سيرة جديدة لـ سيمون دي بوفوار بقلم ابنتها بالتبنّي

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

د. جواد بشارة
صدر عن دار غاليمار الفرنسية الشهيرة في مجموعة البلياد المكرسة لكبار الكتاب والمفكرين طبعة جديدة لمذكرات سيمون دي بوفوار بقلم ابنتها بالتبني لوبون دي بوفوار في 17 آيار مايو 2018 ، وهي مناسبة لإعادة قراءة واكتشاف هذا الوجه الإنثوي المناضل الذي دمغ شخصية سيمون دي بوفوار المفكرة والفيلسوفة الوجودية وشريكة حياة فيلسوف الوجودية الكبير جون بول سارتر والغوص في عالمها الأدبي المتميز الذي غطى عليه جانبها الفكري والفلسفي.
إن مذكرات سيمون دي بوفوار هي في الحقيقة توثيق لذاكرتنا الجمعية نحن الجيل الذي نشأ عليها والتهم آثارها وتأثر بها لأنها تتحدث عنا أو هكذا نشعر بأنها تعبر عن ذواتنا . فهو كتاب، ليس فقط يروي لنا سيرة حياة هذه المفكرة والأديبة فحسب ، بل هو أيضاً شهادة على الحياة الثقافية والفكرية التي سادت خلال النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم وتقدم لوحة أمينة لخصوصية الحياة الخاصة والحميمية إلى جانب الحياة السياسية لرفيق حياتها جون بول سارتر وخوضهما معاً سلسلة من المعارك الفكرية والحياتية وتعايشهما مع تيارات فكرية كالماركسية والشيوعية والحركة النسوية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان مروراً بنضالهما في محاربة الاستعمار وفضح الحقبة الاستعمارية . خلال التجربة الحياتية والعطاء الفكري لهذا الثنائي الأسطوري ، كان سارتر هو المسيطر حيث شعر الكثيرون أنه يضع في ظله هذه الأنثى الثورية المتمردة والجريئة التي لم تحاول أن تتحرر من هذه الهيمنة الذكورية باعتبارها أحد قادة حركة التحرر النسوية الفرنسية لأن هناك هارمونية مدهشة في علاقتهما ولم تعد الحال كما هي بعد وفاتهما إذ باتت بصمات سيمون دي بوفوار واضحة اليوم كمفكرة متميزة صاحبة أطروحة خاصة بها وهذا هو الهدف الذي سعت إليه دار النشر الشهيرة غاليمار في نشر مذكراتها في مجلدين في أرقى وأفخم مجموعة هي البلياد المكرسة للعظماء وكبار المفكرين والمبدعين الفرنسيين والأجانب ولقد تحولت سيمون دي بوفوار بذلك إلى إيقونة. فالمبدع لايولد إيقونة بل يصبح كذلك من خلال إنتاجه وعطائه وإبداعه. فسيمون دي بوفوار لم تلعب دوراً ثانوياً في رحلتها المشتركة مع سارتر فهي لا تقل عنه شهرة أو أهمية ولها قراءها وجمهورها ومحبيها وهي موضوع للكثير من الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية ونشر عنها الكثير من الردود والنقاشات لآثارها بل وتفوقت في ذلك على ماكرس لحد الآن لجون بول سارتر. فهذا الأخير يظل مرجعاً لا يمكن إنكاره أو تجاهله لكن فكره وفلسفته دمغت بعامل الزمن وغدت لا تتوائم كلياً مع متطلبات المرحلة الزمنية المعاصرة في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين من عالمنا المعاصر. في حين نجد أن سيمون دي بوفوار تبعث على التجدد وتحث على إعادة إكتشافها من قبل الأجيال الجديدة وهناك إقبال منقطع النظير على روايتها Mandarins المندرين الحائزة على جائزة الغونكور الشهيرة عام 1954 أكثر من آثارها التنظيرية الفلسفية أو تنظيراتها للحركة النسوية حيث رافقت حركة تحرر المرأة وأحد قيادييها واليوم يستلهم جيل جديد من النساء المناضلات من أجل حقوق المرأة في العالم تجربتها النضالية ، ففكرها لم يشخ ولم تعتريه التجاعيد فهي ما تزال على الموضة كما يقول الفرنسيون فحضورها دائم وصورها على الملابس والحقائب كأي بوب ستار من النجوم.