رفعت الجادرجي.. إرثاً عراقياً

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

زهير كاظم عبود
زرت بغداد لأول مرة في حياتي في بداية الستينيات ، أرغمتني ظروف الحصول على ما تسمى بشهادة الجنسية العراقية التي تتطلبها أية معاملة حينها في العراق حتى تكتمل عراقيتي (وفق مفهوم الشهادة)، تجولت في شوارعها وساحاتها ، بهرني جمالها وعماراتها وأشجارها وحدائقها ونظافتها، وزادني إعجابا ذلك النصب المقوس بانسيابية جميلة ، والرابض وسط أهم ساحاتها، نصب الجندي المجهول.
اقتربت كثيرا من النصب وشاهدت تلك النار المشتعلة باستمرار ، ودارت في ذهني اليافع أسئلة كثيرة ، هل حقا أن هناك جندي مدفون تحت هذا النصب؟ هل أنه يرمز للمقاتل المدافع عن الوطن ممن لم يتم التعرف على هويته؟ ومن هو مهندس ومصمم هذا النصب الذي صار رمزاً من رموز بغداد ومعلماً من معالمها في ذلك الزمن ؟ لم يكن عقل المراهق القادم من مدينة صغيرة ومسحوقة أن يتوصل إلى الإجابات ، لكنها بقيت تدور في مخيلته ، بعد حين تعرفت على تفاصيل ذلك النصب الجميل ، من خلال مطالعاتي للمجلات العراقية والعربية ، ومن ثم عرفت أسم المهندس والفنان رفعت الجادرجي مصمم نصب الجندي المجهول ، وزادني إعجابا بهذا الأسم اقترانه بأسم والده كامل الجادرجي أحد الشخصيات الوطنية العراقية، ومؤسس الحزب الوطني الديمقراطي. بقي نصب الجندي المجهول قائماً يفرض تميزه وجماله وسط مدينة تميزت بكل ماهو جميل ، وبدأت معالم فن العمارة والفنون التشكيلية تزينها وتبرز أناقتها ، حتى نهاية عام 1982 ، حيث فوجئنا بهدمه وإزالة معالمه كلياً من قبل الحكومة ، وتهديم المنطقة المقابلة له من جهة شارع أبو نؤاس ، فرضت السلطة رغبتها في إزالة هذا المعلم الجميل دون مراعاة لرغبة الناس ومشاعرها ، ربما لأن النصب أقيم في زمن الزعيم عبد الكريم قاسم ، وربما لإغراض التوسع العمراني وإقامة فنادق كبيرة تفتقر إليها بغداد في تلك الفترة ، وربما لأسباب أخرى لا أعرفها !! غير أن الهدم جرى سريعاً ، لكن صورة النصب بقيت رمزاً منقوشاً في ذاكرة العراقيين. توسعت المعرفة عندي لأعرف أن مهندس الجندي المجهول ذاته مصمم قاعدة نصب الحرية في ساحة التحرير ، وإنه من رعيل الفنانين الذين نهجوا أسلوباً أكاديمياً عمليا في التشكيل الفني ينم عن معرفة ودراية عميقة بأصول هذا الفن ، ليتمكن من إدخال فن العمارة الشرقي والعربي ضمن أساليب هذا المنهج ، ليصطف اسمه مع محمد صالح مكية وزها حديد وغيرهم من أعمدة الشخصيات المعمارية الحديثة الكبيرة في العراق. أضفى الجادرجي لمسات فنية جميلة على العمارة العراقية ، ولجأ الى استخدام الطابوق العراقي الذي شكل منه شناشيل وأقواس زادت العمارة جمالاً وأصالة ، ويمكن أن تشاهد ذلك الفن ينعكس عملياً في عمارة الاتصالات القائمة في منطقة السنك ببغداد واتحاد الصناعات العراقي والمجمع العلمي العراقي ، حيث تجد معالم البيوت البغدادية والأصالة العراقية ضمن تلك المباني ، دون التفريط بما تعلمه من حداثة وتطور في معالم العمارة الحديث حين تلج إليها من الداخل . في نصب الحرية تجد أن روحه بقيت معلقة مع تماثيل جواد سليم ، فقائمة النصب ودعامته جزء من روعة وجمالية النصب ، حيث تستكمل أحدهما الأخرى ، وحين تمر من تحت