الكلمة والعالَم.. نزهة فكرية في عالم تشومسكي

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم الأوّل
أفرام نعوم تُشُومِسْكِي) Avram Noam Chomsky ولد في 7 ديسمبر ( كانون أول ) 1928 في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا ) : أستاذ لسانيات وفيلسوف أميركي إضافة إلى أنه عالم إدراكي وعالم بالمنطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسي ، وهو أستاذ لسانيات فخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT الذي عمل فيه لأكثر من 50 عاماً . وبالإضافة إلى عمله في مجال اللسانيات فقد كتب تشومسكي عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام وألّف ماينوف على 100 كتاب . يوصف تشومسكي على الدوام بالشخصية الثقافية البارزة ، كما يوصف أيضاً بأنه " أب علم اللسانيات الحديث" ، ويُعدُّ شخصية رئيسة في الفلسفة التحليلية . أثّر عمل تشومسكي على مجالات عديدة كعلوم الحاسب والرياضيات وعلم النفس ، ويعود إليه الفضل في تأسيس نظرية النحو التوليدي والتي كثيراً ما تعتبر أهم إسهام في مجال اللسانيات النظرية في القرن العشرين . بعد نشر كتابه الأول في اللسانيات غدا تشومسكي أبرز منتقدي الحرب الفيتنامية ، ومنذ ذلك الوقت استمرّ في نشر كتبه النقدية تجاه السياسة الأميركية والرأسمالية ؛ فقد عُرِف عنه نقده اللاذع للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ورأسمالية الدولة ووسائل الإعلام الإخبارية العامة . يصف تشومسكي آراءه بأنها " تقليدية لاسلطوية - إلى حد ما - تعود أصولها لعصر التنوير والليبرالية الكلاسيكية " ، كما يُعَدُّ كذلك منظّراً رئيسيً للجناح اليساري في السياسة الأميركية . ألّف تشومسكي مايربو على المئة كتاب في ميادين ثلاثة رئيسة هي الثقافة العامة واللغويات والسياسة ، وقد تُرجِم عدد غير قليل منها إلى العربية . أقدّم في القسم التالي - وأقسام أخرى تالية - ترجمة لنصّ الحوارية بين الفيلسوف وعالم اللغويات نعوم تشومسكي والفيلسوف بريان ماغي ، والحوارية مُتاحة بصورة مجانية على شبكة اليوتيوب العالمية ، وتتناول الحوارية أفكار تشومسكي المميزة بشأن منشأ اللغة وكيفية تطوّرها لدى الكائن البشري . المترجمة
تقديم الفيلسوف بريان ماغي يحوز نعوم تشومسكي ذيوع صيت عالمياً في ميدانين لايبدو في الظاهر أنّ ثمّة علاقة بينهما ، وقد جاءه ذيوع الصيت الأعظم لكونه أحد طلائعيي مناهضة الحرب الأميركية في فيتنام ؛ أمّا ذيوع الصيت الأكثر عمقاً وتجذراً فقد جاءه بسبب كونه أستاذاً في اللغويات شاءت تصاريف القدر أن تجعله يغيّر طبيعة إشتغاله المعرفي بعد أن بلغ الأربعين من عمره . يعدُّ تشومسكي - بقدر مايختصّ الأمر بالفلسفة والإشتغالات الفلسفية - الورقة الرابحة ( الجوكر Joker ) دوماً في ورق اللعب على الرغم من أنّ كثرة من الفلاسفة لايرون فيه فيلسوفاً بأيّ شكل من الأشكال ، وحجّتهم التي يسوّغون بها موقفهم هذا هي أنّ علم اللغة ( اللغويات ) فعالية معرفية تتمايز عن الفلسفة وإنْ كانت تتجاور حدّ الإلتصاق معها . أنا من جانبي لن أدخل في نقاشات حجاجية بشأن هذا الأمر ؛ إذ أنه مسألة تتجاوز نطاق المحدّدات التعريفية ( لنطاق إشتغال كلّ من الفلسفة واللغويات ، المترجمة ) ، وأكتفي بالقول أنّ تشومسكي حائز على تدريب فلسفي راقٍ وأنّ لأعماله مفاعيل فلسفية عظيمة الأثر ، وقد لانجد في الأدبيات الفلسفية المعاصرة فيلسوفاً على قيد الحياة يتمّ الإستعانة المرجعية بأعماله بأكثر ممّا يحصل مع تشومسكي . إنّ الموضوعة الإشكالية بشأن العلاقة بين اللغة والعالم هي موضوعة لطالما نالت القدر الأعظم من الإهتمام والتمحيص في فلسفة القرن العشرين ، وهي الموضوعة التي خلبت لبّ فيتغنشتاين وأسرته طيلة حياته ، ثمّ قدّم عالم اللغويات تشومسكي ليخبرنا - في أعقاب فيتغنشتاين - بأنّ كيفية إكتسابنا للغة وعلاقة تلك الكيفية بالخبرة والعالم إنّما تختلف إختلافاً جذرياً شاملاً عمّا رآه الفلاسفة من قبلُ في مواريث التراث الفلسفي