٦٠ عاما على تأميم القناة.. «اللص» الذي خلد التأميم اسمه

ما يقرب من ٨ سنوات فى التحرير

سرق الفكرة من سنوسرت الثالث وباعها لسعيد باشا 

نهب أراضي مصر وباعها للحكومة بتعويضات باهظة.. ودفع له ملايين ليوقف «السخرة»

خان عرابي وفتح القناة لسفن الإنجليز لتحتل مصر

عبد الناصر جعل لفظ «ديليسبس» كلمة سر في خطابه لعملية التأميم

حمل تمثاله أعلام إنجلترا وفرنسا بعد العدوان الثلاثي فقطع المصريون رأسه

عندما وضع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر خطة تأميم القناة سياسيا وأمنيا كان أهم جزء فيها أن تتم العملية أثناء إلقائه خطاب المنشية في ٢٦ يوليو ١٩٥٦ وهو الخطاب الذي اعتاد الرئيس توجيهه لتخليد ذكرى خروج الملك من مصر عن طريق الإسكندرية، ووضع عبد الناصر تصورا بأن تتحرك فرق التأميم بعد إعطائه إشارة أثناء الخطاب وتنهي عملية الاستيلاء على مقار الشركة قبل أن يغادر منصة المنشية.

وكانت الإشارة التي اختارها هي لفظ "ديليسبس"، مهندس قناة السويس الذي أدار عملية الاحتيال على حكام مصر ونهب أموال الحكومة المصرية، ثم ساعد في تسليم مصر للاحتلال البريطاني.

كان عبد الناصر يوضح للمصريين تفاصيل محاولات الغرب احتلال مصر مجددا عندما أرسل مدير البنك الدولي يتفاوض لتمويل إنشاء السد العالي بنفس الوجه القبيح والنية السيئة التي جاء بها ديليسبس لحكام مصر قبل عقود واحتال عليهم بفكرة شق القناة الملاحية بين البحرين ونسبها لنفسه فوضع عبد الناصر اسم ديليسبس في خطابه كلمة سر لتحرك فرق التأميم وخلد اسمه بصفته رمزا للص الذي سيظهر بأسماء أخرى، من آونة لأخرى ليسرق المصريين.   

قناة السويس ليست بنت أفكار ديليسبس ولا أبناء محمد علي، فقد سبقهم إليها كل حكام العصور والعهود المختلفة التي مرت على مصر وحكمتها من الفراعنة إلى الفرس والبطالمة والرومان ثم الحكم الإسلامي وحتى الاستعمار الأوروبي، حتى وصلت إلى فرنسا في عهد الوالي سعيد باشا وأصبح ديليسبس هو رب المشروع وكاهنه، رغم أنه لم يكن إلا أفاقا محتالا برتبة مهندس. 

التاريخ يسجل أن فرعون مصر رمسيس الثاني هو أول من حفر قناة لري الوادي الخصيب، ثم واصل الفراعنة شقها، لتكون وسيلة للنقل إلى مدينة نيخاو الفرعونية بالقرب من البحيرات المرة بين السويس والإسماعيلية.

لكن أول من ربط البحرين المتوسط والأحمر بقناة كما سجلت واجهة معبد الكرنك هو الملك سنوسرت الثالث أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، الذي حفر قناة صناعية على الأرض لتربط بين البحر المتوسط (بحر الشمال) والبحر الأحمر (بحر أروتري)، من طريق الفرع البيلوزي، أحد فروع نهر النيل السبعة بالقرب من مدينة بور سعيد حتى تصل إلى مدينة بوبست، الزقازيق حاليا ثم تتجه شرقا إلى بلدة نيخاو، أبو صوير حاليا، حيث كانت تقع البحيرات المرة والتي كانت تعتبر نهاية خليج السويس.

وبدأ استخدام تلك القناة عام 1874 قبل الميلاد، وكان لهذه القناة دور مهم في نقل البضائع، وما زالت آثار هذه القناة موجودة غرب أبو صوير، ومن الممكن اقتفاء أثرها حتى الكيلو 138 طريق بور سعيد ـ السويس.

وفي أثناء الحكم الروماني لمصر، عادت الملاحة للقناة، واستمرت في أداء دورها لمدة 300 سنة، ثم أهملت حيث أصبحت غير صالحة لمرور السفن، إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر ووضع مشروعا لإنشاء قناة جديدة، تربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر مباشرا، ولكنه لم ينفذ، خوفا من الاعتقاد الخاطئ آنذاك بارتفاع منسوب البحر المتوسط عن البحر الأحمر.

وكان رأي أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، أن حفر القناة بين البحرين يعرض الدولة الإسلامية لغزو يشنه الروم مستخدمين تلك القناة، واكتفى بتجديد قناة الرومان، التي تربط الفسطاط، عاصمة مصر، وبحر القلزم (خليج السويس) عام 642 م، وسميت بقناة أمير المؤمنين.

