء في استخراج الغاز الطبيعي في منطقة حوض شرق البحر المتوسط، مما يساعد على تحول تلك المنطقة إلى مركز إقليمي للطاقة». لكن المسؤول الحكومي المطلع على ملف العلاقات مع إسرائيل قال إن هناك تباينًا في الآراء داخل مؤسسات الدولة المصرية بشأن التعاطي مع المقترح الإسرائيلي بالبدء في عملية فنية لترسيم الحدود البحرية. وتتمحور تحفظات بعض الجهات الرسمية المصرية، وفق المسؤول نفسه، حول نواحٍ بعضها فني، يتعلق بالأميال البحرية التي ترغب إسرائيل في الحصول عليها، والبعض الآخر سياسي وأمني، خاصة فيما يمس المسؤوليات الأمنية التالية لترسيم الحدود والالتزام بالحصار البحري المفروض على غزة، والآثار المحتملة لأي اتفاق حدودي مصري إسرائيلي على السيادة والحقوق المائية للفلسطينيين مستقبلًا. لكن المسؤول أضاف أن أطرافًا ومؤسسات أخرى في كل من القاهرة وتل أبيب ترى فرصة سانحة لإنجاز تقدم في هذا الملف، في ضوء التحسن غير المسبوق في العلاقات المصرية الإسرائيلية على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، فضلًا عن الفرص الاستثمارية الواعدة التي تقدمها اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. وتشير دراسات المؤسسة العامة للمسح الجيولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن احتياطيات حوض البحر المتوسط تقدر بنحو ١٢٢ تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى حوالي ١٠٧ مليارات برميل من النفط الخام. وتسعى الدول الأربعة إلى استغلال البنية التحتية المملوكة لمصر، في مجال تسييل الغاز الطبيعي وتحويله إلى غاز مسال، حيث لا تمتلك الدول الثلاث محطات إسالة، وبالتالي تسعى لاستخراج الغاز الطبيعي من البحر المتوسط وتسييله في محطات الإسالة المصرية التي تقدر الطاقة الاستيعابية لها بنحو ٢.١ مليار قدم مكعب من الغاز يوميًا، وهو ما يساعد تلك الدول على تصدير إنتاجها بعد تسييله في مصر.
«١٩٨٤» المصرية الحرب على الكلمة أحمد القهوجي ٢٨ أغسطس ٢٠١٧ «لم يكن الهدف الوحيد من وراء استخدام اللغة الجديدة هو تقديم وسيط للتعبير عن وجهات نظر أعضاء حزب الاشتراكية الإنجليزية أو عاداتهم العقلية فحسب، بل كان من ضمن الأهداف أيضًا جعل كل طرق التفكير الأخرى مستحيلة. كانت الغاية من وراء وأد اللغة القديمة واعتماد نظيرتها الجديدة ألا يمكن أصلًا التفكير في الفكرة الفاسدة، أي الفكرة التي تخالف مبادئ الحزب، نظرًا لاعتماد الفكر على اللغة... وقد تم التوصل لهذه الغاية من خلال اختراع كلمات جديدة، وبصورة خاصة من خلال حذف الكلام غير المرغوب فيه، وكذلك إسقاط المعاني الثانوية الفلسفية والسياسية عن الألفاظ الباقية.» المقتطفات السابقة من رواية «١٩٨٤» للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، وقد نصحتني زوجتي العزيزة هبة بقراءته بعد أن حدثتها عن رغبتي في كتابة مقال يناقش الظاهرة الحالية لتحجيم الفكر وحرية التعبير في الفضاء السياسي المصري، من خلال إفقار اللغة وسجن الكلمة. في هذه الفقرة، يتحدث أورويل عن الغاية من وراء استحداث اللغة الجديدة (Newspeak)، بعد أن فرغ من شرح قواعدها التي تعتمد على الإنقاص التدريجي للمفردات والاختزال المجحف للأفكار من خلال استخدام مصطلحات مبسطة تخرجها عن معانيها الأصلية، وفقًا لخطة مرسومة من النظام «الثوري» الحاكم، وبحيث يتقبل الناس أن اثنين زائد اثنين تساوي خمسة، لعدم وجود المنطق أو الكلمات التي تسمح بالتفكير بكون الإجابة هي أربعة. وقد فاجأني مدى التماثل في الوسائل بين «وزارة الحقيقة» في عالم أورويل الديستوبي، وبين