أجيال البنتاكور والفليب فلوب

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

من موقعي الثابت فى أحد شوارع حي رشدي بالإسكندرية، والمتابع لتفاصيل الشارع كشاشة سينما واقعية؛ رأيت تلك الفتاة الجميلة. فى بداية العشرينيات، قادمة فى الشارع تمشي مشية مرتاحة وهي تبتسم، وهناك شاب أيضا جميل ينتظرها ويقف بعدى بعدة خطوات، بجوار فسبا سوداء ضخمة، ويلبس "شورت" البنتاكور، وله ذقن خشنة نصف حليقة، مثل موضات القص الحديثة التى تتلاعب بشعر الذقن، وشعر هائش بحساب. ويلبس فانلة لها ماركة عالمية، باهتة قليلا، "مِجْرِبَّة"، ولكنها أيضا تشعر بأن بهتانها جزء من ألوان لوحة محسوب حساب ألوانها بدقة. 

خطت الفتاة عدة خطوات باتجاه الشاب، قالت له وهي تضحك قبل أن تصل إليه "أنا لسه متشقلبة من ع السرير حالا"، وكانت تمثل انقلابها من النوم بيديها كشىء يسقط فجأة من مكان عال. كانت تعتذر إلى الشاب عن انتظاره لها فى الشارع المجاور لبيتها. كانت الفتاة تلبس بنطلونا إستريتش أسود وبلوزة مشجرة بورود صفراء، ولها قصة شعر "كاريه"، ولبشرتها سمار برونزى منقوع فى شمس استراحات طويلة على رمال الشواطئ الخاصة في الساحل الشمالي، وتلبس فى قدمها شبشب "فليب فلوب" أبيض ورقيقا للغاية يظهر الأظافر ذات الحواف شديدة البياض. الفتاة لها جسم ممتلئ قليلا بدون إفراط يتناسب مع طولها، كأن هذا الامتلاء جزء من شخصيتها المرحة وحركة قدميها المنفرجتين للخارج. 

طوال وقفتهما معًا، التى دامت حوالي خمس عشرة دقيقة لا غير، كان الشاب خاضعا لمزاجها وضحكاتها وحضورها الأنثوي اللافت، لم يقدر أن يتحرر من سطوته، كان يحاول بالفعل، ولكنها كانت أقوى بكثير من كل حساباته التى قدرها قبل اللقاء السريع، لو كان هذا حدث بالفعل. لم تسعفه أناقته الكاجوال ولا تحفّظ صوته الذى حاول أن يجمح فيه صهيل خيول الصداقة التي تتسابق داخله. كان يسير بحذر وتكلف فى مضمارها النفسى، الملآن بالضحكات المتواصلة.

                                         *** 

الاثنان، الفتى والفتاة، لهما لمعة وبريق وأناقة موديل أصلى، مثل عارضي الأزياء، ولكن بروح رشيقة مرحة بحكم حداثة السن وخطورتها. روح غير متعبة أو مستهلكة، لا تقوم بدور هى مضطرة إليه، كما عارضي الأزياء، ولكن تقوم بدورها بدون أن تعرف أنه منفصل عنها. هذا الجيل الذي ينتميان إليه له رقة موحدة بين الجنسين. لا أقصد التشييء أو التقليل منهما، ولكن أناقتهما وبساطة مكونات هذه الأناقة، المكلفة جدا، أظهرتهما كأنهما خارجان توا "نوفي" من مصنع، وهذه هي التجربة الأولى لهما للسير فى الشارع، فقد حملا حولهما زجاجا عازلا كفاترينة يقفان خلفها، تفصلهما وتفصل ضحكاتهما ولمساتهما المتبادلة عن هموم الشارع وشحاذيه ومحلاته وعرباته وبوابيه ومتطفليه من أمثالي. 

هناك نسخ غير متقنة من هؤلاء، عارضي الأزياء الطبيعيين، ولكن ما يخفي عدم إتقانها أو ادعائها، روح وذائقة جيل جديد مختلف ومتناسق مع هذه الروح الجديدة، وهذا الشكل فى الأداء الذى يميل للاستعراض، مهما كانت درجة وحدته أو مأساته أو شكل طفولته أو عكوفه على نفسه أو أنانيته.

                                                ***

قطاع كبير من هذا الجيل الجديد، فى الإسكندرية، من لابسي شورت البنتاكور والبرمودا وشبشب الفيلب فلوب؛ منفصل تماما عن عالم السياسة ولا يعرفون نموذج "الثورى"، وربما لا يرغبون حتى في كل هذه الطرق المختلفة لإثبات الذات. لأن هذه الذات محوطة ومشبعة مؤقتا بما يشعرها بوجودها. ولها حضور، الذات، فى كل هذه التفاصيل الشخصية، وطريقة التعامل معها، بداية من الملبس للمأكل لسبل المتعة، للحب، للسفر،  لكل شيء. وأيضا لهم ارتباط وثيق بسياق عالمي يستقون منه نماذجهم الإنسانية والحماس اللازم لدفع عربة الحياة اليومية الثقيلة. ذلك الجيل الذى استيقظ مباشرة على الاستهلاك كما انقلبت الفتاة فجأة مستيقظة من النوم.

هؤلاء الذين يتركون عرباتهم متربة لأنهم يثقون بنظافتهم الشخصية، كما فعلت الفتاة عندما فتحت عربتها الدفع الرباعي، لتأتي منها بكيس وتسلمه للفتى، كأن عربتها قطعت بها صحراء طويلة، لا يظهر من زجاجها المغبر أى شيء. 

