حسين صالح

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

صلاح نيازي
"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية"
إذن لا بدّ ممّا ليس منه بدّ. هكذا ببساطة وقع ما لم يكن في الحسبان قطّ.حسين صالح بكل عنفوانه، بكل تأريخه ومستقبله يُوارى الثرى مرة واحدة وإلى الأبد.بكلّ حواسه الممتلئة بالفضول والمعرفة والإنسانية يُوارى الثرى مرة واحدة وإلى الأبد.فراق ولا كالفراق، ما من لقاء بعد اليوم، يا للهول. "الكلّ باطل وقبض الريح". أين عدالة الحياة إذن؟ وأية دموع تلك التي "تشفي ولا تجدي" كما يقول آبن الرومي؟ في مثل هذا الفراق الأبدي ما من مواساة أبداً. الموت جرح أحشائيّ خاص لا يعانيه إلا حامله. وكلّ مواساة نفالة، وكلّ تطييب خاطر فضلة.يتخذ الموت كذلك طابع المفاجأة دائماً،، حتى لو كان متوقعاً. وكأنه يقع لأوّل مرّة فلا موت قبله ولا موت بعده. هبْه زار عجوزاً :"بلغ من الكبر عتيّاً"، لا فرق فإنه يتخذ صيغة المفاجأة كذلك، وصيغة الغدر. لأنه آستلاب أبدي، يخلّف فراغاً لا يُملأ. بين مصدّق ومكذب مات حسين صالح، وكأنْ لا موت قبله ولا موت بعده. وأنا لا أدري بأية كلمات أبدأ. مَنْ يصدّق أن حسين صالح ببنيته الفارعة، وجسمه الرياضي المتناسق، قد اختفى؟ كيف توقفت تلك الحيوية التي لا تكلّ؟ وكيف تعطّلت خطواته المفعمة بالحياة؟من يصدق أن حسين صالح بكلّ علومه الموسوعية، وصوته الدافئ الهامس ونظرته العميقة الحانيةقد امّحى من الوجود مرّة واحدة وإلى الأبد. مَنْ يصدّق أن هذا الإنسان الممتلئ بالبشرية، قد اكتفى من كل ممالك الدنيا بمساحة تابوت فقط.المفارقة المشؤومة أنني اتصلت به في ذلك الصباح. أردت أن أهنئه بالعيد.- أهلاً عزيزي حسينجاءني الجواب هذه المرة باللغة الإنكليزية وبكلمة واحدة.قال لي ابنه تيم :Passed away بوقار إنكليزي، حزين هذه المرّة.لم أكن أشعر بفجاعة هذا التعبير من قبل كما ينبغي ولكنّه الآن أصاب مقتلاً، فانهمر الدمع.ومرة واحدة شعرت أن شيئاً ما انثلم في حياتي "ولنْ يعود له سبك" كما يقول المعري.أردت أن أهنئه بالعيد، فإذا التهنئة تنقلب إلى تعزية. أية محنة تلك التي يمّحي فيها الحدّ الفاصل بين التهنئة والتعزية. رحماك يا ربّ.تعرفت على حسين صالح عرضا في مكاتب الإذاعة البريطانية. لفت نظري إليه بحرصه على الإنجاز، وجديته فيما ينجز. يتقصى الخبر مهما كان صغيراً، فيشبعه بحثاً وتمحيصاً.يتعقب الكلمة مهما كانت شائعة ومتداولة في القاموس تلو القاموس إلى أن يقع على أسرارها. الإحاطة بالموضوع مهما بدا هيناً، جزء أساسي من شخصيته وكأنْ بالفطرة.فضولي لا يشبع. وقارئ نهم دائم التجدد. وهو إلى ذلك متعدد المواهب Polymath.كان لا يفرّط بوقت، ولا "يؤجل عملاً إلى الغد"، همّة متواصلة دونها همّة قفير نحل.ليس التسكّع ،أو التبطّل بأية صيغةٍ كان ، من جغرافيته المعرفية ولا من تأريخه الشخصي.لا يتنابز أبداً. مهندم دائماً. إصغاؤه لما يُطرح عليه من أفكار تشبّع نسغ ٍنباتيتمتنّت أواصر تعارفنا حينما كان يعمل مترجما وإدارياً في صحيفة عربية بلندن. كان يتميز بسعة معارفه وبتواضعه وخبرته العميقة بالكومبيوتر. فلا عجب أنْ بات موضع ثقة زملائه لما عُرف عنه من دقة في البحث ورقّة في التعامل.