لست أزهريا وأفتخر «١ ٣»

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

كانت حواراتنا مع الشيوخ الأزهريين تنتهي في النهاية، أو عندما يحاط بهم بـ: إنت تخصصك إيه لو سمحت؟ ونظام خليك في شغلتك من منطلق ماحدش بيتدخل في شغل المهندس ولا الطبيب، وكأنهم يؤكدون أنهم رجال الدين، رغم أن كل الشيوخ يؤكدون أن الإسلام ليس فيه رجال دين، والكهنوت هي صفة المسيحية لا الإسلام.
والدي رحمة الله عليه، كان مؤمنا بعبد الناصر وبالعروبة، وبالتالي كان مؤمنا بالاشتراكية، وكان متأثرا بابن عمه وصديقه الصدوق الذي كان عضوا في حدتو.
صدمته النكسة وهزيمة 67، وتأثر بما راج وقتها أن سبب الهزيمة هو بعدنا عن الله، وكأن إسرائيل كانت أقرب إلى الله منا، ولكنه تنصل من المسؤولية، فقد سلَّمنا الله لقوانين الأرض، وأن لكل مجتهد نصيبا، ولكل فاشل وفاسد نصيبا أيضا.
ليس وحده ولكنه جيل بكامله تأثر، وجاءت موجة السبعينيات، دولة العلم والإيمان كما وصفت، وخرج التليفزيون الرسمي ليروج للفكر الجديد، الرئيس المؤمن محمد أنور السادات وقولته الشهيرة أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة، وانتشرت المعاهد الأزهرية في ربوع مصر حتى وصلت من 6 معاهد في مصر إلى 10 آلاف معهد.
جاء الدعم الخليجي بشكل عام والسعودي بشكل خاص بعد فوائض البترول والتي زادت بعد حرب أكتوبر، ودعمت وبقوة هذه المعاهد على مستوى المباني وعلى مستوى أنواع الدعم الأخرى فقد كان الأزهر بلا مصروفات، ووجبات غذائية، وجوائز متتابعه على حفظ القرآن وأحيانا أقمشة ودعم نقدي للمحتاجين، أمور كثيرة كانت توفرها المعاهد في هذا الوقت.
أدخلني والدي أنا وإخوتي المعاهد الأزهرية في المرحلة الابتدائية، ولكن استقطبت المعاهد الأزهرية الطبقات الأقل اجتماعيا واقتصاديا، وبالتبعية تراجع مستواه الدراسي، ففي الوقت الذي كنت فيه الأول على دفعتي في الأزهر دون مجهود يذكر، عندما ذهبت إلى المدارس الحكومية كنت متراجعا لمراتب أقل رغم المجهود الأكثر نسبيا.
أخرجنا أبي من الأزهر تباعا، وقد خرجت أنا بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية.
لسنا بصدد مناهضة الأزهر أو هدمه، ولكن بالتأكيد هناك أمور كثيرة يجب أن تصحح، أما الدفاع العصبي من رجاله عن المؤسسة وكأنهم يدافعون عن الدين، فهذا أمر مستهجن ودعوة للتعصب بعيدا عن روح الدين نفسه.
للأسف الأزهر خلال تاريخه القديم والحديث كان أسيرا للتاريخ، أسيرا للتراث، أسيرا للقرون الهجرية الأولى، مكبلا بقيود وضعها الأقدمون:ـ لا اجتهاد مع النص - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مصادر التشريع، القرآن والسنة والإجماع والقياس، قوانين صكها الأقدمون وسار على نهجها المحدثون، لا اختبار لأي مقولة، لم يتربوا على النقد، على المناقشة، رغم أن التاريخ كله، مجال للدراسة والمناقشة.
عند السؤال عن حرب معاوية وعلي، يقال، لقد حمى الله منها سيوفنا فلنحمِ منها ألسنتنا، وعند الجدال، يقال، لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا؟ أبو داود، وعندما سئل مالك عن الاستواء على العرش، قال الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، نظام هو كده مافيش أسئلة!
