أفلام مُنعت من العرض لأسباب سياسية.. «مسمار جحا» رصد فساد الملك (٣)
ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير
من بين الأساطير الشعبية التي توقفت السينما المصرية عندهم، شخصية "جحا"، الشهيرة بمواقفها الاجتماعية الساخرة والمثيرة للحيرة، يقول عنه الأديب عباس العقاد في كتابه "جحا الضاحك المضحك": "يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تروي منها سواء في الأمكنة أو العادات أو الأخلاق، فقد روي بعضها عن فارس، ويروي بعضها عن بغداد أو الحجاز أو آسيا الصغرى وغيرها، وربما هو أنه نصر الدين التركي، أو أبو العضن العربي الفزاري، وقيل إنه من التوكي الهاكعين، ومن أصحاب الحالات والكرامات من المتسترين بالولاية وهم يجهرون بالهذر والبلاهة".
أبو الفضل الميداني وصفه بأنه "شخصية مفهومة متناسقة، لعل الخبر الذي جاء عن أبيه من خلال الكلام عنه يُفسر بالوراثة ما فيه من خلة الحماقة، وهو رجل من فزارة كان يُكني أبا العضن، ومن حمقه أن عيسى ابن موسى الهاشمي مرّ به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعًا، فقال له: ما لك؟ قال: إني قد دُفنت بهذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها، فقال عيسى: كان ينبغي أن تجعل عليها علامة، قال: لقد فعلت، فقال ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظللها ولست أرى العلامة".
وحسب مراجع أخرى، فإن هناك عدة شخصيات لجحا، في العديد من الآداب والثقافات العربية، ويعتقد المصريون، أن جحا كان في مصر عهد المماليك، ويصفونه بالجرأة على الحكام الظالمين والسخرية منهم، ويصورونه كناقد اجتماعي، وتصور قصصه بينهم صورة من حياتهم ونوادرهم وحبهم للفكاهة وصنع النكتة، وعليه، تم تناول شخصيته في 3 أفلام، وهي "جحا وأبو نواس" (1932)، و"جحا والسبع بنات" (1947)، و"مسمار جحا" (1952) والذي مُنع من العرض، وهو محل حديثنا في هذا التقرير.
الفيلم للمخرج إبراهيم عمارة، ومن تأليف علي أحمد باكثير، وسيناريو أنور وجدي، وحوار أبو السعود الإبياري، وهو من بطولة عباس فارس، شهر زاد، زكي رستم، إسماعيل يس، ماري منيب، عبد العزيز أحمد، كمال الشناوي، رياض القصبجي، شفيق نور الدين، كيتي، عدلي كساب، ماري عز الدين، عبد الحميد زكي، عبد المنعم إسماعيل، إبراهيم عمارة، عبد الحميد بدوي، محمود لطفي، عبد البديع العربي، سميحة محمد، حسن أتلة، وأول عرض له كان في 23 يونيو 1952 بسينما الشرق بالقاهرة، أي قبل ثورة 23 يوليو بشهرٍ واحد، وضم مجموعة من الأغاني منها "أدي الحق، على أد الليل، السوق"، وكلها من كلمات بيرم التونسي وألحان سيد درويش وزكريا أحمد.
وبما أننا أمام شخصية يتناولها الفيلم ولم يتم تحديد هويتها تاريخيًا بدقة، وهي شخصية جحا، فإن السيناريو هنا ينتقل إلى أزمنة لم يعش فيها جحا الحقيقي، وتدور الأحداث أثناء احتلال الأتراك لمدينة الكوفة، وقد كانت سمة هذا العهد هي الظلم والاستبداد بجانب حوادث السلب والنهب لأهالي المدينة، ويبدأ الفيلم بتنويه: "هذه القصة خيالية.. وعصرها غير محدد، ولا بها سوى التسلية البريئة، وأي تشابه بين شخصياتها وحوادثها وبين شخصيات وحوادث وقعت في أي بلد من بلاد العالم محض مصادفة".