ما يحدث في مصر حاليًا على مستوى الحرب على حرية الكلمة والتعبير، وإن كنت أستبعد طبعًا أن تكون أية خطة مكتوبة وموضوعة بعناية في درج إحدى الوزارات مجدية، بمعنى أنه لا يوجد إطار عام ولكن يوجد نهج يعكف على عملية تقييد اللغة، وبالتالي الفكر، على المستويات السياسية والقانونية والاجتماعية المختلفة، وهو ما يتضح مثلًا من التوجيهات الرئاسية للإعلام بخلق «فوبيا من سقوط الدولة»، ما يعني بالتبعية إخراج كلمات مثل «مظاهرة» و«مطالب» و«إصلاح» و«ثورة» من دائرة «المفكَّر فيه»، وإدخالها في دائرة الممنوعات اللغوية، وبالتالي تكريس رؤية أحادية للعالم ترى الواقع والأحداث وفق عقلية «اسمعوني أنا بس». ماهية الحرب يقول الفيلسوف الألماني هيردر إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر، بل هي أيضًا القالب الذي يتشكل فيه الأخير، وبالتالي فإن «كل أمة تتكلم كما تفكر، وتفكر كما تتكلم»، وقد ساهم العالِم السوفييتي ليف فيجوتسكي في تأكيد ما سبق من خلال أبحاثه في علم النفس التي ربطت بين استيعاب اللغة لدى الطفل من جهة، ونموه الفكري من جهة أخرى. استحضار الأراء السابقة لا يعني أني أنكر عجز الكلمات أحيانًا عن التعبير عما يجول بخاطري، ولكن كلمة «كمبيوتر» أو «طائرة» مثلًا تثير في ذهني وذهنك معاني ومفاهيم محددة وواضحة قد يعتبرها ساكن القرن الخامس عشر شيطانية. اللغة إذن تحكم الفكر بدرجة أو بأخرى، ومن هذا المنظور تصبح اللغة مسألة سياسية بامتياز، تسعى السلطة الحاكمة لتقنينها والسيطرة عليها، فلا ننسى إشارة إنجيل لكون جريمة المسيح التي صُلب لأجلها كانت ازدراء الشريعة اليهودية، أي أن كلماته، بما حملته من معان، هدّدت النظام السياسي والاجتماعي السائد آنذاك، بما استوجب قتله. كما أن عملية «التتريك» التي قامت بها الدولة العثمانية تشهد على هذه الرغبة السياسية في السيطرة على الوعاء اللغوي والثقافي للشعوب المستضعفة، وهو ما يذكّر بما قامت به الإمبراطورية الفرنسية في مستعمراتها من سحق اللغات المحلية وإحلال الفرنسية محلها. ما يحدث حاليًا في الفضاء السياسي المصري هو امتداد للسوابق التاريخية التي تريد أن تحكم الفكر من خلال تقييد الكلمة، ولا أدل على ذلك من حجب الحكومة المصرية لعدد من المواقع الإلكترونية، بدعوى نشرها أخبارًا كاذبة، دون تقديم أدلة محددة تدين هذه المواقع، وفي محاولة لتجفيف مصادر الكلمة غير الرسمية. من نفس المنظور يمكن تحليل مشروع القانون المقترح لحظر نشر أي أخبار أو معلومات تتعلق بالمؤسسة العسكرية إلا بتصريح كتابي من القيادة العامة للقوات المسلحة، وهو تعنت يضرب التناول الصحفي الموضوعي في مقتل، ولا يختلف عن ذلك ما حدث لإبراهيم عيسى أو منظمات المجتمع المدني أو الدعاوي القضائية ضد حسام بهجت وإسماعيل الإسكندراني وباسم يوسف، ولعل الأخير أخطرهم لأن برنامجه كان أكثر اختراقًا للبيت المصري، ولأن فكرته قامت على كشف التناقض في كلمة السلطة. يوضح ما سبق الغاية من الحرب على الكلمة؛ ترسيخ نسخة رسمية في قراءة الأحداث لا يأتيها الباطل لا عن يمينها ولا عن شمالها، وتختلط هذه الغاية مع ماهية الحرب بحيث يصعب الفصل بينهما، وفي سبيل ذلك تحرك السلطة الحاكمة مجموعة من الأدوات التي تساعدها على تحقيق هذه الغاية. أدوات الحرب اذا كانت اللغة ترسم حدود الفكر، فان أول أداة لتحجيم الثاني هي بإفقار الأولى. يحدثنا بيير بورديو عن نزوع النظام الاقتصادي العالمي، ممثلًا في هيئات دولية مرموقة مثل صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية ومؤسسات علمية بمكانة كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لتغيير المعجم اللغوي الاقتصادي، بما يتناسب مع الأيدولوجية النيوليبرالية الأمريكية، فالإمبريالية أصبحت تسمى «عولمة» والاستغلال أصبح «إقصاء»، واختفت من تقارير هذه الهيئات كلمات مثل «رأسمالية» و«طبقات» و«احتكار»، وغيرها من الكلمات التي تعكس الصراعات الاجتماعية أو العلاقات الاقتصادية غير المتوازنة، وهو توجه يرى فيه بورديو نوعًا من الاستعمار الثقافي الرمزي الذي يفرض لغته، وبالتالي مفاهيمه ورؤاه، على الطرف الضعيف. قد يجري إفقار اللغة من خلال الاختزال السطحي للمفاهيم على طريقة «الليبرالية تعني أن تخلع والدتي الحجاب»، فمثل هذا النهج يفرغ الكلمة من حمولتها المعنوية ويدمغها بصيت سيء السمعة يمنع النقاش الحقيقي حولها، كما يكون الإفقار بمنع تداول مجموعة من الكلمات عن طريق تجريم استخدامها، وما يهمني في هذا المجال هو المصدر السلطوي لعملية الإفقار. مع اختلاف المدى والغايات، لنأخذ فرنسا نموذجًا للتدليل على التدخل الرسمي في تقييد اللغة، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو تجريم إنكار الجرائم ضد الإنسانية، وبصفة خاصة الهولوكوست، ومعاقبة مرتكبها بالحبس لخمس سنوات وغرامة ٤٥ الف يورو، من خلال ما يعرف بـ«قوانين الذاكرة»، التي يُترك للقاضي فيها تقدير تحقق الجريمة من عدمه. في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، شكّك الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في التحقق المادي للهولوكوست، من خلال الجدل الذي أثاره حول مفهوم «الحل النهائي» الذي اعتمده النظام النازي للتخلص من اليهود، وترتب على ذلك إحالة جارودي لمحكمة الجنايات الفرنسية التي عاقبته على كلماته، من منطلق أن حرية التعبير لا تكفل التشكيك في وقائع متحققة، حتى على مستوى البحث الأكاديمي التاريخي، وأن مجرد الإنكار، ولو بطريق الإشارة، يكشف عن شخصية تعادي السامية وتبرّر لجرائم النازية، أي أن التعبير بكلمات تخالف القراءة الرسمية للماضي يضع صاحبه تحت طائلة المساءلة الجنائية. على نفس المنوال يمكن النظر للجدل المثار حول عبارة «لستُ شارلي»، التي انتشرت بعد الحادثة الإرهابية التي طالت الجريدة الساخرة «شارلي هبدو»، في تعبير من بعض المواطنين عن عدم موافقتهم على المحتوى الذي تقدمه الجريدة. وبصرف النظر عن موقفهم الشاجب للحادثة أو المدافع عنها، فمجموع هاتين الكلمتين ترتّب عليه فصل لاعب كرة سلة من فريقه عقابًا له على سوء فعله، كما فُصل عدد لا بأس به من طلاب المدارس ممن استخدموا هذه العبارة على موقعي تويتر وفيسبوك. كان هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى الرسمي، فالمشرع الفرنسي يعاقب على جريمة التبرير للإرهاب، أي التعبير بالكلمات كتابة أو قولًا عن موقف يتضامن مع هذه الأفعال أو يبررها بأي شكل من الأشكال، ومن المضحك المبكي ما قامت به شرطة مدينة نيس، بناء على هذا النص، من استدعاء طفل عمره ثماني سنوات، تفوه بعبارة «لست شارلي» خلال إحدى الحصص المدرسية، للتحقيق معه في جريمته، فما كان منه الا أن أجاب المحقق بأنه لا يفهم أصلًا معنى كلمة «إرهاب». بعيدًا عن النقد الموجه لمسلك الشرطة الفرنسية في هذه القضية، إلا أنه يعكس وجود محاكم تفتيش لغوية مهمتها الكشف المبكر عن الاختلالات السلوكية للأطفال، وصولًا لتصنيفهم بحسب درجة استعدادهم للانحراف، بتعبير دينيس سالاس. ومع اختلاف المدى والغايات أيضًا، فإن السلطة الحاكمة في مصر تتدخل كذلك لتقييد الفكر، من خلال إفقار اللغة على مستويين اثنين