هناك حركة قوية لدراسة فكرها في الولايات المتحدة وأوروبا برمتها وترجمت كتبها إلى عدة لغات فهي باحثة وفيلسوفة ومنظرة وأديبة تسحر الدارسين والباحثين والطلاب الجامعيين فالاهتمام بها لايقل عن الاهتمام بآثار سارتر وهيغل ومارلوبونتي وليفي شتراوس ولاكان مع تميزها عن الرجال في بحثها في موضوع الأمومة رغم أنها لم تنجب أبداً بل تبنت طفلة ربتها كأبنتها، وبحث في الأمومة لايقل بداعة عن بحث ميشيل فوكو عن " الاغتصاب" لكنها اعترفت في مذكراتها أنها " جاءت بالمرتبة الثانية بعد سارتر إبان حياتهما المشتركة ، وقد قبلت بهذه المرتبة لأن سارتر في نظرها عملاق ولكن في الولايات المتحدة يعتبرون سارتر هو الظل لسيمون دي بوفوار ويأتي في المرتبة الثانية . الفرنسيون يشعرون بتأثير سارتر عليها لكن الحركة النسوية العالمية تعتبر أن أطروحتها تفوق مساهمة سارتر خاصة في مجال حقوق المرأة ومعالجة السؤال الوجودي المهم " ما هي المرأة ، و"ماذا يعني أن تكوني إمرأة" فوجودية سيمون دي بوفوار تتعدى حدود ما طرح في الكتاب المرجعي الأهم لجون بول سارتر وهو " الوجود والعدم ، أو الكينونة والعدم" فهي تبتكر شكل آخر من الفلسفة الوجودية .هي تفضل أن تقول عن نفسها أنها إمرأة كاتبة ، وهي ليست إمرأة منزل تكتب فحسب بل شخص هيمن فعل الكتابة على كيانها ووجوده وحياتها ، أياً كان شكل وفحوى ما تكتبه، بحث أو تنظير أو إبداع أدبي" فالكتابة هي التي تحكمها وتسير حياتها كما صرحت في كتابها " قوة الأشياء" متجاوزة مجرد السرد عن الذات . فنساء عصرها المعاصرات لها عرفن بمذكراتهن الكلاسيكية أما سيمون دي بوفوار فقد تخطت هذا الحاجز وكتبت "مذكرات لا يعادلها و لايشبهها مثيل . فلقد كرست معايشتها لحقبة زمنية امتدت بين 1930 و 1970 لتكتب تاريخياً حياً على نحو تجسيدي حيث تنغمس ذاتها في المسار التاريخي الذي ترويه وتحلله كشاهدة ملتزمة يختلف عما خطه يراع أندريه مالرو أو شارل ديغول وهم يتحدثون عن نفس هذه الحقبة الزمنية ، بل ويختلف عما كتبته " جورج صاند في كتابها " قصة حياتي " .عندما تصدت لكتاب " المذكرات" لم تكن تريد أن تقع في فخ السرد الحميمي للوقائع، فهذا لم يكن مشروعها و لا الغاية التي تنشدها أو تريد بلوغها فالمجتمع الذكوري يريد أن يتسلل للخصوصيات الحميمية للكاتبات من خلال مذكراتهن، أي معرفة الكتابات النسوية من هذه الزاوية الضيقة فحسب. أما سيمون دي بوفوار فقد تسامت على ذلك وطبع كلامها عن حياتها بعض البرود والحيادية مثل التشريح الطبي السريري لحالة معينة غير مألوفة في نظر المتلقين لنتاجات كاتبات تلك الفترة الزمنية من أمثال " كوليت " و "يورسينار" وهذه الأخيرة لم تتحدث عن نفسها البتة ، وبالتالي فتحت دي بوفوار بأسلوبها وطريقتها الخاصة، الطريق أمام كاتبات من أمثال كامي لورنس وآني أيرنو لأنه لم تعد هناك حاجة لتزوير الوجود الحقيقي للكائن النسوي كما تقول ، فالبعض من الكاتبات قمعن أنفسهن وامتنعن عن قول كل شيء وبصراحة، احتراماً لخصوصية أشخاص مهمين مايزالون على قيد الحياة ، ولقد أخفت سيمون دي بوفوار ميولها السحاقية وعشقها لبعض النساء ولم تتطرق لهذا الموضوع على الإطلاق. فلقد كانت لديها علاقات غرامية مع بعض طالباتها مثل أولغا بيانكا وناتالي و ليز إلا أن العشيقات نشرن مراسلاتها وذكرياتهن معها وهو الأمر الذي بات عرضة لنقد العديد من زعيمات الحركة النسوية وانتقادهن لها ، لكن تلك التجارب لم تكهن مهمة وعميقة بالنسبة لها فهي مجرد تجارب وظاهرة مست جيل معين من النساء في حين أن التفاصيل الجنسية الأنثوية غدت مركزية لدى الكاتبة فيوليت لودوك بل باتت هي المشروع الأهم للكتابة لديها ولم يكن هذا هو واقع الحال مع سيمون دي بوفوار.

شارك الخبر على