أفراح القبة استعراض من الإحباط

ما يقرب من ٨ سنوات فى مدى مصر

Cultureكتب: ياسمين زهديترجمة: محمد الحاج"ما تشغلش بالك بالحقيقة"، تقول حليمة الكبش (صابرين) لابنها عباس يونس (محمد الشرنوبي): "الحقيقة يعرفها بس اللي خالقنا."إن كان لسطر واحد من الحوار أن يلخص روح مسلسل "أفراح القبة"، أو رواية نجيب محفوظ التي اقتبس منها المسلسل، فهي تلك النصيحة التي قالتها حليمة لولدها."أفراح القبة" هي قصة أفراد عديدين ترتبط حيواتهم بشكل وثيق بمحل عملهم، وهو مسرح في شارع عماد الدين بوسط البلد في السبعينات. تلتقط القصة تعقيدات علاقاتهم، التي تتكشف لنا على خشبة المسرح وفي الواقع، بين المسرح والمنزل القديم من طابقين الواقع بحي باب الشعرية القريب.بُنيت رواية محفوظ لتحكي نفس القصة في أربعة فصول متناقضة، تحمل كل منها وجهة نظر أحد الشخصيات الرئيسية، ما ينسج شبكة من عدم اليقين والإحباط بسبب عدم موثوقية الرواة. يعيد المؤلف زيارة الأحداث العادية ليرويها عبر عيون أبطاله، معطيًا الفرصة لرؤية جديدة للوقائع في كل مرة.يحاول المسلسل، الذي أخرجه محمد ياسين وكتبه محمد أمين راضي ونشوى زايد، اتباع طريقة الحكي ذاتها لكنه غالبًا ما يفشل. بعض المشاهد يتكرر بالضبط كما هو، بلا تعديلات ظاهرة، ما يجعل بعض الحلقات مكررة بشكل مزعج، بينما تظهر بعض المشاهد الأخرى وقد جرت فيها تغيرات مهمة. حتى في هذه الحالة فإنه من غير الواضح أبدًا لأي منظور شخصي تنتمي هذه النسخ من المشاهد، مما يناقض هدف طريقة وجهات النظر المتعددة للسرد، ويحول الأمر إلى ما يشبه الحيلة التقنية.لكن تلك الجوانب ليست العامل الوحيد لتشوش المسلسل مقارنة بالجاذبية المثيرة للرواية. شخصيات الرواية الرئيسية هي طارق رمضان، ممثل ثانوي ممتلئ بالمرارة في الفرقة المسرحية، وكرم يونس، ملقن الفرقة، وحليمة الكبش، زوجة كرم، وعباس يونس، ابنهما، وتحية، وهي موضع حب كل من طارق وعباس، حاضرة بالكاد، أو بالأحرى غائبة بشكل شديد الفاعلية. تقع الرواية في لحظة معينة من الحاضر الروائي مستعينة في أقل الحدود بالفلاشباك.لكن في المسلسل، يمتد الفلاشباك ليحوي خلفيات غير ضرورية لكل شخصية. نتيجة لذلك أضيف العديد من الشخصيات، مثل أم تحية ووالدها وإخوتها، والذين خلت الرواية من وجودهم. أيضاً صعدت قصة الحب بين طارق (إياد نصار) وتحية (منى زكي) لتحتل مركز الأحداث، بالإضافة لعرضها كقصة حب مثالية. من المقبول بالطبع إجراء تغييرات على عمل فني لدى اقتباسه في وسيط آخر. وفي حالة "أفراح القبة"،كان يمكن لهذه التعديلات الضخمة النجاح لو كانت قد أضافت للصراع الرئيسي للقصة أو خدمت روح السرد. لكن بينما يبدو نص محفوظ حادًا دقيقًا، يبدو المسلسل - الذي حظا ببضعة حلقات قوية في البداية – غير قادر على التركيز، وتقريباً مهلهل. وبسبب تشعب الخطوط الدرامية وتفرقها، تنخفض حدة الصراع، ونفقد روح الأمر برمته. تتكاثر الخيوط ولا يربطها رابط في النهاية.الأسوأ أن المضامين الأخلاقية للصراع تتغير، ما يجعل الأمر إشكاليًا. في كل من الرواية والمسلسل يموج زواج كرم وحليمة بالتوتر، لكن بينما تصوِّر الرواية هذا التوتر بشكل معقد ومتعدد اﻷبعاد، يقدمه المسلسل بشكل أحادي. في الرواية نجد أن مشكلة كرم مع حليمة هي تظاهرها بالتقوى؛ ففي الوقت الذي توبخه فيه على إدمان الأفيون، لا يخلو ماضيها من الخطيئة. يراها منافقة، بينما يرى نفسه، هو ابن المرأة الموصومة بالعهر في حيِّها، رجلًا صادقًا، راضٍيًا بحقيقة ما هو عليه. لكن في الصخب الكامل للاستعراض الذي يقيمه المسلسل، تذوب هذه التفاصيل الدقيقة. في المسلسل، يكره كرم حليمة لأنه يعلم أنها منذ زمن طويل، قبل أن يتزوجها، مارست الجنس مع مدير الفرقة المسرحية (جمال سليمان) ولأنه يشك أنها فعلتها مجددًا في لحظة ما، يدينها أخلاقيًا لأنها مارست الجنس خارج الزواج."