صمويل بيكيت ولحظة الثناء على العدم

حوالي ٥ سنوات فى المدى

 علي حسين
" قطعة لحم طويلة مغطاة بالتعاسة والشرود " ، هكذا كان يصفه كل من شاهده يتمشى وحيداً ، يعترف انه لم يعرف السعادة يوماً ، تمنى في شبابه أن يصبح لاعب غولف شهير ، وعندما لم يفلح توجه لسباق الدراجات النارية ، وفي النهاية قرر أن يصبح كاتباً :" إنها مهنة تحترم خصوصيتك " ، في الثلاثين من عمره أقدم متشرد في احد شوارع باريس على طعنه بسكين حادة ، وبعد علاجه في المستشفى ذهب لزيارة الرجل في السجن ليطرح عليه سؤال : " لماذا أردت قتلي " فكانت إجابة المتشرد : "لا أدري " ، بعد سنوات سيتذكر هذا المشهد العبثي ، وهو يكتب عمله الروائي الأول " مورفي " حيث يصر بطلها أن يعلن للجميع إن " الوضع لايصلح للحياة " .
في استعادة صامويل بيكيت المولود في نيسان عام 1906 ، أصدرت دار المدى طبعة جديدة من ثلاثيته الروائية الشهيرة " مولوي .. مالون يموت .. اللامسمي " .كان الأبن الثاني لعائلة ميسورة الحال ، والده يعمل مساحاً للاراضي ، محب لقراءة الروايات الغرامية بينما كانت الأم تلقن ابنائها الصلوات والتراتيل ، وفي يومياته يخبرنا أن لديه ذكريات قبل ظهوره الى الدنيا :" أتذكر أنني كنت محشوراً حبيساً ، وغير قادر على الإفلات . كنت أبكي كي يسمحوا لي بالخروج لكن أحداً لم يكن يسمعني . لم يكن يصغي ألي أحد " . ونعرف أن ولادته كانت عسيرة ، حيث استغرقت أكثر من عشر ساعات . منذ اليوم الأول لولادته حظي بعناية متميزة من والدته ، في سن الحادية والعشرين نشر كتابه " أحلام المرأه العادية " وهو كتاب وصفه النقاد آنذاك بأنه مجموعة من الهذيانات ، بعدها بعام يقرر أن يرحل الى باريس هناك يتعرف على جيميس جويس كان عمره آنذاك 22 عاماً و بدأ يفرض تأثيره الكبير عليه ، لكنه رفض أن يكتب بمثل طريقة جويس :" يتمثل اختلافي عن جويس ، في إنه كان يحسن معالجة مادته وبشكل رائع ، وقد يكون الأعظم في هذا المجال . كان يعطي الكلمات أقصى ما تحمل ، ولا نجد عنده مقطعاً زائداً.أما نوع العمل الذي أمارسه ، فهو عمل لا أجدني فيه سيداً لمادتي ..كان جويس يميل نحو العلم الكلّي والقدرة الكلية للفنان ، أما أنا فأعمل في العجز ، وفي الجهل " . يستهويه مارسيل بروست فيقرر أن يكتب عنه كتاباً – ترجمه الى العربية حسين عجة - أكد فيه أن أدب بروست قد بُني على وهم خادع بتمامه ، في مسرحيته " شريط تسجيل كراب الاخير " يحاول بيكيت أن يقدم صورة ساخرة للزمن المستعاد " زمن لا نجد فيه أنفسنا قط " ، رأى في عمل بروست الكبير" البحث عن الزمن المفقود " عالم لاثبات فيه ، ومن ثم فإنه عالم يعيش فيه الانسان في طلب ضرورة الانتظار . انتظار واقع ملتبس وغريب .