ويوجد في المدينة إمام يُدعى جحا (يُجسده عباس فارس)، يدعو الناس للهداية حسب دينهم الحنيف، وكانت وسيلته أن يخطب فيهم مبينًا مساوئ الاحتلال واستبداده بالأهالي، يقوم الجاسوس أبو صفوان (يُجسده عبد العزيز أحمد) بنقل أقوال جحا إلى الحاكم (يُجسده زكي رستم)، ويساعده عباد (يُجسده عبد الحميد زكي)، وحريق (يُجسده عبد البديع العربي)، يطالبه الحاكم بشرح فوائد الاحتلال للشعب فيرفض، يقوم الحاكم بطرده من وظيفته وتسليمه إلى زوجته أم الغصن (تُجسدها ماري منيب) التي لا تدخر جهدًا في التنكيل به بلسانها الحاد، ويساعدها ابنها غصن (يُجسده إسماعيل ياسين).
جحا لديه ابنة تُدعى ميمونة (تُجسدها شهر زاد) وتقف بجانبه ومعها ابن عمها حماد (يُجسده كمال الشناوي) الذي يحبها ويريد الزواج بها رغم اعتراض والدتها أم الغصن، يقترح حماد على عمه أن يأتي معه إلى الريف ليعمل في الزراعة معه بعد فصله من العمل، ولكن الجراد هجم على قرية حماد وأكل الزرع، ففرحت أم الغصن فيقول لها جحا: "اخرسي يا أخت الشياطين، يا سلالة الملاعين، غوري من وشي يا بنت العقارب، يا مرضعة التعالب، يا وش الشؤم، يا منبع اللؤم"، فترد: "حاضر يا خايب يا عايب يا سايب يا جلاب المصايب".
السلطان (يُجسده إبراهيم عمارة) يُرسل في طلب جحا لاجتماع مع المخلصين للوطن، وسأل جحا عن أفضل طريقة للتخلص من المحتل، فقال إلغاء المعاهدة، فاستجاب له السلطان وألغى المعاهدة وعينه قاضي القضاة، وقام حماد بإثارة الفلاحين ضد المحتل وتأييد السلطان، فمنع الحاكم التدخل في السياسة ومنع التجمهر والمظاهرات، فاقترح جحا أن يبيع حماد بيته إلى غانم (يُجسده عدلي كساب) ويضع مسمارًا في البيت ويشترط على الشاري أن يحتفظ بالمسمار ويزوره من حين إلى آخر، مما يثير حفيظة الشاري، ويقاضي البائع، وتعرض القضية أمام القضاء، ثم يعقد مؤتمر لقضاة جميع الدول وتُثار القضية ويتنازل الشاري عن بيته اتقاءً لمضايقة البائع بمسماره.
يرفض القضاة ويطالبون البائع برفع مسماره، وهم بذلك يقصدون رحيل المحتل، وهنا قبض الحاكم على جحا وحماد وحبسهما ثم حاول أن يستميلهما إلى جانبه ببعض المزايا والوعود، ولكنهما يرفضان ويقرران الكفاح المسلح من أجل الحرية، ويهجم الشعب الثائر على السجن، ويهرب الحراس، ويتم تحرير جحا وحماد وتحرير الوطن من المحتل الذي رسخ على قلبه سبعين عامًا. (شاهد الفيلم عبر يوتيوب من هــــــنــــــــا)
وليس في شخصية بطل الفيلم مما ورد عن جحا سوى اسمه، حيث إننا أمام شخصية جحا المناضل، والمتمرد، له مواقف ضد الظلم الاجتماعي، رجل الدين الثائر الذي لا يتسم بأي حمق أو قدرة على السخرية، كل ما يفعله هو الثورة وإعطاء الحق في التمرد على الحاكم، حيث إنه ظالم ويستحق الثورة عليه.
اعتُبر الفيلم يتضمن إشارات لمساوئ الاحتلال وفساد السلطة الحاكمة في مصر، وعلى رأسها الملك فاروق، وأصدرت الرقابة قرارا بمنعه من العرض عندما وجدت أنه يتعرض لجلالة الملك فاروق الأول وقتها، وبعد مقابلة جمعت بين أنور وجدي، بوصفه منتج الفيلم عبر شركة الأفلام المتحدة، والدكتور إبراهيم عبده مدير المطبوعات، تم الإفراج عن الفيلم بعد أن أكد وجدي أنه يعبر فقط عن إحساس كل مصري نحو وطنه.