صالة استقبال الضواري لسيف الرحبي.. رؤية العالم بمرايا الذات

حوالي ٥ سنوات فى أونا


عمّان، في 14 فبراير/ العمانية/ يمثل كتاب "صالة استقبال الضواري" للشاعر العُماني

سيف الرحبي، رحلة في المكان، كما يمثل في الوقت نفسه رحلةً في مرايا الذات.

فالرحبي بالمقدار الذي يطوف فيه الأماكن بين أوروبا وجنوب شرق آسيا، يتوقف أمام

الذات لمقاربات ومقارنات تنهال من الذاكرة في صور تأملات للنفس البشرية والوجود.

يضم الكتاب الصادر عن الآن ناشرون وموزعون بعمّان، نصوصاً متوازية ومتداخلة،

بين الرحلة في المكان، والرحلة في الكتاب، أو التطواف المعرفي، والرحلة عبر السينما

التي تمثّل الذاكرة البصرية، ورحلة النص الشعري الذي يشكل خلاصة التجربة المعرفية.

وهي نصوص تعكس رحلةَ النفس المتوقّدة لمعرفة الوجود من خلال المشاهدات،

وتداعيات مماثلاتها مما اختزنت الذاكرة لفهم ذلك الوجود المأساوي الذي يعيشه الإنسان

بين حدَّيّ الولادة والموت.

الرحبي الذي صدر له أكثر من عشرين كتاباً في الشعر والنصوص والمقالة والرحلة

وتُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، يركّز في رحلاته ليس على القصور والعمارة

والآثار والطبيعة، وإن كان يشير إليها، بل يتوقف عند الهامشي منحازاً للإنسان الذي

كسرتْ روحَه تلك "الماكينة" المسنَّنة التي تطحن الإنسان في دورانها.

ففي بريطانيا، يستعيد المؤلف تلك الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ويعاين

السلوك في مطاراتها التي لا تخفي ريبة من الآخر. وحينما يقيم هناك تلفِتُه حالةُ الناس

الهامشيين واللاجئين الذين يبحثون عن حيَوات توفر لهم مساحة من الصراخ أو الصمت.

يقسم الشاعر الرحبي الكتاب إلى سبعة فصول، تمثل خريطة الرحلة، وهي: "في وصف

رحلة.. شظايا بشر وأمكنة"، و"عن البلاد البعيدة والقريبة"، "من صحراء الكوكب إلى

أعماق الغابة"، "غروب آسيوي.. الحلم والمتاه"، "المرأة التي يترجف في قلبها الغزال"،

"في ضوء صباح آسيوي"، و"صالة استقبال الضواري" الذي حمله الكتاب عنواناً.

وفي المتون، يحار القارئ أين يصنف الكاتب ضمن حقول الإبداع الذي يتعربش فيه النثر

على ساق الشعر، فتغدو الكتابة لوحة يتبارى فيها الشعر والنثر على صفحة واحدة. إذ

يُشَعْرِن الرحبي النثر، ويسرد الشعر، ليبدو "صالة استقبال الضواري" كتابَ شعرية

الأمكنة التي لا يتأتى جمالها من صفة الموصوف، بل من الدهشة التي تتحقق عبر

التفاصيل اللامتوقَّعة التي ينتبه إليها الكاتب في المكان اللامتوقَّع، ولكنه في الوقت نفسه

يجمع ما اختزن من ثقافة ومعرفة وخبرة بصرية ومهارة تأملية لوضع اللحظة في سياقها

الإبداعي.

الكتابة وفقاً للرحبي ليست مجرد وصف، بل هي ارتحال في سيرة الأشياء، ورصد

حركات التاريخ من خلال الإمساك باللحظات المؤلمة فيه، والتي تنعكس على أرواح الذين

خرجوا من أتون الحروب وما يزال غبارها يلوث حياتهم على ابتعاد المسافة من مكان

الجمر.

فهذا الكتاب، هو قراءة في التاريخ غير المكتوب، عبر قراءة تجلّيات الهامشي في

الحضارة التي كسرت في الإنسان طبيعته الإنسية ليتمثل صورتَها المتوحشة.

ويتذكر الرحبي في باريس، عاصمة النور، رشيد صباغي، وعلي بن عاشور، وصموئيل

شمعون، الأكثر رأفةً في التعاطي مع أولئك الذين انكسر بهم قارب الأمل في أول الطّريق

أو منتصفه، فقطعوا بما يشبه الطّلاق الباتَّ مع مجتمعات النفاق والاستهلاك. ويكتب

شعراً:

"الطّائر يرفّ على وجه الغَمْر،

أكبر حجماً من الغراب!