عام 1951 ينشر روايته مُولُوي في دار نشر غير معروفة بعد ان رفضتها معظم دور النشر ، وفي يومياته يخبرنا بيكيت ان زوجته سوزان اخذتها لصاحب دار نشر صغيرة ، في اليوم التالي يخبرها الناشر ، إنه قرأ الرواية في طريق عودته الى البيت ، وقد أخذته ضحكة رعناء وهو يواصل القراءة مما أثار استغراب ركاب الباص ، بعدها قرر أن ينشرها ، وعندما التقى بيكيت بالناشر وجده إنساناً طيباً ، فكتب في دفتر يومياته :" آسف جدا لأن هذا الرجل سوف يعلن إفلاسه بسببي ، فالاحتمال قليل في أن يقرأه الكثيرون ، ولا يمكننا أن ندرك في أي مستوى من سوء الفهم يمكن أن يضعه حظه أمام القراء " .في مُولُوي يروي لنا بيكيت رحلة العودة إلى الذات ، حيث نتعرف على بطل الرواية مُولوي الذي يجهل مكان وجوده ، فهو تائه باستمرار ، ولايتمكن من أن يتعرف على المدينة التي يبحث عنها ، وأثناء رحلة البحث المضنية يتلاشى جسده ، فبينما نراه في البداية منطلقاً على دراجة ، نجده ينهي رحلته المزعومة زاحفاً ، ولا يعود مهتما أثناء تقدمه ما إذا كان يصل إلى المدينة التي تسكن فيها امه ، ام لا . انه مشغول بفعل التقدم فقط ، وفي الرواية نقرأ القصة التي يكتبها مُولُوي عن نفسه ، فهو قد حُمل إلى هذه الغرفة ، بعد ان انتشلوه من حفرة وقع فيها:" لا أعرف كيف وصلت إليها " ، لقد كانت رحلته يائسة وكئيبة ، حيث تصلبت ساقه ، وتثاقلت قدماه ، فكان أن ترك الدراجة واستخدم عكازاً، ثم اضطر أن يزحف ، إنها اوديسة الانسان المعاصر ، لكنها مختومة بالعذاب ، فهو يستعيد ذكريات حياته ، لكن دون أن يتمكن من التمييز بين الحقيقة والوهم ، ومثل بطل مارسيل بروست ستكون حياته مرتبطة كلها بحديثه عن الماضي .في القسم الثاني من الرواية سنتعرف على رجل الشرطة جاك موران الذي يتلقى أوامر بتقديم تقرير عن مُولُوي ، ولسوف تكون هذه الرحلة الثانية أكثر سوءاً من الأولى ، لأنها سرعان ما ستفقد هدفها الاساسي حيث نجد موران بعد وقت قصير من رحلة البحث ينسى ما كان عليه ان يفعله تجاه مُولُوي ، فهو أيضاً يصاب بعجز في قدمه ، ويهجره ابنه ، وتداهمه الامراض حتى يصبح " غير قادر على الحركة " ، وإذ يعود الى بيته يجد ان خادمته قد هربت ، وحديقته قد اقتلعت والدواجن ماتت ، ولم يبق امامه بعد ان عاد وهو على عكازين ، إلا أن يكتب التقرير المطلوب عن مُولُوي :" عندئذ عدت إلى المنزل وكتبت . في منتصف الليل . والمطر يضرب زجاج النوافذ بسياطه . لم يكن منتصف الليل ، وما كانت تمطر " .ويصل التشابه بين شخصية مُولُوي وموران إلى درجة أن القارئ يسأل نفسه هل ان موران يمثل في الحقيقة ماضي مُولُوي البعيد ، ان موران لايختلف عن ابطال كافكا ، فقد كان يعيش حياة مستقرة ومنظمة بصرامة قبل ان يكلف بمهمة تقديم تقرير عن مولوي ، وهكذا نجد ( مُولُوي وموران ) يعيشان في عالم متجمد كل شيء فيه يتجه نحو الظلام ، ورحلتهما برغم عذابها وشقائها إلا انها في النهاية رحلة نحو اكتشاف الوجود .