النصب في ساحة التحرير تشعر بأنفاس الجادرجي وجواد سليم تختلطان بأنفاسك ، وانهما صارا جزءاً من هذا النصب الخالد . لم يتركز اهتمام الجادرجي على الشكل الخارجي للعمارة ، وحين تدقق في تفاصيل أعماله ستلمس ذلك التناغم والتمازج بين الشكل الخارجي والمضمون الفني وتلك مسألة مهمة وصعبة في مفهوم العمارة الحديثة حسب ما عرفت ، وحين ترك رفعت الجادرجي العراق مرغماً بعد ظروف عسيرة قضاها في سجن أبو غريب ، لكسر قدراته وإحباط همته في التطوير والعطاء ، ومن ثم محاولة تحطيم صورته وتحجيم شخصيته وكبرياءه من قبل سلطة اتخذت من استهدافها للعلماء والفنانين منهجاً ، لفرض سطوتها وهيمنتها على كل أشكال الحياة في العراق وفق رؤى متخلفة وبدائية لم نزل نعاني منها. غادر الجادرجي الى لندن ولم تتمكن السلطة الصدامية أن تكسر قدراته وتحطم إرادته ، فكان يحمل تفاصيل وجع العراق في روحه التي لم تبتعد عن سماوات بغداد ، فكانت فرصة أخرى له للعطاء ، لينجز كتبا في مفهومه لفن العمارة الحديثة أغنت المكتبة العراقية والعربية ، وصارت مرجعا للباحثين والعاملين في هذا المضمار الرائع والجميل. ترك رفعت الجادرجي بصمات متميزة على فن العمارة العربية ، وأثرى الهندسة المعمارية بأفكار المؤامة بين التقاليد المعمارية التقليدية وبين الواقع والظروف والبيئة المحلية ، وتمكن من أن يترك أثرا في هندسة البيت العراقي المتميز بالاستفادة من التطور الحاصل في فن العمارة الحديثة وبين إخضاع التراث للتمازج ومسايرة هذا الفن. خلال 92 سنة من عمر الفنان الكبير رفعت الجادرجي ( 1926 ) ، حقق حضوراً كبيراً ، وأنجز معالم لايمكن للعراقيين أن ينسوها ، وإرثاً لم يزل العديد من الفنانين المعماريين والتشكيليين من يلتزم به ، وأعطى للعراق روحه وحياته وجهدا متميزاً ، فكان جديراً بأن يكون إرثاً عراقيا نتفاخر به مثلما نتفاخر بنصب الحرية وبمعالم بغداد الجميلة ، ومثلما نتفاخر بكل هذه الأسماء التي تركت بصماتها وعطاؤها وفنها الجميل وقدراتها . وإذا كان رفعت الجادرجي قد حصد جزءاً من نتائج أعماله الفنية والهندسة ، وبحوثه في الفنون التشكيلية والعمارة الحديثة ، على شكل جوائز تقديرية وشهادات من جامعات أجنبية ومن جهات أكاديمية رفيعة المستوى ، فان له حقاً على العراق أن يمنحه ما يميزه ويجزيه لأعماله الجميلة وأثاره الرائدة وأفكاره المبدعة في فن العمارة العراقية. وأنا أطالع تكريم الرجل من الجهات البريطانية تكريما يليق به ، أشعر بالحزن وأنا أتطلع لأمنية أن يتم تكريم المبدعين من العراقيين بما يليق بهم وهم أحياء في بلدي . ويحق لنا أن نتفاخر كعراقيين برفعت الجادرجي وكل رعيل الفنانين والمعماريين الذين لم يقتصر دورهم في العطاء للعراق فحسب ، بل فاض العطاء ليشمل كل الإنسانية ، فأن هذه الأسماء بما شكلت من تجسيد لمعالم فن العمارة والأساليب الفنية في البناء ، تركت خلفها صروحاً تبهر العين وتسر القلب ، فيستذكرهم العالم بشيء من الإعجاب والتقدير ، نجد أن الأوان لتكتب أسماء الشوارع والحارات باسماؤهم ، وبذلك نرد لهم جزءاً من العطاء الذي بذلته هذه الأسماء للعراق الحديث . وتحية لكل المبدعين ولكل من أعطى للعراق في كل المجالات .

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على