كان حسين صالح موسوعة من نوع ما، يتحدث عن الرواية الإنكليزية باللباقة ذاتها التي يتحدث بها عن الشعر الجاهلي، ويتحدث عن شيكسبير كما يتحدث عن مقامات بديع الزمان الهمذاني، يتحدث عن المغني الاوبرالي "جيلي" كما يتحدث عن داخل حسن وهو" يطحن بقايا روحه، يداه تدوران فقط ولا تُسمع رحاه".ذكرت له مرة عرضاً اسم عبد الباسط عبد الصمد يوم جاء إلى بغداد بمناسبة وفاة الملكة عالية في أوائل الخمسينات. كان مشهده جليلاً وهو يضع على كتفيه إزارأ أخضر مشبع الخضرة مهيباً. أذكر أنه قرأ في تلك التلاوة الآية التي استشهدت بها في بداية هذه الكلمة :"يا أيتها النفس المطمئة ارجعي إلى ربّك راضية مرضية..." كان صوته يترقرق بأعمق خشوع وطمأنينة ومواساة.وإذا بالصمت يرين في أنحاء صحن "الكاظمين" وكأنْ في غيبوبة روحية.قلت والشئ بالشئ يُذكر،أنا معجب أشدّ الإعجاب بتلاوة عبد الصمد لقصار السُّوَر. تصورت أني أجئ له بمعلومة جديدة عليه. قال لي حسين صالح، وأهم تلك التلاوات ما رتّله بجامعة دمشق.هكذا توسعت دائرة أحاديثنا، ولم يكنْ يخطر ببالي أن المقرئين -المصريين في الأخص- من اهتماماته أيضاً. ذكر عرضاً أن تلاوة المقرئ محمد رفعت لسورة مريم معجزة صوتية. إنها هديل بالكامل. جرنا الحديث إلى المقرئ مصطفى إسماعيل وتلاوته العجيبة لسورة والضحى. أمًا الأذان الذي يقرأه فلم أسمع شيئاً مثله بحياتي.باختصار كان حسين صالح جديراً بالاغتراب، بكل ما يعنيه الاغتراب من الإصغاء التام لأصغر معلومة، ومن التواضع مهما فاض علمه، ومن التأقلم لفصول الحياة خريفها وربيعها، صيفها وشتائها.ولكن أهم ما تميز به حسين صالح أنه كان أواني مستطرقة يسعى إلى التساوي.قلت له مرة هل أنت بحاجة إلى شيء من بيروت؟ تردد وتردد بحياء وقال: ليتني أحصل على ديوان الشنفرى. ثمّ تبسط في الحديث عن لاميّته المعروفة بلامية العرب.(أوّل ما ميّز هذه القصيدة الفريدة المستشرق البريطاني روبرت ايرونغ، في كتابه الخطير"الليل والخيل والبيداء، المأخوذ عن المتنبي).لا بدّ لي من التنويه بموسوعيته في الشعر الحديث، في شتى البلدان العربية، من أحمد شوقي، وهو شاعره المفضل، إلى محمود حسن إسماعيل. أما في النثر فله شغف خاص بنجيب محفوظ، وطه حسين ولا سيما كتابه:"الأيام"، ومقالات جورج أورول وروايتهذات العنوان العجيب: Coming up for air(شبّه أورول عودته إلى ماضيه مثل صعود سمكة فوق سطح الماء لاستنشاق الهواء).ما أريد أن أستخلصه ان حسين صالح شجرة مثمرة عميقة الجذور، يتخلّق بعمقها وصمتها.لم يسرد ماضيه بأية مناسبة حسباً أو نسبًاً، ولم يتطرق إلى شهاداته الجامعية (عرفت من غيره أنه كان استاذاً جامعيا في إحدى الجامعات البريطانية متخصصاً بالعلوم).لا غرابة إذن انني رغم طول السنين التي عرفته فيها لا أدري بأيّ مذهب ديني يتمذهب،ولا لأي حزب يتحزب، ولا أعرف حتى المدينة التي وُلد فيها بالعراق.نسيت أن أذكر أن لغة حسين صالح العربية، ولغته الإنكليزية، أختان بالرضاعة.

شارك الخبر على