سيرة صعيدي يقابل الغرباء بالأحضان

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

(1)

عرفت الدكتور عمار علي حسن بداية الألفية، كانت الزيارة لأغراض علمية تخص الماجستير، تحمست لها بعد مقال في الأهرام للمثقف الراحل مرسي سعد الدين، عن دراسة عمار "القيم السياسية في الرواية العربية"، تحت عنوان "كتاب لا بد أن يقرأ"، فور دخولي لمكتبه، قابلني الرجل بأحضان مفاجئة تشبه أحضان الخال، تحدثنا عن الصحافة و المستقبل والجامعة والعمل، خرجت من اللقاء واستمارة التحكيم العلمية ممهورة باسمه، وبطلب منه أن أتعاون معه وقت إدارته لمكتب صحيفة لبنانية شهيرة.

لم أعرف وقتها سر حماسه لشخص لا يعرفه، وهو حماس متجدد ظل كما هو، في مواقف أخرى، منها حثي على طبع عشرات القصص سبق أن نشرتها في جريدة الشرق الأوسط، ثم توجه بها لناشر شهير وكتب مقدمته، مدافعا باستماتة عن فرص نجاح العمل، بعد قلق مشروع من كيان يهتم بالكسب، وهو ما كان، الأمر نفسه تكرر، مع عمل آخر، ثم رأيت مستنسخات هذا الدفء بعد آلاف الجلسات على مقاهي القاهرة، رأيت مستنسخات هذا الحماس لمئات آخرين في جلسات متشابهة، فهو الرجل الذي يحتضن الغرباء متطوعا أن يحجز لهم مكانا في مدينة بلا قلب، مثلما كتب قديما أحمد عبد المعطي حجازي. 

أو "مكان في الزحام" مثلما عنون سيرته الذاتية الملهمة.

(2)

سألته بفضول عن سر كتابة رجل في الخمسين سيرته الذاتية، فقد اعتدنا أن يكتب السيرة من هم في خريف العمر، رغم كون التجربة ليست جديدة، فسبق أن دون محمود الربيع مثلا سيرته الذاتية "في الخمسين عرفت طريقي"، كما كتب عميد الأدب العربي طه حسين رائعته "الأيام" وهو في الأربعين، من عمره لكن صدور "مكان وسط الزحام" في هذه السن المبكرة، كان أشبه ببطاقة هوية، تقول سطورها إن حاملها خرج من طين هذه الأرض، وحمل أحجارا على كتفه ليدبر مصروفات الجامعة، ومشى جائعا للبحث عن عمل، حتى لو كان بين عمال الفاعل على الأرصفة، وتجند في جيشها، وتعلق بملابس ناظر مدرسة عطوف، ليتعلم وينجو، في دفقة تذكير بمفردات الوطنية، وأبجدياتها؛ 
ومنها من حمل فأسا وزرع، وقرأ وأبدع، وحلم بالتغيير ودفع ثمنه حصارا وتضييقا.

في وقت يريد البعض فيه مفردات أخرى تتساوى فيها الوطنية مع تأييد شخص أو تيار سياسي بعينه.

السيرة في وجه آخر، رسالة أمل، ومن هنا جاء عنوانها الثاني "تجربة ذاتية في عبور الصعب"، وهو منحى اعتاد عمار علي حسن أن يلجأ إليه، ففي نوبة إحباط من انسداد الآفاق قبل يناير كتب "لا تيأس" بعد أن غاص في التراث والأدب العالمي لاستخراج ما يحيي الأمل، دون أن يتورط في الوعظ، مؤمنا بمقولة سعد الله ونوس "إننا نحيا بالأمل، ولا يمكن أن يكون ذلك نهاية التاريخ".

بين الصفحات مشاهد بالغة القسوة، وقد يظن بطلها أنها نهاية العالم، طفل يعاني من التأخر الدراسي، يعاني من صعوبات التخاطب، يكتب حروفه بالمقلوب، يضطر والده إلى ادخار عدة تمرات في جيبه ليسد جوع أولاده، يمر ابنه بمحنة قاسية، تضيق الدنيا ثم تفتح أبوابها على مصراعيها، بالثقة والإيمان.

تنقل السيرة هذه التجارب لتتماهى مع فلسفة الأدب، كنوع من التعمق في حياة الآخرين، وتجاربهم، لتظهر جلية كملمح من ملامح جرأة الأمل على ندبات الحياة.

(3)

"مكان في الزحام" لا يوجد فيها ما يشين، جاءت سطورها على عكس ما يؤمن بعض المبدعين، أن قصة حياتهم لا بد أن تضم لحظات الضعف الإنساني، لتنزيه صاحبها عن التقديس، وإظهار بشريته، مثلما فعل مثلا سهيل إدريس بحديثه عن مثلية والده، في كتابه ذكريات الحب والأدب، أو المغامرات الجنسية لمحمد شكري في الخبز الحافي أو رؤوف مسعد في بيضة النعامة، أو الراحل جلال أمين وهو يكتب عن غياب الحب بين أبيه وأمه، قفز عمار على ذلك لأنه حدد منهجه من البداية، هذه الأوراق تحكي قصة رجل صعيدي فقير ومثقف عضوي مع عبور الصعب، والريفي المحافظ لا يجد مدعاة لذكر النواقص، حتى حكيه عن قصص حبه السابقة جاءت مصبوغة بخجل ريفي واضح.

رحلة ممتعة قضاها عمار علي حسن وهو يحاول حجز مكان وسط الزحام انتهت به فوق تل عال ينير الطريق للآخرين.

 

شارك الخبر على