الأنغلو - ساكسوني . إبتدأ تشومسكي في التبشير بأفكاره في خمسينيات هذا القرن ( العشرين ، المترجمة ) ، وكانت أفكاره في جانب منها تعبيراً عن نقده لمواضعات السايكولوجيا السلوكية السائدة ، ولن يكون أمراً مجحفاً إذا ماقلنا أنّ علماء السايكولوجيا السلوكية يطرحون أفكارهم كما لو كان الفرد يأتي لهذا العالم وهو محض كتلة إسفنجية ليّنة تعمل البيئة على تشكيلها وصناعتها من خلال فعاليات متتالية من الإستثارة والإستجابة ، والمكافأة والعقوبة ، وتعزيز الإستجابات وتداعي الأفكار ،،، ومن خلال هذه الفعاليات يرتقي المرء ويتعلّم كلّ شيء بما فيه اللغة . إنّ هذه الرؤية - كما يعتقد تشومسكي في نظريته - عاجزة عن تفسير الكيفية التي يستطيع بها الأفراد جميعهم وبصرف النظر عن قدراتهم المتباينة أداء فعالية شديدة التعقيد والصعوبة هي فعالية إستخدام اللغة وتداولها خلال فترة قصيرة حتى لو إنّهم لم يكونوا قد تعلّموها بطريقة مقصودة في سنوات طفولتهم ؛ فهذا الإنجاز الفريد من نوعه يستلزم أن يكون هؤلاء الأفراد مُعدّين بنمط من البرمجة الوراثية بحيث يستطيعون الإتيان بمثل هذه الفعالية المعقّدة . إنّ لهذه الرؤية ( التشومسكية ) بعض النتائج السلبية المترتّبة عليها ، وأهمّ تلك النتائج السلبية وأكثرها جوهريةً هو أنّ كلّ موضوعةٍ لاتتوافق مع هيكل هذه الرؤية ( أي لايمكن تعشيقها بتناغم في تروس هذا الجهاز التشومسكي المعقّد ) ستكون بالضرورة غير قابلة للتعبير عنها أو فهمها في هيكل أية لغة بشرية ، والمبادئ العامة المتشاركة بين كلّ اللغات تفرض محدّداتٍ لامفرّ منها بشأن قدرة المرء على فهم العالم والتواصل مع نظائره من البشر . تبدو لي الرؤية ( التشومسكية ) طبقاً لما هو معروف عنها تأكيداً لأفكار ( كانت ) في ميدان اللغة ؛ بل هي لاتنفكّ تبدو لي إمتداداً متواتراً لتراث كانت ، ولايسعنا بعد كلّ هذا سوى القول أنّ تشومسكي - وهو خالق هذه الرؤية - قد برهن دوماً أنّه المُعبّر الأمين عن رؤية مدهشة لاتفتقد الخصب الخلّاق .
الحواريّة ماغي : واحدٌ من الأسباب التي تجعل نظريتك ( في اللغة ، المترجمة ) عسيرة التصنيف في حقل معرفي محدّد هو أنّها مركّب هجيني ؛ إذ أنّها في جزء منها فلسفة ، وفي جزء آخر علم لغة ، وفي جزء ثالث بيولوجيا ، وفيما يختصّ بكونها بيولوجيا فهي كذلك لأنها تتحدّث عن خواص وراثية كامنة في الكائن البشري مثلما تتناول أيضاً كيفية الإرتقاء ببعض قدرات الكائن العضوي ( أي الإنسان ، المترجمة ) . أرى أنّ أكثر الطرق وضوحاً لمناقشة نظريتك اللغوية هي تلك التي تشرع من البيولوجيا لأنّ هذا بالضبط هو مافعلته أنت حين وجّهت سهام نقدك اللاذع صوب علماء البيولوجيا السلوكيين . كيف حصل الأمر معك عندما إنطلقتَ من نقطة الشروع تلك ؟ تشومسكي : السبب وراء ذلك هو أنّ رؤية هؤلاء السايكولوجيين السلوكيين لطبيعة اللغة وكيفية إكتسابها كانت هي السائدة لا في السايكولوجيا فحسب بل في الفلسفة وعلم اللغة كذلك . عندما كنتُ طالباً قبل مايقاربُ الثلاثين سنة خلت ( في أواخر سبعينيات القرن الماضي وقت إجراء هذا الحوار ، المترجمة ) سادت رؤية عن اللغة جوهرُها إنّ اللغة ليست سوى نسقٍ من العادات والمهارات التي يمكن إكتسابها من خلال تدريب مكثّف ومعلن يوظّف التكرار وربّما بعض المهارات الإجرائية الإستقرائية أو التعميمية إلى جانب التداعيات المكتنزة بالدلالات الإيحائية ، وطبقاً لهذه الرؤية ينمو نسق العادات ( اللغوية ، المترجمة ) بطريقة تراكمية من خلال إخضاع الخبرة لعمليّتيْ التعميم والمقايسة . إنّ هذا الأمر ماهو إلّا إفتراض تجريبي ( إختباري empirical ) ينبغي أن يخضع للتجريب والإمتحان الواقعي ؛ لكنّه طُرِح باعتباره حقيقة قبلية apriori تسبق التجربة وتتعالى عليها مع أنّ واقع الأمر ليس على هذه الشاكلة ؛ إذ ليس من قبيل الضرورة المحتّمة أن تكون اللغة نسقاً على نمط النسق الذي يصفه السايكولوجيون السلوكيون مثلما ليس بالضرورة أن يكون إكتساب اللغة بالكيفية التي أعلوا من شأنها وعضّدوها .