أفراح القبة" ليس فقط قصة عن استحالة الحقيقة، ولكن أيضًا عن التعالي: ماذا يحدث حينما يحكم الناس على بعضهم البعض بناء على سلسلة من سوء التفاهمات، بل ويتصرفون بناء على ذلك؟ حليمة، التي تتحرر مما تراه أخلاق زوجها المنحلة –الأفيون والقمار الذي يجري في البيت لجلب المزيد من المال- تربي ابنها لكي يصبح "ملاك"، تلقنه أنه أفضل، وأطهر من كل ما يحيط به. والنتيجة؟ فتى مضطرب بعمق، يكبر ليصير جبانًا في الرواية وشخصية سيكوباتية في المسلسل.بين إيمانه بتفوقه اﻷخلاقي على عائلته، وانعدام حيلته في تغيير نمط حياتها بسبب سنه الصغيرة، يتغذى عباس على الغضب الصامت والعارم النامي بداخله، متخيلاً اليوم الذي سيستطيع فيه الهروب. في هذه اﻷثناء تأتي تحية، المحبوسة بدورها في علاقة رديئة مع طارق، لتعطيه الفرصة ليصبح منقذها، فيتزوجها. هل قتلها؟ لا يهم، على الأغلب أراد فعل ذلك على أية حال، في الرواية لأنه يرى نفسه ممثلًا للفضيلة والفن، أكثر قيمة من أن يقيَّد بالأعباء الأرضية كالزوجة والطفل، وفي المسلسل لأنها لم تتجاوز أبدًا حبيبها القديم، طارق، وبذلك تصبح في نظره "واحدة منهم”.في الحالتين، تكمن ميزة عباس الوحيدة في إخلاصه للفن وحبه للمسرح، ومع ذلك، ففي عمله الأول الناجح، وربما الوحيد، يخون عائلته ويفضحها. بموت تحية، يصبح الفن فرصته الوحيدة في التطهر عبر تصوير الواقع كما يراه؛ أب مدمن، وأم عاهرة، ومنزل لبيع الهوى، لكنه لن يصمد أمام التلاعب به في عملية الكتابة.يستخدم المسلسل مسرحية عباس كإطار للفلاشباك، وهو أمر تثبت فعاليته في أوقات، لا لأنه يتيح للمشاهد نقطة مرجعية فقط، ولكن أيضًا لأنه يعمق من سؤال الحقيقة، ليشمل الانقسام بين الخيالي والواقعي. لكن تقنية الفلاشباك تصبح، عبر الاستخدام، غير متسقة مع منطق السرد. هناك أحداث معينة وقعت بين تحية وعائلتها على سبيل المثال، يستحيل أن يكون عباس قد شهدها، ما يترتب عليه استحالة أن نراها عبر المسرحية. بالإضافة إلى بعض لحظات الفلاش باك التي تأخذ شكل المونولوج، وتلقيه الشخصية مباشرة على مسامع الجمهور، ما لا يتوافق وسياق القصة. بسبب هذه التناقضات في السيناريو فإن السرد غير الخطي لم يقو القصة، بل أساء لها.حتى نقاط قوة المسلسل الملحوظة عادةً ما استُخدمت بشكل مسيء. الموسيقى الممتازة التي ألفها هشام نزيه والتي تنوعت بين الرقة المؤثرة في أحيان إلى التوتر العنيف في أحيان أخرى، اشتغلت بلا انقطاع في خلفية العديد من المشاهد، حتى أصبحت تفصيلة مقحمة وفقدت تأثيرها الساحر. الانتباه الظاهر للتفاصيل في تصميم الديكور أفسح مجالاً للبذخ المُشتِت، حينما امتزج بالألوان المشبعة الناتجة عن عملية تصحيح الألوان والحركة شبه الطقوسية للكاميرا.برغم ذلك، فبفضل عدد من الآداءات التمثيلية الاستثنائية، أصبح أفراح القبة أحد أكثر المسلسلات شعبية في رمضان. المثال الأوضح على ذلك هو صابرين، التي يلتقط تجسيدها لحليمة الكبش تطور الشخصية من البراءة الأولى مرورًا بالإحباط المؤقت ووصولًا إلى الانكسار المدوي للقلب.لكن بالنسبة لي، فإن شخصيتي أم هاني (سلوى عثمان) وعم برغل (سامي مغاوري) تبرزان بأكثر مما تفعل حليمة، لأنه على عكس حليمة التي تحظى، ضمن الشخصيات الرئيسية الأخرى، بحضور غني وحيوي في الرواية، مزوِّدة الكتاب والممثلين بمصدر جاهز للإلهام، فإن كلًا من أم هاني وعم برغل هما شخصيتان هامشيتان في النص الأصلي، يُذكر اسماهما بخفة، إلا أنهما يتجسدان وينبضان بالحياة في المسلسل، بل ينطلقان لخلق مجموعة من أبرز لحظاته، ما يبدو مناسبًا بشكل مُرض لقصة يلعب ممثلان مساعدان دورين رئيسيين فيها.مسلسلات رمضاننجيب محفوظاقرأ أيضا: أفراح القبة.. أحزاننا العاديةنيللي وشريهان: الحياة في فيلم كارتونهيبتا: محاضرة "المُحن"كيف وصل «المعلم كرشة» إلى حصة الإنجليزي في ثانوية ميشيجان؟

شارك الخبر على