الأول هو تجريم الكلام غير المرغوب فيه من خلال نصوص فضفاضة تعاقب على خدش الحياء العام مثلًا أو ازدراء الدين، وتُفعَّل هذه النصوص في المحاكم، حين تعتبر الدولة أن النظام الاجتماعي قد جرى المساس به، وبناء عليه ترى محكمة جنح مستأنف بولاق أحمد ناجي من هؤلاء «الكتاب ]الذين[ يسعون فى الأرض فسادًا ينشرون الرذيلة ويفسدون الأخلاق بأقلامهم المسمومة تحت مسمى حرية الفكر»، وهو بذلك يهدّد دور المشرع في «حماية للأخلاق والأدب مما يفسدهما، وحماية للمجتمع والكرامة الأدبية للجماعة التى قوامها الدين والأخلاق والوطنية». ولنا أيضًا عبرة في بلاغ الأزهر بحق إسلام البحيري الذي اعتبره «يبث أفكارًا شاذة تمس ثوابت الدين، وتنال من تراث الأئمة المجتهدين المتفق عليهم، وتسيء لعلماء الإسلام، وتعكر السلم الوطني، وتثير الفتن». فمجرد الحديث في نقد التراث ورفع القداسة عن بعض الشخصيات التاريخية لا بد من التصدي له بشدة، لأنه قد يجعل من المقبول نقد وتعرية قداسة شخصيات الحاضر. أما المستوى الثاني فهو إعادة تعريف بعض المفاهيم، بما يخرجها عن دلالتها المعنوية المستقرة كما في مثال «الليبرالية تعني أن تخلع والدتك الحجاب»، فعبارة «تحيا مصر» مثلًا أصبحت غمزة للنظام الحاكم ورأسه، وعبارة «حقوق الإنسان» تستدعي المؤامرات الكونية والتمويل الأجنبي، و«ثورة يناير» تحولت إلى «٢٥ خساير»، بل أن مفهوم «الثورة» نفسه أصبح مقتصرًا على ذلك الحراك الشعبي الذي تقوده أو تدعمه إحدى مؤسسات الدولة (غالبًا العسكرية)، على طريقة «مبارك أول من أيّد ثورة يناير»، بصوت فريد الديب. على أن التجريف المعنوي الأخطر والأعمق قد أصاب مصطلح «الوطنية» الراسخ عبر التاريخ والمتمحور حول مفهومي «الأرض» و«العرض»، وفقًا لعقيدة زرعتها السلطة في وجداننا من خلال الأدوات الثقافية والمناهج الدراسية، بداية من طرد الهكسوس، مرورًا بصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز وانتهاء بحرب أكتوبر وملحمة طابا، تلك التي رسخ في الوجدان الشعبي أن التنازل عنها بمثابة تخلي الأم عن أولادها، وفقًا لتصريح حسني مبارك في احدى المقابلات الصحفية، حين مال بجانبه الأيمن الى الأمام قليلا في نفس اللحظة التي ركز فيها المخرج الكادر على محياه عند التلفظ بالتشبيه في قمة الأداء المسرحي. هذا المفهوم الراسخ للوطنية تزلزلت أعمدته حين أثير موضوع التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة السعودية لأول مرة، وتشقق سقفه حين طعنت الحكومة بنفسها على حكم بطلان التوقيع على الاتفاقية، وتهدم الصرح على رؤوس من فيه حين ضربت الحكومة عرض الحائط بالحكم النهائي لمجلس الدولة بمصرية تيران وصنافير، وأحيلت الاتفاقية إلى مجلس الشعب الذي صادق عليها في عجالة، وبالتالي أصبح المطالبون بمصرية الأرض «في الأساس خونة ويجب محاكمتهم، لأنهم يعملون من أجل مصالح شخصية لا مصلحة الوطن»، في مشهد عبثي وقع فيه العقل والمنطق رهينة الغوغاء، وأبدى البعض فيه استياءه من ورود اسمه خطأ ضمن النواب الذين قالوا بمصرية الجزيرتين. وفي جميع الأحوال أنهى الرئيس الجدل فيه بتوجيه واضح «مش عايزين كلام في الموضوع تاني»، لأن مجرد الكلام فيه مسلك مرفوض، فما بالك بالتظاهر حوله؟ وقد اكتمل تشويه معنى «الوطنية» حين أصبحت تعني حصريًا موالاة الرئيس والنظام الحاكم في كل همساته ولمزاته، فحين تنتقد أو تعترض، أو بأضعف الايمان تتساءل، تصبح خائنًا وعميلًا وخلية نائمة وطابورًا خامسًا. كان هذا عن الأداة الأولى للحرب والمتمثلة في تقييد الفكر من خلال إفقار اللغة، وهي تعتمد بالأساس على الحذف والتكرار وقصر ذاكرة الشعوب، على أن هناك سلاحًا أخر أقل استخدامًا ويقتضي تحريك طاقات ابداعية أدق، يتمثل في خلق كلمات جديدة تخدم أهدافًا سلطوية وتفرض واقعها الخاص على حركة الفكر. ولعل الإمبراطورية الفرنسية كانت سبّاقة في هذا المجال، فسلطة الاحتلال في الجزائر والمغرب ومدغشقر وهايتي وغيرها وظّفت مصطلحات جديدة هدفت لإخفاء مطامعها الاقتصادية وتغطية أهدافها الاستعمارية، فما قامت به لم يعد استعمارًا، بل «مهمة حضارية.. mission civilisatrice» اقتلعت بها السكان من جذور التخلف، والضريبة الظالمة المفروضة عليهم تصبح «ضريبة تهذيبية..impôt moralisateur» تهدف لتعليم الشعب قيمة العمل في زراعة قصب السكر المستخدم في إنتاج مشروب الرَم، بدلًا من حياة البداءة غير المنتجة رأسماليًا، وأخيرًا فإن الشعب الذي ينتزع حريته بساعديه عليه دفع «ثمن الاستقلال.. prix d’indépendance» عبر إيداع ٨٥% من الاحتياطي النقدي له في البنك المركزي الفرنسي، وهو ما تقوم به حتى اليوم ١٤ دولة أفريقية لم توف بعد دين احتلالها رغمًا عنها. كما أنه، وعلى نفس المنوال، يمكن تحليل مصطلح «الحرب الاستباقية» الذي طالعتنا به النخبة الأكاديمية في الولايات المتحدة تبريرًا لحرب العراق، واعتمده فيما بعد جنرالات الحرب الأمريكيون. أما على مستوى الفضاء المصري، فلن أطيل الحديث كثيرًا عن إثراء معجمنا اللغوي بمصطلحات مثل «مجلس إدارة العالم»، تلك الهيئة الميتافيزيقية التي تارة ما تحيك المؤامرات ضد الدولة المصرية وتسخّر في سبيل ذلك الموجات الكهرومغناطيسية والزئبق الأحمر، وتارة أخرى نسعد بعضوية الرئيس لها، فهذا المصطلح كان صنيعة الإعلاميين ولم يسهم في صنعه مصدر رسمي. المثال الأدق لهذا النوع من الأدوات الرسمية للحرب على الكلمة والفكر هو ابتداع مصطلح «أهل الشر» الذي يستخدمه الرئيس بإفراط، حتى من قبل وصوله للحكم في ٢٠١٤، وهو يعرفهم بقوله «أهل الشر شر يعني!» ومن خصائصهم أنهم ينشطون في مواسم معينة، كما أن شرهم هو السبب في افتقاد السلطة للشفافية في التعامل مع الشعب، فلا تفاصيل خاصة بالميزانية ولا شرح للمشاريع التنموية ولا تصريح بأماكن إنتاج الغاز حتى نتجنب خطرهم، وبجانب قدراتهم العالية على التنصت، فان أيديهم متشعبة في أماكن متعددة، فهم مصدر خطر على المملكة السعودية، وهم بذاتهم ضالعون في اغتيال النائب العام السابق وحادث الطائرة الروسية. تتسع مطاطية العبارة لتنطوي تحت لوائها مشارب مختلفة، سواء قوى دولية أو إقليمية أو حتى معارضة محلية، إلا أنها أصبحت مقدمة منطقية يتداولها الناس بدون تشكيك، وهنا خطورتها على تحجيم الفكر. سلاح الردع تحت عنوان «الحرب على الكلمات»، تنشر مجلة «أوت أند أباوت» الأمريكية عمودًا شهريًا، تحاول من خلاله الدفاع عن اللغة الإنجليزية من التشويه وسوء الاستخدام، ورغم اعتراف كتّابها بصعوبة التحدي، إلا أنهم يدركون أن مدخل الفكر هو اللغة. إن مساحات الحرية في مصر تتناقص بسرعة هائلة في السنوات الأخيرة، وبصفة خاصة على مستوى الرأي العام السياسي والثقافي، فالأقلام تُكسر والأجساد تُسجن والأفلام والأغاني تُمنع، ولا يبقى للروح سوى ميدان الفكر لتعلو فيه على المحظور وتعلن من خلاله تمردها وعصيانها، ومن هنا أهمية المقاومة على المستوى اللغوي التأسيسي، وضرورة مراجعة السلطة حين تؤطر الحاضر بكلماتها ورؤاها، حتى لا يقع إدراكنا فريسة فتنة الكلمات، ونضطر ذات يوم أن نحلم، كما حلم بطل رواية «١٩٨٤» في مذكراته، بزمن يتحرر فيه الفكر وتسود الحقيقة وتُقبل إمكانية الاختلاف بين البشر.