ماغي : أرى أنّك أكّدت أمراً في سياق كلامك بات واضحاً من خلال إشارتك له ومفاده أنّ الكثرة الغالبة من الناس لم يدرسوا اللغة ( الأمّ ، المترجمة ) ، أي بمعنى أنّ الآباء لم ينهضوا بعبء تعليم أبنائهم اللغة بكيفية منسّقة ومنظّمة ، وعندما يستعيد المرء الحقيقة الصارخة بشأن الحدود المفزعة لعدد غير المتعلّمين فإنّ جوهر قولك يبدو أقرب إلى حقيقة بديهية . لنبدأ من هذه الملاحظة إذن : الأطفال يتعلّمون اللغة . تشومسكي: أنا أذهبُ لما هو أبعد من ذلك . لاشكّ في أنّ اللغة يتمّ تعليمها للصغار بطريقة هامشية ، والتدريس بذاته ليس أمراً أساسياً في عملية إكتساب اللغة ، وهنا نستطيع القول بطريقة حاسمة إنّ اللغة ليست مهارة يتمّ تعليمها إذا قصدنا بالتعليم عملية تختصُّ بخصائص محدّدة مثل بعض تلك التي جئتَ على ذكرها . يمكن أن نجد في مفردة " النموّ " إستعارة مفاهيمية أفضل ؛ إذ يبدو لي أنّ اللغة تنمو في عقل الإنسان بالكيفية ذاتها التي تنمو بها أعضاء جسده المعروفة ، ونحنُ نبدأ في التفاعل مع العالم بعقول محكومة بمحدّدات وراثية طبقاً لكيفية معينة بذاتها ، ومن خلال تفاعلنا مع البيئة والخبرة تتغيّر هذه الكيفية حتى يصل المرء مرحلة النضج وحينها نتمكّن من إمتلاك ماجرت العادة على توصيفه بِـ " معرفة اللغة " . إنّ بنية العقل في هذا الطور الناضج - بل وحتى في الأطوار الوسطى السابقة - تمثّل تجسيداً لنسق معقّد من التمثيلات الذهنية والمبادئ الإحتسابية التي تطبّقُ على هذه التمثيلات ، وهذه السلسلة من التغيّرات التي تبدأ من الوضع الأوّلي المقيّد بمحدّدات الوراثة وتنتهي بهذا الوضع النهائي الذي وصفناه تشبه في جوانب عدّة منها عملية نموّ الأعضاء البشرية ؛ بل أنّني أميل للإعتقاد بأنّ من المناسب إعتبار العقل نسقاً فريداً من الأعضاء الذهنية - التي تعدّ القدرات الذهنية من بينها - ، ولكلّ من هذه الأعضاء الذهنية بنية محدّدة تحكمها قدراتنا البيولوجية الفريدة . إنّ طبيعة هذه الأعضاء الذهنية وكيفية التفاعل بينها من جهة والبيئة من جهة أخرى هي أمور محدّدة وراثياً أيضاً من قبل قدراتنا البيولوجية المميّزة ، ومايحصل في العادة هو أنّ تلك الأعضاء الذهنية تنمو كنتيجة طبيعية لتأثير الخبرة التي تعمل على تشكيلها والكشف عنها خلال عملية إرتقائها . إذن وفقاً لهذه الرؤية يبدو لي أنّ كلّ حديث عن تعلّم اللغة إنّما هو حديث خاطئ ومضلّلٌ إذا كنّا نقصد من مفردة التعليم تلك الأساليب المعروفة التي باتت أقرب لممارسة أعراف مترسّخة .

شارك الخبر على