في " مالون يموت" وهي الجزء الثاني من الثلاثية ، يصر بيكيت على تأكيد فكرة الضياع ، حيث نحن أمام شخصيات يصل بها الحد إلى إستحالة أن تقول " أنا " ، فمالون الممد على سريره يعاني من عجز تام ، انه بين الحياة والموت :" سأصبح محايدا خاملاً . سوف يكون ذلك هينا بالنسبة إلي .. ساموت فاترا ، دونما حماس " ، ولهذا لم يبق امامه ، إلا ان يشغل وقته ، وكانت امامه ثلاثة سبل لذلك ، الحديث عن الحاضر ، تعداد ممتلكاته المبعثرة في الغرفة او الحديث مع نفسه ولنا عن :" قصصا ليست جميلة ولا رديئة ، لن يكون فيها قبح او جمال او حُمى ، سوف تكون بلا حياة تقريباً ، مثل الفنان " ، ولهذا هو يخبرنا أن قصصه غير ملزمة للقارئ ، وينبغي أن لاتكون لها اهمية :" إنه وقت للتسلية ، ولسوف ألعب " . ولهذا ربما يسأل القارئ من هو مالون ، هل هو شخصية روائية أم نسخة من بيكيت ، أن مالون يكشف عن نفسه كبطل في رواية ، ثم يكشف عن باقي الشخصيات والتي هي بالتاكيد صور ذاتية لبيكيت نفسه الذي ينبهنا على لسان مالون :" لقد انتهى إبداع الشخصيات ، فسوف نستطيع الإستغناء عنها ، إذ نعلم الآن إنها ليست إلا نسياناً خادعاً للذات ، تلك التي تحاول البحث عن نفسها في صوت ما " ، تنتهي مالون بعبارة مؤثرة " ها هو اللا شيء " ويحعلنا بيكيت نتساءل من أين أتى مالون ؟، لقد كان يناضل ضد الموت وينتظره في نفس الوقت ، وأراد من خلال الكلمات ان يكافح الصمت الذي يهيمن على حياته ، وكأن بيكيت أراد أن يطرح علينا سؤال عن وجودنا العبثي ، والذي سيكون هذا السؤال مفتاح للجزء الثالث الذي يضع له عنوان " اللا مسمى " ، ففي هذه الرواية يفتتح بيكيت بسؤال ثلاثي " أين الآن ، متى الآن ، ومن الآن " ويحاول بيكيت أن يربط بطل الرواية بابطال روايته السابقتين :" إنني أعرف أمثال مورفي ومولوي ومالون جيدا . لقد جعلوني أضيع وقتي سدى ، إذ تركوني أتحدث عنهم ، بينما كان علي أن أتحدث عن نفسي فقط ، كي أتمكن من الصمت " ، هكذا نجد اللامسمى في إنكاره للآخرين يريد أن يؤكد حقيقة واحدة " ليس هناك إلا أنا .. وهذا الظلام الأسود " ، هكذا يقرر اللامسمى أن ينخرط في الوجود من خلال شخصيتين ، الأول ماهود الذي نراه هائماً منذ بداية الرواية ، قبل أن يستقر به المقام في جرة كبيرة تستخدم لافتة أمام مطعم ، وهناك فورم الذي هو نقيض لماهود ، فهو لايتكلم إلا بهمس غير مفهوم وهو غير قادر حتى على تدوين ملاحظاته ، أقرب المخلوقات إلى العدم ، إنه لايعرف :" ماهو ، وأين هو ، وماذا يجري ، وما يجهله ، هو أن هناك شيئاً ما يمكن معرفته " . لكن رواية اللامسمى إذ تختتم الثلاثية ، فإنها أيضا تختتم مشوار بيكيت في الرواية ، لهذا نراه يعلن عام 1956 :" لن يكون نهاية كتابي شيء سوى الغبار . فقد كان هناك تفكك تام في روايتي الأخيرة اللامسمى .. ولم تبق هناك وسيلة للاستمرار " .تبدو الرواية بالنسبة لصمويل بيكيت كما يقال أشبه بـ" ملل ميت " وهي محادثة بين الإنسان وخيالاته .يكتب ناثان سكوت في كتابه عن سيرة بيكيت إن :" بيكيت يتصدى للعرف التقليدي كله في الأدب .. الذي يمثل الرواية كنمط الفحص التجريبي الخالص للمعاناة الإنسانية " .

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على