إنه الغداف،

يقرأ سورة الطّوفان القادم".

ويستذكر خلال ذلك حال ديستوفسكي مع الرجل المضطرب الذي لا يعرف مكان هذا

العالم الموغل في انحطاطه القيمي والأخلاقي، الرجل المدفوع بتدفق المواقف والأحداث

إلى جهة السبّ والارتباك، وتتداعى الذاكرة التي تستعيد صديقة الكاتب التي قضت

انتحاراً بعد أن قالت له: "إنني أعرف كيف أتعامل مع كل هؤلاء المنقوعين في سمّ

الكراهية والنميمة والانحطاط؛ بالتجاهل".

ويقارب الكاتب سيف الرحبي قصة الكلب الياباني التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان

"هاتش"، يبقى فيه الكلب وفياً لصاحبه حتى آخر نفَس من عمره، وهو ما لا يتحقق في

عالم الإنس.

ويتذكر بيت شعر للأحيمر السعدي يقول فيه:

"عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدتُ أطيرُ".

تلك هي المناطق الوعرة التي يغامر الأدب والشعر والفلسفة بولوجها، للاقتراب من

النفس البشرية التي ينطبع عليها صدأ المكان. يقول الرحبي: "أهل الأدب والفن لا يفعلون

في صنيع الإبداع والجمال إلا استعادة فوضى الطفولة" التي تعني البراءة وجموحها

للحرية والصدق.

وخلال ذلك يتذكر فيلم "برسونا" للسويدي انغمار برغمان، والذي أُنتج عام 1966 باللغة

السويدية، ويناقش قضايا الجنون والفصام والهوية والوجود من خلال أسطورة مصاص

الدماء. ويحاول المخرج فهم أعماق الإنسان في مواجهة نفسه.

ويقرأ الرحبي خلال واحدة من رحلاته رواية "حفلة التفاهة" والتي يذهب فيها ميلان

كونديرا إلى التأمل العميق في الوجود والعالم ضمن صميم بنيته، حتى في أكثر المشاهد

خراباً. ويخلص إلى أن إدراك البنى والمؤسسات التي تحكمنا بوصفها سابقة لنا

ولوجودنا، يعني أننا سنكون أسرى لقوانينها التي تتحكم في سلوكنا، وأن هذه التي نسميها

"الإنسانية"، هي بلا معنى، لأننا نخضع لقهرها وعنفها اليومي الذي يرسم سلوكنا كما

رسمته لنا وشكّلتنا عليه.

وفي الكتاب رحلة للتاريخ عبر جغرافيَّتَي المكان الشاسع من العالم، والنفس بما تنطوي

على عمق وتعقيد. يقول الرحبي: "حين ينظر المرء إلى كل هذا الصخب القاسي

والحطام، ويرى بما لا يقبل الشك، تواطؤَ الأقوياء والضّعفاء على إنجاز هذه الفظاعات

الشنيعة، يأخذه الدوار والألم إلى مهاوٍ سحيقة لا يعود منها إلا مضرجاً بالجراحات

والأرق، إذ لا بد من البحث عن عزاءٍ ما. عزاء ولو كان مؤقتاً أمام ديمومة المأساة".

ويقول:

"إن حياتنا على الحافّة دائما

على حافة السرير ننام

على شفا جُرف الكون نعيش

على حافة جهنم تمضي صباحاتنا

والأماسي".

ويقول الكاتب والصحفي الأردني محمد محمود البشتاوي على الغلاف الأخير لكتاب

الرحبي: "إنّ ما يجعل المنجَز الإبداعيّ لسيف الرحبي على هذه الصورة، تلقائيتُه،

وصدقيّته، وجِدّته، وتدفُّقه بحرّيةٍ لا تتقيَّدُ بضوابط الأسلوب؛ فلا حدودَ للتعبير ولا قوالبَ

جاهزة، لهذا لا يتردّد الرحبي إذا ما تعلّق الأمر بالتجريب وخوض غمار فضاءات تلين له

وتنقاد بسهولة، فيما تستعصي وتنغلق على سواه. إنه يُعبِّر في نصوصه الحرّيفة هذه، عن

ذاتهِ وعن العالم في آن، ويتداخلُ فيها الخاص بالعام في ضوء تنوُّع عوالمه واشتغالاته".

/العمانية /174

 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على