وكأنه إشارة إلى منع الأسئلة بالكلية، الأسئلة الكبرى لا يجب أن تسأل وربما يتهم صاحبها بالكفر، وقد عكف الأزهر طوال حياته على مواجهة كل رأي مخالف لمشايخه الحاضرين، فعندما كتب علي عبد الرازق كتابه الأشهر "الإسلام وأصول الحكم" وقال رأيا مخالفا، وهو في فرع وليس أصلا كما يتفق أهل السنة، فالحكم والسياسة في الفروع عند أهل السنة، ومن الأصول عند الشيعة، ولكنه كان تماهيا مع الملك فؤاد الذي أراد منصب الخليفة بعد أن ذهب عن تركيا، حاكموه ونزعوا عنه العالمية، وهالوا عليه التهم حتى اضطر سعد زغلول نفسه إلى التماهي مع ما وصلت إليه جبهة علماء الأزهر وقتها، وعندما تولى مصطفى أخوه المشيخة، أعادوه بلا حرج مرة أخرى، وردوا إليه العالمية وقلدوه المناصب، وعندما قام أحد الأزاهرة وهو الشيخ عبد الحميد، قائلا: إن صيام رمضان من الممكن افتداؤه بغير عذر، اعتمادا على الآية: «... أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (184) سورة البقرة. رغم أن التفسير يذهب إلى أن المقصود هو الذين لا يطيقونه، وهو كلام غير واضح، ولكنهم هددوا الشيخ عبد الحميد من الفصل من عمله، فاضطر إلى الاعتذار عن رأيه كتابة، رغم دفاع بعض المفكرين عنه وقتها، وعلى رأسهم طه حسين.
أي أسئلة خارج المقرر، سيتهم صاحبها بهدم الدين والتشكيك في الدين، فلا يجوز مثلاً، أن يسأل أحدهم: لماذا حفظ الله القرآن من التحريف ولم يحفظ التوراة والإنجيل؟ وربما تكون الإجابة سهلة وأنها إرادة الله، ولكن ربما يستمر السائل في المجادلة، وما الدليل من القرآن على أن الإنجيل قد حرّف والتوراة قد حرفت؟ ولماذا لا تكون الآية: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، تعني جميع الكتب السماوية، وأن الحفظ من الممكن أن يكون جزئيا لا كليا، بمعنى آياته الأهم وقيمه العليا. قال الدكتور سعد الهلالي كلاما مشابها قريبا، ولم يسلم وما زال يقذف من المشايخ قِبل السلفيين، وقد نال الدكتور عبد الصبور شاهين نفس الشىء عندما كتب كتابه "أبي آدم" وقال إن آدم كان له أب وأم من البشر.
ولكنها القيود التي تقيد الأزهري من خلال مدرسة النقل التي انتصرت على مدرسة العقل وسادت وتوغلت وسيطرت، وكانت السلطات السياسية على مدار التاريخ هي من تحمي تلك المذاهب وتحميها لمصالحها الخاصة.
فرغم أن ابن تيمية مات محسورا في السجن في عصره في سجن القلعة بدمشق، بعد أن اتهم بالزندقة، فقد جاء محمد بن عبد الوهاب بإحيائه من مماته مرة أخرى بحماية وحراسة من المملكة السعودية، وطبعت كتبه ووزعت مجانا على معظم العالم العربي والإسلامي، حتى أصبح هو شيخ الإسلام الأول ومنظّره الأهم، بل هو الإسلام نفسه. وجاء صلاح الدين الأيوبي قبله لينحّي المذهب الشيعي جانبا ويدفع بالأشاعرة ليحييهم من جديد ويملكهم الأزهر، وهكذا دواليك فعندما صعد المأمون إلى سدة الحكم كان المعتزلة ورأي المعتزلة في مشكلة خلق القرآن هو السائد وكان يسجن من يقول بقِدم وأزلية القرآن، ومنهم محمد بن نوح الذي مات في قيوده وأحمد ابن حنبل، والذي أخرجه المتوكل بعد ذلك وسيّد مذهبه على بقية المذاهب. 
وهكذا كانت السياسة مسيّرة للمذاهب والأفكار، وجاء المحدثون ليسيروا خلف الأقدمين، قدما بقدم.
