سينما تجريبية أبجدية من أجل ثقافة مضادة

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

مقدمة، وترجمة صلاح سرميني
في عام 2014 أصدرت إحدى دور النشر الفرنسية كتاباً موسوعياً بعنوان "سينما تجريبية، أبجدية من أجل ثقافة مضادة" للباحث الفرنسي "رافائيل باسان"، اعتمد في كتابته على منهج وُفق تسلسل الحروف الأبجدية الفرنسية، ما يجعله كتاباً مركّباً يمكن قراءته وكأنه يوميات عاشق للسينما، وبالتحديد هاوي للسينما التجريبية، وهو وُفقاً للأزمنة، والدعامات، والبرمجة، يتتبع تاريخ السينما الطليعية، والتجريبية في كل أشكالها، وممارساتها.يعود تاريخ كتابة النصوص الأولى إلى عام 1977، أيّ بدايات المسيرة النقدية، والبحثية للكاتب، والأخيرة إلى عام 2013، وقد كتب بعضها عندما كان يشارك فعلياً في تحرير عدة مجلات (Écran, Canal, Cinéma différent)، وقتذاك شعر، وبحدسٍ تجريبيّ، أنه لن يهجر ما عشقه، وبعنادٍ واصل سعيه من خلال الدراسات، والمقابلات مع صانعي الأفلام، وبدءاً من عام 1990، بدأ بتطوير أفكار حول هوية السينما التجريبية التي واجهت اندلاع وسائط جديدة، بدون أن يهجر الكتابة عن الأفلام التي تعرض في الصالات التجارية، أيّ السينما السائدة، والتي هي على النقيض من السينما التجريبية.كان عام 1977 تاريخ افتتاح "مركز جورج بومبيدو" بباريس، وفي الكتاب نعثر على العديد من التقارير عن الأحداث، أو الحلقات التي نظمها المركز وقتذاك، كما كانت صالة السينماتك الفرنسية، وملتقى الصور، وتعاونيات التوزيع المستقلة، والأماكن البديلة موجودة تمارس نشاطاتها من أجل ترويج السينما التجريبية.من خلال نصوص مختلفة من هذا الكتاب، نترك صالة السينما التقليدية (مؤقتاً)، ونلتحق بإشكالية معاصرة تماماً.سوف يجد القارئ في الكتاب بانوراما واسعة جداً من التجارب، والسينمائيين، وتاريخ تظاهرات مهمة، واعتبارات هامة حول البدايات الأولى للسينما التجريبية، وكما تهتمّ النصوص المختلفة بالمشهد الفرنسي، إلاّ أنها لا تغفل الخبرات المختلفة في جميع أنحاء العالم.النصّ أدناه كتبه الباحث الفرنسي "دومنيك بايني" مقدمة لهذا الكتاب الموسوعيّ بحقّ، واختار له عنواناً دالاً: الشاهد، وبدوري، كنت شاهداً على دور "رافائيل باسان" في علاقته الحميمية جداً مع السينما التجريبية.
الشاهدهناك قواميسٌ، وقوائم جردٍ يمكن اعتبارها أعمالاً تأليفية، عن السوريالية لـ "جورج اونييه" على سبيل المثال، وهناك أيضاً أنطولوجيات كحال "الهزل الأسود" لـ "أندريه برتون"، وهي مبادرات يمكن أن تدخل باستحقاقٍ في صنفٍ من المؤلفات يكشف بنيانها عن ذوقٍ خاصّ، أو بمعنى أدقّ "متاهة" القائمة كما يقول "إمبرتو إيكو".الموسوعة هي نوعٌ آخر، وقد شارك "رافائيل باسان" في تحرير البعض منها الأكثر اعتباراً (Universalis) حيث وضع فيها..."متاهاته" الخاصّة.هل كتابه هذا أبجدية ؟ سوف يجدها القارئ وُفق الإجراء المُتتالي البسيط الذي تدعوه حروف الأبجدية، ولكن لهجة، وطبيعة معلومات كلّ مدخل يكشف عدداً من المواضيع: تاريخ، برامج تفصيلية، ملاحظات مكثفة عن أعمال، أو حركات ـ في بعض الأحيان مدروسة بطريقةٍ مفيدة، فعالة، وتعليمية ـ ملخصات مُسهبة لنظريات، تعليقات عن بيانات، وصف أفلام، طرائف، وحكايات مُعاشة.إذاً، هذا الكتاب ليس قاموساً مثل قواميس أخرى تحافظ على زوايا محددة، وأسلوب لا يتغير، هذا الكمّ من التـ(و)اريخ، والنظريـ(يات)، والذكر(يات) تحتفظ بإدهاش بأهميتها التي كانت عليه في زمن نشرها لأول مرة قبل تجميعها في كتاب.