واستمرت صالحة للملاحة 150 عاما، إلى أن أمر الخليفة العباسي، أبو جعفر المنصور بردم القناة تماما وسدها من جهة السويس، منعا لأي إمدادات بالمؤن والعتاد من مصر إلى أهالي مكة المكرمة والمدينة المنورة الثائرين ضد الحكم العباسي.

وعلى مر العصور التي حكم مصر فيها نظم مختلفة استمرت المناوشات بين هذه النظم ومنافسيها حول شق قناه في مصر أو إعادة افتتاحها أو توسعتها مرورا بالمماليك ومناوشاتهم مع البرتغاليين لجذب التجارة عبر مصر وقناتها ثم بين العثمانيين وملك فرنسا لويس الرابع عشر لفتح طريق تجارة من الهند عبر مصر لينافس الهولنديين والإنجليز، وبعد أن فشل وأوشك على إعلان الحرب على هولندا تحول إلى فكرة غزو مصر ليسيطر على التجارة، لكنه فشل في الخطين.

ثم ظهر دور تجار فرنسا المقيمون بمصر لخلق رأي عام فرنسي يلح في طلب شق قناة في برزخ السويس لتصل بين البحر الأبيض والبحر الأحمر، وطالبوا بالتدخل المسلح في مصر لتحقيق هذا المشروع وانتقل الموضوع ليأخذ شكل دراسة أعدها نهاية القرن السابع عشر أحد رجال الاقتصاد  يدعى (جاك سافاري)، وقارن بين طريق السويس وطريق رأس الرجاء الصالح مبينا الفرق الهائل في المسافة واقترح إنشاء قناة في برزخ السويس تمتد من دمياط إلى السويس أو من السويس إلى أقرب نقطة في نهر النيل.

أما قصة فردينان ديليسبس الذي التصق اسمه بالقناة فتبدأ مع أبيه ماتيو ديليسبس الذي دان له محمد علي بالفضل في تثبيت مركزه وتثبيته واليا على مصر عند الباب العالي في عهد محمد علي، لذلك قرب محمد علي ابنه فردينان إلى أسرته حتى إنه لازم سعيد باشا في طفولته وشبابه وأصبح ديليسبس قنصلا لفرنسا في الإسكندرية سنة 1832م.

وأخذ فردينان ديليسبس فكرة إحياء مشروع شق القناة لديليسبس من مسيو ميمو قنصل فرنسا السابق في مصر، وقرر أن يفاتح بها الخديو سعيد مستغلا قربه منه، وبالفعل تحمس سعيد للفكرة بشدة وأصدر فرمانا مبدئيا بالامتياز، في 30 نوفمبر 1854م وكانت أهم شروطه: مده الامتياز ٩٩ عاما من الافتتاح ويحصل المؤسسون على ١٠٪‏ من أرباح الشركة وتحصل الحكومة المصرية على ١٥٪‏ من الأرباح بينما تحصل الشركة على ٧٥٪‏ من الأرباح.

 في المقابل احتال ديليسبس على سعيد ليلزم الحكومة المصرية بتوريد أربعة أخماس العمال بالسخرة واستخراج الخامات من المحاجر بلا ضرائب وشق ترعة على حساب الشركة التي استولت على الأراضي التي حولها، وتزرعها دون ضرائب عشر سنوات وبضريبة العشر ٨٩ سنة ثم بضريبة المثل.

وشكل ديليسبس لجنة دولية من علماء أكبر الدول المنتفعة بالقناة لإعداد تقرير يقف به في وجه إنجلترا المعارضة، وبالفعل أوصت اللجنة الدولية في تقريرها إلى سعيد باشا في يناير 1856م بشق القناه وحددت تكاليفها آنذاك بحوالي ٢٠٠ ألف فرنك، وقدرت الإيرادات بنحو ٣٠ ألف فرنك سنويا، وقدرت أن يتم العمل في ست سنوات.

وفي 5 يناير 1856م اعتمد سعيد باشا قانون الشركة وفي نفس اليوم أصدر فرمانا مفصلا للفرمان الأول 1854م وزاد عليه تعيين فردينان ديليسبس رئيسا للشركة مدة عشر سنوات من يوم بدء الملاحة في القناة وتوريد أربعة أخماس العمال المطلوبين من المصريين، كما منح الشركة الحق في تحديد رسوم المرور دون الرجوع للحكومة المصرية على ألا تزيد على عشر فرنكات للطن الواحد.

وعندما رفض الباب العالي اعتماد فرمانات سعيد بإيعاز من إنجلترا وطلب سحب الأراضي احتال ديليسبس ليسرق الحكومة المصرية مجددا، فبعد أن أقنعت إنجلترا الباب العالي بأن المشروع ينتقص من سيادة مصر، لأن الحكومة تنازلت للشركة عن أراض وأطيان تزيد بكثير على احتياج المشروع، كما أن توريد العمالة المصرية من الفعلة "ينتهك حرية الأفراد"، أمر السلطان العثماني الخديو إسماعيل باستعادة الأراضي الزائدة على حاجة المشروع وترعة المياه الحلوة وحذف تعهد الحكومة توريد الأنفار المصريين للعمل في المشروع، وإلا فلن يصدق على فرمان الامتياز.

