عمار طعمة وهارون الرشيد .. ما الذي تغيّر؟

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

سليم سوزة
هل لاحظتم حجم الشجب الذي تلقّاه النائب عمار طعمة عن كلامه في إحدى جلسات البرلمان الأخيرة؟ غضبَ السيد طعمة من النائب المستقل محمد علي زيني واعترض عليه بشدة لأنه وصف بغداد بأنها بغداد الرشيد، ذلك الطاغية الذي قتل الإمام موسى الكاظم ببغداد نفسها. أغرب من ذلك الشجب هم أصحاب الشجب أنفسهم، إذ أن أكثرهم كانوا من مذهب طعمة الديني ويشاركونه سردياته التاريخية. هل تغيّرت نظرتهم لهارون الرشيد الى هذا الحد؟ ما الذي حصل؟نقطة تحول ملفتة أستغلها مناسبة جيدة لدراسة وفهم كيف تتشكّل الهويات أو تتغيّر.مازالت موضوعة الهويات إحدى أهم الجدالات الخصبة التي تشتغل عليها العلوم الاجتماعية. هل تورث الهوية أم تتشكّل؟ وإن وُرِثَت، هل يبقى محتواها صلباً لا يتغيّر أم أنه يخضع باستمرار للتعديل والإضافة والحذف داخل سياق الهوية الثقافية نفسها؟ في كلتا الحالتين، موروثة أم متشكّلة، لا تشبه نهايات هوياتنا بداياتها في غالب الأحيان.لعل إريك دافيز أفضل مَن بحث في موضوعة الهوية وقدمّها على أنها خليط معقد من ثقافة وسياسة وجغرافيا وتاريخ وذاكرة وحجر تتغير كلها باستمرار سواء داخل سياقها الاجتماعي أم بالاحتكاك مع سياق "الآخر" لدرجة لا يمكن القول معها أنها موروثة. ليست موروثة لأنها لا تفسر لنا كيف تنتج الأزمنة هويات سياسية مختلفة لجغرافيا واحدة. كما لا يمكن القول إنها متشكّلة أيضاً لأنه قول لا يعلّل انفجار العنف فجأةً بين المدن المتنوعة إثنياً أو طائفياً. لابد من إرثٍ ما قد حرّك في لحظة نزعة العنف النائمة عند تلك الإثنيات أو الطوائف، وإلّا متى تشكّلت تلك الهويات!ساعدني كثيراً هذا الشرح الذي يقدمه دافيز للهوية في فهم المشكلة الطائفية في العراق. فالهوية إذن سواء كانت دينية أو ثقافية أو سياسية ما هي إلّا مزيج من فهم يتشكّل باستمرار وإرث يحضر على الدوام. كلما حضر هذا الإرث بقوة، تتحول الهوية الى شكل من أشكال التعصب والانغلاق ويصبح معها المرء أكثر تطرفاً وعدوانية. ومادمنا اعترفنا أن الهوية نتاج فهم متشكّل وإرث مُسْتَدعى، لا يصعب علينا تفكيكها وتحليل عوامل قوتها.أحد أهم عوامل قوة الهوية وصلابتها هي انغلاقها على نفسها وعدم سماحها لأي اختراق يمكنه زعزعة إيمان أتباعها بها. للجغرافيا، مثلاً، سطوة ثقافية كبيرة على الأفراد عبر الذاكرة والصور والرموز والأنهر والأبنية وكل المعالم التأريخية الأخرى. هذه مادة الهوية وخامتها الأوّلية التي تستدعيها ذاكرة النخب السياسية/ الثقافية/ الدينية العليا في المجتمع كلما شعرت بتهديد ثقافي قادم من جغرافيات غريبة ودخيلة. مهمة تلك النخب التذكير بذلك الإرث واستدعائه باستمرار للحفاظ على الحدود مغلقة أمام تهديد هويّاتي جديد ومغاير. لقد وضع لنا علم الاجتماع حلاً بسيطاً لهذه التصلب والانغلاق عبر إحدى أهم نظرياته المسماة "بالتواصل المباشر" Face-to-Face Interaction، إذ كلما تواصلت الثقافات فيما بينها وتفاعلت وجهاً لوجه، تلاشت الحدود بينها وصارت هامشاً ليس باستطاعته مقاومة الرغبة في التعرّف على "الآخر" وفهم قيمه وثقافته وتراثه المعرفي.ما الذي تغيّر هنا، هارون الرشيد أم مجتمع عمار طعمة؟لم يتغيّر الرشيد في السردية الشيعية ولا حتى عمار طعمة في "إخلاصه" لعقيدته. ما تغيّر هو طريقة نظرة مجتمع طعمة للسردية الدينية ذاتها. صار ينظر لها من زاوية مختلفة تجعلها هامشاً غير مؤثر في مركز الأحداث اليوم. ساعدها في هذه النظرة مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسبوك. فإن كان من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، اختراق حدود الجغرافيا في السابق، فإنه اليوم أسهل بكثير بوجود هذه المواقع الافتراضية. صار التواصل سهلاً جداً بين ابن البصرة وابن الموصل، وأسهل منه بين مَن في داخل العراق وخارجه. في عالم الافتراض هذا، لم تعد الحدود مصانة ولا للجغرافيا بحجرها ومعالمها وأبنيتها وتاريخها ذات السطوة الثقافية التي كانت تحظى بها في مجتمعاتها المنغلقة، مجتمعات ما قبل السوشيال ميديا.لم يقرأ السيد النائب عمار طعمة مجتمعه اليوم جيداً، فالطريقة التي وظّف فيها اعتقاده بالرشيد في مكانٍ وزمانٍ غير مناسبين أظهرته شخصاً مازال عالقاً في عام ٢٠٠٥ حيث لم يولد الفيسبوك بعد. لم يدرك أن هويةً جديدة قد تشكّلت في عقول الشباب اليوم لم تتنازل عن معتقدها الخاص بالرشيد ربما، لكنها همّشته لصالح معتقد مركزي أكثر أهمية، وهو معتقد "العراق" الذي يبحث من سنين عن كهرباء وأمن وخدمات وبنى تحتية وقبلها ماء صالح بلا ملح وطحالب.لقد تشكّل فهم هؤلاء الشباب اليوم على حقائق اجتماعية جديدة وفّرتها لهم ظروفهم اليومية وعززتها لديهم مواقع السوشيال ميديا، تلك التي اخترقت الحدود الجغرافية بالتواصل الافتراضي المباشر لتنتج هوية سياسية جديدة ومعتدلة لم تعد تهتم بهارون الرشيد ولا بإرث يحاول طعمة استدعاءه لأغراض استعراضية صريحة. هذا ما تغيّر فقط.

شارك الخبر على