كانوا يجبرون الأزهريين على اتباع مذهب من ثلاثة وهي الشافعية والمالكية والحنفية، ولم يكن المذهب الحنبلي مطروحا للاختيار، إلى أن جاءت السعودية بأموالها ونفوذها ودعمها للأزهر المفتوح، والذي كان لزامًا على الأزهر أن يجاملهم بفتح المذهب الحنبلي من ضمن الاختيارات، وكانت فكرة عدم التمذهب توصف بأنها اتباع للهوى.
رغم أن الهوى هو الأحق بالاتباع، يضبطه المجتمع لا التراث، ولماذا إذن أعطى القرآن حقا للمؤلّفة قلوبهم؟ أليس اتباعًا لهواهم؟ ولماذا أغدق النبي الكريم بعد حنين على زعماء قريش من الأموال والعطايا، أليس تماشيا مع هواهم لاستقطابهم للدين الجديد؟ 
ولماذا شرع لهم زواج المتعة، ورخص لهم في الخمر في بداية الدعوة، أليس تماشيا مع هواهم؟ 
من قال إن الدين يقف صادًّا للهوى ومناهضا له، ناهيك بأن المذاهب ما هي إلا آراء بشرية جاءت لعصر غير عصرنا، وأن المازورة التي وضعها الشافعي للسير عليها وهي مصادر التشريع، القرآن والسنة والإجماع والقياس ما هي إلا مازورة بشرية، وغير محددة وغير واضحة، لأن القرآن حمّال أوجه، ومتشابهاته أكثر من محكماته، بل إن المحكمات أقرب إلي التلاشي منها إلى التحقق، وإلا فلماذا لم يحاول الأزهر حتى الآن أن يصنع عملا بحثيا هاما على مدى الألف عام، يحدد فيه ما هو المحكم وما المتشابه من الآيات لا مجرد أمثلة، حتى آية مثل (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) والتي ربما يضربها أحدهم كمثال على الآيات المحكمة، عليها خلاف كبير في التوبة وهل التوبة تجب الحدّ أم لا تجبّه، وهناك خلاف كبير، على تعريف السارق، وتعريف المسروق، وشروط تعجيزية، جعلت المال العام حتى لو كان بالمليارات فلا حد عليه، ونعرف ما فعله عمر عندما عطَّل الحد في عام الرمادة، وأتحداهم أن يأتوا بخمس آيات محكمات، ليس عليها خلاف، لأن معنى آية محكمة أن يأتي التفسير في هذه الآية: ويقول آية محكمة وينتقل إلى ما يليها، ولكن لا توجد آية، لا يسرد المفسر آراء دارت حولها ويرجح واحدة أو لا يرجح حسب منهج المفسر، وأحيانا يحيلونك إلى القيم الكلية، العدل والحرية، ولكنها قيم كلية، تفسيرها عليه خلاف كبير، فكان إعطاء المؤلفة قلوبهم من ضمن العدل النسبي، وكذلك إعطاء زعماء قريش بعد الفتح، وكذلك طرد المسيحيين من جزيرة العرب، لأنه لا يجتمع بها دينان، وكذلك طرد اليهود من المدينة تحت أسباب مختلفة، كان جزءا من التطبيق، ولهذا فكلمات العدالة والحرية والمساواة كلمات نسبية، فرغم المساواة التي جاء بها الإسلام، فرَّق العرب بين الموالي والعرب، وحرَّموا زواج المولى من العربية، والمقصود بالموالي ليس العبيد ولكن من هم من بلاد فارس، سواء كانوا عبيدا أو أحرارا، وقد منعوا من دخول المدينة، وكان دخول أبى لؤلؤة المجوسي بوساطة من المغيرة بن شعبة، ولم يساووا بين الرجل والمرأة ولم يساووا بين القرشي وغير القرشي، وبين بيت النبوة والبيوت الأخرى، قام التاريخ على التمييز الدائم، فإذا أحالك إلى القيم الكبرى والكلية، فالتاريخ والممارسة كانا نسبيين بشكل كبير.

 

شارك الخبر على