كانت جالسة أمام البحر افترشت رمل الشاطئ، وقد دفنت رجليها بالرمال ، هذا عادتها حين تكون حزينة تأتي إلى البحر مصطحبة معها مثرثرتها المجنونة التي ما هي إلاّ أنا! – وتكتفي بالجلوس أمامها دون السباحة رغم أنها مهووسة بها إلى حد أن البحر أدمنتها، تمتنع من السباحة حالة حزنها وكأنها تدعو البحر أن تشارك معها الحزن بامتناعها من السباحة. كنت منهمكة أروي ظمأ أوراقي من نبع قلمي الذي ما إن يرى زُرقة البحر الفاتن وهدوءه المريح ويتأمل غموضه المخيف ويستمع إلى لغة الأمواج العاتبة إلاّ تدفق ليروي الظمأة، التفت نحوها فوجدتها شاردة ووجهها الملائكي الذي هو مثال للبراءة يعلوه شيء من الحزن وحجابها الشامخ زادها ألقا وجمالا، من ينظر إليها يظن نفسه واقفا أمام لوحة فنية نادرة رسمت بعناية بريشة فنان ماهر. إقتربت منها فلم تنتبه إليّ، وضعتُ يدي على كتفها إلتفتت إليّ مذعورة وكأنها فاقت من فقدان وعي طويل. إبتسمت وأنا أشير بيدي للهواء (ذهبتي)، قالت وهي تعبث بالرمال متى جلستِ هنا وكيف أفلتِّ من سجّانكِ المتغطرس يا مثرثرتي؟!. أولا سجّاني ليس متغطرسا إنما لطيف ومحبوب ،وثانيا كيف توعين متى وكيف جلست هنا وحضرتكِ تركتِ جسدك فقط هنا ورحلتِ لا ندري إلي أين ؟ هل لمثرثرتكِ المخلصة أن تعرف سبب تلك العتمة التي تفسد إشعاع نور وجهك؟ صمتت للحظات ثم تنهدت تلك التنهيدة التي أخافتني وأشعلت القلق في قلبي ،وكأنها بتلك التنهيدة أرادت أن تُخرج معها كل ما بداخلها من ألم، أسندت رأسها إلى كتفي لأساعدها بالكلام فهي تعرف تماما أن ذاك الكتف قد يحمل عنها كل ما تحمل لذلك ولأنها تثرثر لي كل ما بداخلها أسمتني مثرثرتها فكنت أصحح لها دائما ( قولي حقيبة ثرثرتك يا مجنونة . فتقول لي لا مثرثرتي هذه لغتى الخاصة لا دخل لها بالقواعد والقوانين) نادرة هي تلك التي تجعل كل أخطائها أشياء خاصة لها . لم تتكلم فقط إكتفت بالنظر الى البحر ، ناديتها لكي أذكرها أني ما زلت أريد جوابا. عَيبلأ (ذاك هو اسمها متوّج من بين الأسماء ،ملكة هي حتى باسمها ،نعم فعيبلأ إسم صومالي أصيل يعني النزاهة والبراءة.) أجابتني بصوت أشبه بموسقي حزينة إليه من الكلام آهـ ، هل تعرفين هذا الاسم يؤلمني أكثر عندما ينادينى به الناس ، أشعر وكأن الناس يجلدونني بالسياط. ولماذا هو إسمك إذا إن لم تريدي أن يناديك أحد به ؟ إن خلف هذه المقدمة سبب حزنك هذا هيا أفصحي أكثر. قلت هذا وأنا أمسح رأسها بيدي قالت بعد صمت طويل كدت أتيقن من خلاله أنها لن تتكلم أبدا ، لكن القلب كان من يتكلم هذا المرة وهل جربت الاستماع إلى كلام قلب مجرد ليس بين أذنيك وبين كلامه أي وسيلة! أصبح إسمي منبع ألم لي لأنه يذكرني بأنني ولدت ومنحت هذا الاسم منها هي ، يذكرني بتلك المرحلة المليئة بالحب والعطف والدلال في حياتي تلك المرحلة التي كنت أتربع حضنها الدافئ ، الحضن الذي أصبح الآن لغيري ،هل تعلم أشعر بالغيرة من أؤلئك الذين استوطنو مدينتي التي كنت أول من فاز بها كأول وليد ، فزت بالمركز الأول وكنت أظن أنه لي ما حييت ، إسمي يا عزيزتي يذكرني بندائها هي وهي تهدهدني في مهدها الطاهر . دهشت من كلامها ، لم أفهم وكيف لي أن أفهم كلام قلب أديب ، لكن ليس أدب اللغة هذه المرة فإن القلوب لا تتقن إلا أدب الحب الأزلي، الحب الذي ما عاش فوق الأرض أحد إلاّ وجرّبه بسعادة أو بحرمان ذاك الحب المسمى بالأم. لمّا رأت الدهشة فى وجهي وأدركت أنني أطلب المزيد من التفسير للغزها أدارت بصرها نحو السماء وواصلت ، جاءني صوتها وكأنه يأتي من عمق البحر ،لا بل هذا صوت حورية حزين. لماذا أصبح الكبر أكبر عدو لي بل هو ألذ أعدائي ؟ ، أن أ كبر في السنّ هل كان يعني أنني أعاقب في ذنب إرتكبته ؟ أليس للكبار حق في حنان الأم ، هل لأني كبرت ولم أعد رضيعة أحرم من مهدها ، لماذا يصر الكبر أن يشد عليّ الخناق لماذا يجعلني بعيدة عن حضن أمي ولماذا لم أعد تلك الرضيعة المهدهدة ؟ لماذا يا عالمي فرضت عليّ ذالك القانون الظالم كرهت الكبر لأنني منذ أن قال الناس كبرت ومنذ أن أتى صغير أخر أصبح مهدي هو الفراش فقط وأصبح الحضن له لأنه أحق مني به فهو الصغير وأنا الكبيرة ، أي حكم ظالم نطقت به يا مجتمعي ، منذ ذالك الحين والسنوات تأتي وأنا أكبر سنة بعد سنة والحضن يبتعد أكثر، صرت أذهب للمدرسة لأعود منها محمّلة بالشوق لنبع الحنان أدخل البيت لأجد تلك الحبيبة جالسة منهكة وقد أتعبها العمل أتعبت نفسها من أجلنا تطبخ غداءنا لنجده جاهز عند عودتنا ورائحته العطرة تفوح على بعد مسافة ،وتغسل ثيابنا لنخرج بها نظيفة معطرة أجدها وحولها الصغار تغديهم بيديها الطاهرتين حينها تشتعل كراهيتي للكبر فلو للكبر لكنت هناك جالسة أنال ما نالوه هؤلاء من حنان الحبيبة تبتسم لي تلك الإبتسامة فأطرب لها فرحا وكأن الدنيا كلها سيقت لي أهرول لها لكي أرتمي بها لكنها تردني إذهبي وبدلي ملابسك لا توسخي زي المدرسة يا بنيتي. آه يا أمّاه ثم أدخل الغرفة وأنا أعاتب مجتمعي الذي يجعل النظافة أولى . كنت أواسي نفسي وأصبرها وأمنيها أنها سوف تكبر أكثر لتصبح صديقة ماما حينها تستطيعين أن تتحدثي معها وتروي لهفتك من حضنها ، لكنى ما كنت أعرف أن مجتمعي المستبد لا يعترف بتلك الصداقة فجاء الكبر ليفاجئني بالجفاء جاء يحمل معه الدراسة،الواجبات، أعمال المنزل . كنت كل مرة أجدها فرصة تجلس وحيدة تستريح في الغرفة أذهب إليها وأستجمع قواي لكي أحسم الأمر وأبث لها رسالة قلبي المكلوم أريد أن أرتوي من حنانها – وهل هناك من إرتوى من حنان الأم لكن ما إن أدخل عليها حتى نتحدث عن أحوال البيت والصغار ، يا إلهي أمدّني بالقوة كيف لى أن أفعل ما جئت من أجله وكلّما أتذكر أنني كبييرة حتى أصبح كربّان أسقط مرساة سفينته ليفاجئه تمادي أحوال الطقس وجنون البحر والأمواج عاصفة جدا ، وهبوب الرياح محملة بعتاب السماء فشعر بالهلاك، إلهي كيف المفر من ذاك الكبر. أحيانا أقول ماذا لو كان هذا النقص بي أنا فقط وأن باقي الفتيات يحظون بحنان أمّهاتهن ولم يضرهن أنهن كبيرات؟!، كيف لي أن أكون أمّا وأنا أشعر نقصا من ذاك الشعور ، كيف سأعطي أولادي من ذاك النبع وأنا لم أرتوى منه بعد ، أخاف من الأمومة أن تسخر مني تقول لي ماستطعت أن تأخذي حقك بسبب جبنك فكيف لكِ أن تجيديني؟ . هذا هو سبب تلك الكآبة التى تتراءى لكِ من خلالي. ما زال كلامها يتردد في مخيلتي ، ومازلت أبحث تفسيرا وجوابا لأسئلتها تلك. أكثر من ٦ سنوات فى صومالى تايمز

ذكر فى هذا الخبر