هل هو دليل ارشاديّ؟ نعم، لأنّ المؤلف يدعو الأصابع كي تتصفح، وتتوقف عند مدخلٍ، تيمة، أو اسم لم نتحدث عنه كثيراً في فرنسا حتى يومنا هذا، "إيتيين أوليري" على سبيل المثال، أو "يوليوس بينسشور".هو كتابٌ تعليميّ بدون جدال، الكتاب الـ"باسانيّ" كما أتوقع بأن نُسميه لاحقاً.هل هو قريبٌ من كتابٍ نموذجيّ يقدم تعاليم لا غنى عنها، كتابٌ مقدس مثلاً؟نشعر بدون شكّ بذاك المنحدر الذي لن أسمح لنفسي الانزلاق فيه، ويتمثل بجعل "باسان" قديساً ناكراً للذات، ومضحياً بحياته كلها في خدمة السينما التجريبية، أو راهباً رسولياً،..لا، .. لا يوجد أيّ جانب دينيّ هنا، ولا تطرف، ولا شكاوى مُرضية للذات سوف تغذي بؤساً محتملاً ـ متعجرفاً ـ بإرجاع الإغراء التجريبيّ الذي، ولحسن الحظ، يمكن التقاطه في كلّ الفنون، إلى أخلاقية مفرطة سوف تحتل مكانة التفضيل الجمالي، وهكذا، هل يتأسف "باسان" على "الحالة غير المتطورة" لهذه السينما الأقل جماهيرية، وفي بعض المرات رضا أبطالها عن أنفسهم في مواجهة هذه الحالة، في المقابل "باسان" يتحاور، وكمتفرجٍ نبيه يستخدم طوال حياته شروط المناظرة مع النقاد الآخرين الذين يمارسون عملهم في قلب قاراتٍ أخرى من السينما، ومع مقربين، وحتى أقرانه الذين يبدو في بعض المرّات بأنهم متأكدون من قناعتهم المحاصرة، يتحاور "باسان" بدون مجادلة، وبلطفٍ معهود متحاشياً أيّ سقوط في محاكمة نوايا الآخرين.في الصفحة 147 يقول "باسان":"كنت خلال كلّ ذلك الوقت شاهداً محظوظاً أكثر منه رجل عقائد"، كيف يمكن تصنيف هذا الوضع بطريقةٍ أفضل، كيف لنا تحديد هذه المكانة بطريقة أفضل، وكيف يمكن لنا تصنيف هذا المشروع النقديّ بطريقة أفضل؟كان "باسان" مراقبا يقظاً، يمتلكني شعور بأنه كان حاضراً في كل "العروض التاريخية"، ولكن، كان أيضاً رفيقاً كريماً للجدد في إطار عروض لم يكن السينمائيون فقط تجريبيون، بل كان تنظيم العرض أيضاً تجريبياً.في كل هذه المواقع، كان "باسان" نفسه الذي نعرفه، صامتٌ، حاضرٌ، مكثف، ومع أنه لا يتظاهر أبداً، ولا يفقد الصبر، ولا يبدي حماساً ظاهرياً، ولا خيبة أمل محتملة، كان حتى هذا اليوم سديداً، عصاميّاً، ناقلاً حقيقياً لتلك الأحداث، مواعيد مؤسسة "Light Cone"، أو "جماعة السينما الشابة"، أو العروض العفوية الأخرى.شاهدٌ، أو مراقب، لا أعرف، ولكنني متأكد بأن "باسان" كان، وما يزال حاضراً، حضوره ـ هو دائماً هنا ومن أجل الجميع ـ الموسوم بالاتساق، والانتظام، يترجم ولعاً عميقاً بالسينما، وبشكلٍ خاصّ التجريبية. ويُشكل هذا الاتساق نوعاً من التجلي، يسمح لقارئ الكتاب القبول برضى شعريّ تكرار بعض المعلومات، عودة نفس الوقائع، اجترار بعض الأفكار، والآراء، ومن ثمّ الاعتراف بفعاليتها التربوية.وهكذا، يمكن القول بأن هذا الكتاب بعموم صفحاته تجريبيّ.• السينما التجريبية، أبجدية من أجل ثقاقة مضادة.Cinéma expérimental. Abécédaire pour une contre-cultureتأليف الباحث، والمُؤرخ الفرنسي "رافائيل باسان".صورة الغلاف: المخرجة ماريا كلوناريس (1950-2014) من فيلم :L’Enfant qui a pissé des paillettesالطفل الذي تبوّل أشرطةً براقة (1977) من إخراج الثنائيّ ماريا كلوناريس، وكاترينا ثوماداكي،انطلاقاُ من مشروع للمخرجة ماريا كلوناريس (1977).

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على