ليسوا أبناء عالم الفساد السياسي القديم قبل ثورة يناير المشبعين بالسلطة ورغبة الاستيلاء على كل شيء من حولهم، ولكن طبقة جديدة بدأت تنتشر بوضوح فى شوارع الإسكندرية من أبناء العاملين منذ عقود فى الخليج، وأصحاب الثروات الجديدة/ القديمة الذين ظهروا بعد ثورة يناير، ومن خريجي الجامعات الأجنبية، أو الذين يعملون فى الشركات العالمية  وفروعها داخل مصر، والسفر جزء من روتين حياتهم. 

يعيشون داخل المدينة وعلى حوافها الرملية الصحراوية، حيث المطاعم والنوادي الخاصة والشواطئ والقصور والمنتجعات، وكل ما هو لا يذوب بسهولة فى المجتمع. إنهم المؤسسون الحديثون لهذه المجتمعات الجديدة داخل المدينة وفي شرايينها، يعيشون فى مصيف دائم، طوال شهور الصيف والشتاء؛ فى كافيهات، ومحال، ومطاعم خاصة أنيقة، أصبحت إحدى سمات المدينة، وغيرت من روحها تماما، والتى تحولت بدورها، المدينة، لتخدم هذه الطبقات الجديدة، وتفتح شوارعها، ومواقف سياراتها، وزواياها المنسية، وأماكن نخبتها القديمة؛ لها.

فتيات هذا الجيل لسن مصيِّفات المعمورة أو الشواطئ الخاصة فى العجمي في سبعينيات وثمانينيات العجمي، اللاتي يختفين بعد شهور الصيف ويرجعن لقواعدهن فى أحياء القاهرة الراقية. ويتركن المدينة مسيجة بهذه الرغبات المكتومة التي خلفنها فى أماكن سيرهن واستحمامهن. 
فتيات وفتيان هذا الجيل، في الإسكندرية، ليسوا أيضا فتيات وفتيان "الكلوب هاوس" أو ملعب الكروكيه أو ملاعب التنس في نادي أسبورتنج، الذى أصبح يحمل بين جنباته الآن أنين مومياء النخبة القديمة وأولادها. 
                                                ***

فى مراهقتي، ومراهقة آخرين بالتأكيد، كنت أبحث عن هذا التمايز الاجتماعى وإثبات الذات. بأن تتمدد الذات ليس فى فضاء اجتماعى بل فى فضاء نفسى وأحلام، وكتب، وأفلام، تنحت فيه نموذجها الخيالي. أما الفضاء الاجتماعي وقتها فكان مُحتكرا من آخرين باستمرار، من أجيال سابقة ومن نظام، ولو رغبت فى أن تتمد روحك داخله فعليك القيام بإزاحات لها وقع الصدام المدوي. أما الآن فنسيج الفضاء هذا تمزق كله، وأصبح هناك نسيج جديد به الكثير من الخروق والفضاءات تسمح بتمدد الجميع وأيضا صدام الجميع، لأن هناك تقسيما جديدا للسلطة يصحبه تقسيم لفضاءات وهوامش وحريات ومتع المدينة.

لم تكن هذه الطبقة الاجتماعية ذات البريق موجودة فى الإسكندرية بهذه الكثافة من قبل، كانت محصورة فى جيتوهات المصايف ومواقيت أشهر الصيف. الآن تملأ المدينة وشوارعها ومطاعمها الجديدة والقديمة معًا، وساحلها الشمالي. تهيأ المناخ لتعلن عن نفسها بدون صخب، لأنها رأت أن لها الحق فى الحياة داخل وخارج الجيتو. ربما أيضا، ضمن التقسيم الجديد لفضاءات المدنية، أصبح للجميع حق داخلى فى التمدد دون مراعاة أو نظر للآخرين، أوالطبقات الأخرى. تمدد من أجل الحيازة وتثبيت الأقدام المستقبلية.

                                            ***

عندما ظهرت موضة الشورت البرمودا فى التسعينيات، كأنها جاءت قبل ميعادها. لم يكن هذا الجيل الحالي، الخالي من مراجع الماضى، المحزنة والمفرحة معًا؛ قد ظهر. وقتها ظهر الشورت البرمودا، بتكلف وبروح تقليدية، كأنه بدلة كاملة فى صورة شورت. كان الجيل وقتئذ يتحرر فى الملابس بدون صياغة نموذج جديد لتحرر الروح نفسها. وظهر معها كمقابل لهذه الروح التقليدية "شورت مدحت وردة" الشرعي لاعب نادي الاتحاد فى السلة فى الثمانينيات أيضا، كوأد شرعي ونهائي لرمزية الشورت.

                                         ***

فى طفولتي لم أكن أحب الشورت وأرفض ارتداءه بالرغم من تعاليم المدرسة واليونيوفورم الخاص بها. دارت خناقات طويلة مع أبى حتى رضخ أحيانا لارتدائي البنطلون الطويل، ورضخت أيضا لارتداء الشورت على مضض، ولكن ظل نموذج البنطلون الطويل يحتل خيالي. ربما كنت أقفز من سفينة الطفولة بسرعة وقبل الأوان. وربما قفز معى الكثيرون، وسيقفز منها الكثيرون فى كل عصر، وقفزت معنا مجموعة من العادات والأفكار والأحاسيس، ولم تأخذ حقها فى التمتع بزمن الطفولة وسيقانه العارية، فظلت الطفولة مُرَّة وغير ناضجة، فى حلوقنا، حتى الآن.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على