علي الوردي وعلي شريعتي

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

د. عبدالحسين صالح الطائي *
دراسة متفردة جمعت عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا العراقي علي الوردي، الذي تميزت أعماله بالجرأة والصراحة والنقد وعالم الاجتماع علي شريعتي، الذي يُعد من أهم أعلام الفكر التنويري الإيراني. تمكن الباحث الدكتور نبيل الحيدري من رصد مشتركات ومآثر كل واحد منهما في كتاب صدر في نهاية شهر آب 2018، بعنوان: (التنوير والإصلاح الاجتماعي بين علي الوردي/ العراق وعلي شريعتي/ايران)، عن دار ثقافة للنشر في الإمارات العربية المتحدة.فأشار إلى أن العالمين درسا في الغرب، وتأثرا برحاب الفلسفة الغربية، وتشكلت شخصية كل واحد منهما نتاج عوامل متعددة ومتداخلة، ونتيجة تأمل كل واحد منها كثيراً في قراءة التاريخ والتراث والحداثة، أثارا جدلاً كبيراً خلال مسيرة حياتهما، ومازال الجدلُ قائماً حتى بعد مماتهما، وذلك بسبب اسقاطات حجم تأثيرهما الواسع على المجتمع، فرغم بساطتهما وتواضعهما وزهدهما وإعراضما عن الدنيا وإغراءاتها، لم يساوما على مبادئهما، فقد مارسا بشكل منسجم دورهما التنويري الإصلاحي بمختلف الوسائل النقدية لرجال الدين ووعاظ السلاطين الذين استثمروا الدين لمآربهم ومنافعهم، وقد استنهضا الهمم في التحريض على الواقع الاجتماعي والسياسي المؤلم، والدعوة لتنقية التراث الإسلامي من كل أشكال الخرافة.درس شريعتي في فرنسا الفلسفة وعلم الاجتماع وتاريخ الأديان، وتعرف على المدارس الفكرية الأوروبية، وخالط الشخصيات الفرنسية المتنورة وقادة حركات التحرر العالمية، فأكتسب خبرة حياتية عالية أسهمت في نضج أفكاره، جسدها بعد رجوعه إلى الوطن خلال ممارسته التدريس في الجامعات الإيرانية وإلقاء محاضراته في المراكز الدينية والحسينيات.أما الوردي أكمل دراسته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية/ جامعة تكساس. كانت توجهاته ذات طابع ليبرالي علماني، أصبح أحد أبرز رواد الفكر التنويري النقدي بعد أن برز في مرحلة سياسية معقدة مليئة بمختلف الصراعات السياسية والأزمات، فكتب عن حياة الناس الاجتماعية بكل أبعادها، لا سيما مجال القيم والعادات من منظور سوسيولوجي، فحظي بمكانة مميزة لدى شرائح اجتماعية واسعة في داخل وخارج العراق، تمكن من خلالها دراسة المجتمع العراقي والعربي، كرس بحوثه في ثلاثة محاور أساسية أولها: إشكالية الصراع بين قيم البداوة والحضارة متأثراً بعالم الاجتماع العربي ابن خلدون، وثانيهما: التصادم الثقافي وازدواج الشخصية، تأثراً بفلسفة علماء الإجتماع الأمريكي. وثالثهما: التصادم الإجتماعي حيث التنافس بين طبيعة ومصالح المجتمع الزراعي التقليدي والصناعي المتحضر. تعمق الوردي بدراسة وتحليل وتشخيص الشخصية العراقية التي تفاعل معها، بعدما توسعت وانصقلت معرفته وفلسفته الإجتماعية النابعة من الواقع الاجتماعي الذي تمرد عليه، فدعا إلى ثورة حقيقية في التفكير الإجتماعي وفق رؤية موضوعية منسجمة مع أفكاره وتطلعاته، جسدها بنظرية اجتماعية ذات منهج علمي، مقرونة بفرضيات مستنبطة من واقع المجتمع العراقي، حيث يقول: (المجتمع العراقي يعاني من ازدواج الشخصية بشكل مركز ومتغلغل في الأعماق، فالعراقي كثير الهيام بالمثل العليا والدعوة إليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافاً عنها في واقع حياته). يرى الوردي من منطلقاته الفلسفية، وتفهمه لطبيعة التعارض الفكري والاجتماعي بين التراث والحضارة، ومعرفته بواقع المجتمع المستمدة من تفهمه العميق لطبيعة الصراع وما يحمله المجتمع من ظواهر معقدة مقرونة بإنقسامات وصراعات، بأن إحدى مشاكل العراق وقوعه في دوامة ورحى إيران وتركيا، وصراعهما المتواصل بالهيمنة على خيرات العراق. فهو يعتقد بأنه على الرغم من التأثير الإيراني الكبير على المجتمع العراقي، خصوصاً في قضايا التشيع وطقوسها، إلا أنه رفض العديد من تلك الطقوس المبتدعة.