واضطر الخديو إسماعيل إلى دفع ملايين كتسويات لتقبل الشركة التنازل عن الأراضي الزائدة وترعة المياه الحلوة وخفض العمالة المصرية المتفق عليها من 20 ألف عامل إلى 6 آلاف عامل فقط، وخسرت مصر أموالا طائلة لاستعادة ما منحه سعيد باشا مجانا للشركة، فبلغ مجموع التسويات التي دفعتها مصر 84 مليون فرنك. 

وحتى الأراضي المجاورة التي منحتها الحكومة للشركة بلا مقابل استردتها ودفعت للشركة ٣٠ مليون فرنك، فقد اشترت الشركة أطيان تفتيش الوادي بمبلغ 200 فرنك للهكتار الواحد وباعته للحكومة المصرية بـ500 فرنك للهكتار.

وفي يوم افتتاح القناة تصدر فردينان ديليسبس منصة الاحتفال بجوار الخديو إسماعيل وملوك وأمراء أوروبا وتصدر تمثاله الشهير مدخل القناة (بدلا من تمثال الحرية الذي صنع لقناه السويس وذهب لنيويورك) يستقبل السفن الداخلة من البحر الأبيض وكأنه رئيس دولة مستقلة داخل مصر.

وعندما نزل الإنجليز التل الكبير من القناة بمساعدة الشركة واحتلوا البلاد ظل ديليسبس قابعا بتمثاله في مدخل القناة سنوات طويلة وحتى بعد التأميم بقى مكانه لم يفكر أحد في رفعه.

لكن عبد الناصر رأى ديليسبس رمزا للمحتل وأطماعه، وبعد التأميم ووقوع العدوان الثلاثي على مصر وعندما خرجت القوات الغازية من بورسعيد في ٢٤ ديسمبر ١٩٥٦ سارع أهل بورسعيد لمدخل القناة وأسقطوا التمثال عن قاعدته بعد أن فوجئوا بأن قوات العدوان قبل مغادرتها بورسعيد نصبت أعلامها في أيدي ديليسبس نكاية في المصريين.

وفي مذكراته "الوجه الآخر للميدالية.. من أسرار المقاومة الشعبية في بورسعيد» حكى الدكتور يحيى الشاعر أحد أبطال المقاومة قصة نسف التمثال قائلا: "كانت صدمة الأهالي كبيرة بالتذكار الذي تركه المعتدون خلفهم، ممثلا في علمي بريطانيا وفرنسا، متوسطي الحجم مربوطين على ذراع تمثال ديليسبس اليمنى، وعلاوة على ذلك فقد وضعوا بيريه (طاقية) على رأس التمثال يخص جنود وحدة مظلات فرنسية. وقاموا بدهن التمثال بطبقة شحم كثيفة لمنع الأفراد من التسلق وانتزاعهما، دلالة على استمرار سيطرتهم المعنوية على المدينة".

وكما روى الشاعر فقد حاول المواطنون تسلق التمثال وفشلوا ثم نجح أحدهم من خلال سلم المطافئ ونزع العلمين وألقى بهما للجماهير المتجمعة حول القاعدة الضخمة، فداسوهما بأقدامهم، وبصقوا عليهما ثم أشعلوا فيهما النار تعبيرا عن الغضب، وبدأت السماء تمتلئ بالهتاف «الله أكبر، تحيا مصر، يعيش جمال عبد الناصر».

ويصف الشاعر ما حدث بعدها: «أحضر أحد البمبوطية (البحارة المحليون) حبلا سميكا وتسلق على السلم إلى القاعدة المدهونة بالشحم الزلق، وربط الحبل حول عنق تمثال ديليسبس، فتسابق الكثير من المواطنين وأمسكوا بالطرف الآخر من الحبل وبدأوا يسحبونه من الناحية الشمالية بقوة وشدة، أملا في جذب التمثال إلى الأرض، ولكن دون جدوى».

 وأضاف: « ثم وصل سمير غانم، قائد العمليات الفدائية، إلى منطقة تجمع المواطنين حاملا حقيبة سوداء بها اثنا عشر قالبا متفجرا (TNT) دون فتيل الأمان أو كبسولات التفجير، وتعالت أصوات المتجمعين تشق عنان سماء بورسعيد، ولم يتم تفجير القاعدة إلا بعد ثلاث محاولات، وفي المرة الأخيرة، انقشع الغبار، ونظرنا إلى المياه لنرى التمثال يرقد على وجهه وقد انقطع رأسه، بينما ركب الكثير من الشباب والأطفال والمواطنين فوقه راقصين وهاتفين».

شارك الخبر على