أما توجهات علي شريعتي فهي إسلامية، تدعو إلى الثورة على الواقع الإيراني المتردي، اتخذ من الإسلام والتشيع محوراً وهدفاً ونهجاً لفهم المجتمع وتفسيره. آمن بنظرية إسلامية متكاملة لمعالجة ملابسات واقع الحياة بمختلف جوانبها الاجتماعية والسياسية المتعددة. برز نجمه في ستينيات القرن الماضي مع عصر الانفتاح في زمن الشاه، الذي قدم حزمة من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنفتاح على الاستثمارات الغربية بشكل كبير، وبالمقابل كانت توجهات النضال الوطني الداخلي بالضد من ذلك، هذه التطلعات انسجمت مع توجهات شريعتي، فوقف مع الصفوف الداعية إلى تصعيد النضال الوطني.درس شريعتي مجتمعه الإيراني وتاريخه وثقافته وأفكاره، كما درس الإسلام وبدأ بالتحليل والنقد بقوة، ولكن ضمن بعد التراث الإسلامي الذي رأى فيه جواباً لكل جوانب الحياة المختلفة، فتمكن من تحليل ملابسات الشخصية الإيرانية وفك ألغازها المعقدة المركبة المتسمة بالغموض والتلون لإيمانهم بمبدأ التقية، لأنها تشكل جزءاً من العقيدة والدين. ويرى شريعتي بأنه على الرغم من إلتصاق طابع العنف والقساوة بالشخصية الإيرانية وتطرفها مع البعد القومي والمذهبي، إلا أنها شفافة في عاطفتها وتعاملها مع الفن بكل أبعاده ومجالاته كالرسم والموسيقا والنحت وغيرها.مارس شريعتي تجديداً وتحدياً شجاعاً للواقع والمجتمع، فأدى دوره النقدي التنويري بشكل كبير من خلال تميزه ومعرفة بفن الخطابة الذي كرسه لاستنهاض الهمم وتوعية شعبه بما يدور في أروقة السلطات وتطلعاتها، فهو يعتقد بأن مشكلة إيران تكمن في هوس الحُلم في التاريخ الامبراطوري، والدعوة إلى إعادته واستنساخه من جديد بلباس التشيع وممارساته المختلفة. ولهذا دعا إلى الإصلاح وتجديد الخطاب الديني ومواكبة العصر وتحدياته، مؤكداً على ضرورة تنقية التراث الإسلامي مما حلّ به من أساطير وخرافات وأباطيل. لقد قام كل من الوردي وشريعتي بدراسة مفصلة للمجتمع والبيئة المحيطة، وآفاق تطور كل مجتمع والعوامل المؤثرة في حركته وتغييره. ورغم عدم حصول أي لقاء مباشر ما بين الاثنين، إلا أنهما تعاصرا في وقت واحد، وجمعت بينهما مشتركات كثيرة، فهناك توارد للخواطر في الكثير من أفكارهما واستنتاجاتهما. فكلاهما أعاد قراءة التاريخ ودرسه بعمق، وكان اختيارهما الوسطية والاعتدال في طرح الأفكار، ورفضهما للتعصب والجهل والسباب واللعن والتكفير، ومحاربتهما التقاليد القديمة والطقوس البالية والبدع المخدرة، واتخاذهما الجانب العقلي في التقييم وطريقة التفكير في التحليل والنقد والدعوة إلى الإصلاح، ومساندتهما إلى كل من سار باعتدال وصواب على الوحدة الإسلامية.لقد فقد العراق وإيران رائدين من أعلام الفكر الإجتماعي التنويري، كانا متألقين في أداء دورهما النقدي الإصلاحي، تركا لنا ثروة فكرية إجتماعية راقية، وآراء نقدية جريئة أسهمت في إعادة تحفيز الوعي الإجتماعي للكشف عن الكثير من الأمور العقدية التي مازالت تعاني منها مجتمعاتنا بالوقت الحاضر، هذه التركة الغنية بالعطاء، الداعية إلى إبراز الهوية الوطنية ونبذ الخلافات والسعي إلى الإصلاح الإجتماعي، أوضحت لنا مدى المصداقية في طروحاتهما، التي تجسدت بشكل جلي في مؤلفاتهما وبحوثهما العلمية الرصينة ومقالاتهما الصحفية في المجالات المتعددة.
أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

شارك الخبر على