السبيل لإنقاذ البلد من مستقبل مجهول ومخيف

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

 د. محمد توفيق علاوي
قبل حوالي أربعة أشهر التقيتُ ضمن ندوة خاصة مع مجموعة من الاقتصاديين؛ مستشارين لرئيس الوزراء، وكلاء وزارات، أساتذة جامعات، كادراً متقدماً في مجال الاستثمار وغيرهم؛ وعرضت لهم الواقع التالي وألحقته بالاستفسار منهم:هناك توجه عالمي متمثل بأغلب الدول الاوروبية وأميركا والصين والهند وغيرها، لاستخدام الطاقة الكهربائية النظيفة والرخيصة واستبدال الوقود السائل بالبطاريات لوسائط النقل من سيارات وشاحنات وغيرها، وقامت هذه الدول بتشريع قوانين ملزمة بمنع تصنيع وبيع السيارات العاملة على الوقود أغلبها بحدود عام 2030، فجميع التقارير الاقتصادية العالمية في هذا المجال تشير إلى هبوط الطلب على النفط إلى أقل من النصف خلال بضع سنوات (68٪ من الانتاج النفطي العالمي اليوم يستخدم كوقود للسيارات) وهذا الهبوط في الطلب سيؤدي إلى هبوط في الأسعار الى 15 - 25 دولار للبرميل الواحد استناداً الى دراسات لمراكز دراسات اقتصادية عالمية. كان الدخل المترتب عن بيع النفط عام 2017 للموازنة العراقية حوالي 60 مليار دولار وهذا أقل ب 20 مليار دولار عن الحد الادنى المطلوب توفيره للموازنة (80 مليار دولار) فنضطر للاستدانة بحدود 20 مليار دولار سنوياً، وهو ما حصل في الأعوام 2015 و2016 و2017 لتغطية عجز الموازنة، ولكن فضلاً عن واقع زيادة الدين العام نتيجة تراكم الديون الآن فبعد بضع سنوات سيكون الوارد من النفط بحدود 15 مليار دولار سنوياً استنادا للواقع أعلاه، أي سيكون النقص بحدود 65 مليار دولار، فما الذي اعددتموه لهذا اليوم الخطير والمخيف والقادم لا محالة؟للأسف لم أجد جواباً، فلا يوجد تخطيط لمواجهة ذلك اليوم؛ كما أن ما هو متعارف عليه على مستوى عالمي بالسياسة الاقتصادية نجده مفقوداً بشكل كامل من قبل هذه الفئة من الاقتصاديين، ولعل فيهم من عليه التعويل لرسم خطوط السياسة الاقتصادية للبلد. تحدث البعض منهم قائلاً: الحل الامثل هو الاستثمار؛ فقلت: نعم أؤيدكم في هذا، ولكن ما الذي فعلتموه في مجال الاستثمار؟ اقمتم مؤتمراً للاستثمار في الكويت، فما الذي حققتموه منه ؟ قالوا: للأسف لم نحقق شيئاً، لسببين؛ الأول إن أغلب الشركات التي قدمت طلبات للاستثمار ليست بشركات رصينة، كما إن الذي يقدم طلباً للحصول على إجازة الاستثمار على سبيل المثال لا ينالها قبل أقل من ستة أشهر بالحد الادنى او حتى سنة ونصف وأكثر، لذلك لا يوجد هنالك اندفاع للاستثمار في العراق من قبل المستثمرين من خارج العراق. إن أكثر دولة متميزة في مجال الاستثمار في العالم العربي هي الامارات العربية المتحدة وبالذات إمارة دبي؛ بل لعل دبي هي المنطقة الاولى في العالم القادرة على تحقيق أكبر انجاز في استقطاب أموال الاستثمار من كافة أنحاء العالم .....كيف استطاعت دبي الوصول الى هذا المستوى؟ ما هي المقومات التي تملكها؟ ولو تمت المقارنة بين العراق ودبي، فما هي المقومات التي نفتقدها؟ يمكن المقارنة بين البلدين من خلال ثلاث زوايا:1.الانسان والسوق: نمتلك الإنسان المثقف والمتعلم في العراق القادر على توفير كافة متطلبات الاستثمار في هذا المجال، فأعداد المهندسين والتقنيين المتخصصين في كافة المجالات تفوق ما تمتلكه دبي بمئات المرّات، لذلك تضطر دبي إلى استيراد الإنسان المثقف والمتعلم في كافة التخصصات من كافة أنحاء العالم لمجاراة مخططات الاستثمار، كما يتوفر في العراق سوق استهلاكي لحوالي الاربعين مليون مواطن، أما سكان دبي فلا يتجاوز عددهم الربع مليون مواطن، وعدد الوافدين من غير المواطنين بحدود المليوني شخص، لذلك لا يمكن مقارنة سوق دبي بسوق العراق ...2. الطاقة والمعادن: لا تمتلك دبي الآن مصادر الطاقة النفطية أو الغازية (النفط والغاز ينتج الآن فقط في إمارة ابوظبي)، أما العراق فيعتبر الدولة الثانية في العالم من حيث الخزين النفطي فضلاً عن الغاز، كما تتوفر في العراق الكثير من المعادن لإنشاء مشاريع صناعية في الكثير من المجالات، كالفوسفات والكبريت والحديد والالمنيوم والنحاس والرصاص وكبريتات الصوديوم والكلس ورمل الزجاج (السيليكا) والفلسبار لصناعة السيراميك فضلاً عن امكانية الصناعات البتروكيمياوية من النفط وغيرها.3. الماء والتربة والتنوع البيئي: مع قلة الماء الآن في العراق ولكن لا يمكن مقارنة نهري دجلة والفرات بمياه الخليج ذات الكلفة العالية لتحليتها، كما لا يمكن مقارنة تربة العراق الخصبة بالتربة الرملية لإمارة دبي، فضلاً عن التنوع البيئي الواسع في العراق، من السهول الى الصحارى إلى التلال الى الجبال والاهوار والبحيرات. هذا التنوع وفر بيئة سياحية فضلاً عن سياحة المدن الدينية والآثار والمدن التاريخية، اما في دبي فهناك صحراء فقط، شديدة الحرارة أغلب أيام السنة وعالية الرطوبة لوقوعها على البحر.ولكن مع كل ذلك فالاستثمار في العراق شبه معدوم وفي تراجع مستمر والفرق الوحيد بيننا وبين دبي هو توفر البيئة الاستثمارية في دبي.فما هي البيئة الاستثمارية وكيف يمكن توفيرها؟البيئة الاستثمارية ليست موجودة في العراق لسببين. 1.القوانين والتعليمات والبيروقراطية: نحتاج إلى إعادة دراسة كافة القوانين والتعليمات لتسهيل الاستثمار والقضاء على البيروقراطية لتوفير بيئة استثمارية جاذبة، وفي الواقع فان هذا الأمر يمكن تحقيقه بكل سهولة. للأسف الحكومة تتصور إنهم لو استطاعوا اقناع الشركات العالمية في مؤتمر الكويت للاستثمار في العراق لحققوا المطلوب. المشكلة ليست في الخارج في مؤتمر الكويت بل هي بأيدينا في الداخل، في تغيير القوانين والتعليمات والقضاء على البيروقراطية .....2. الفساد وفقدان الأمن: وهنا الطامة الكبرى والعنصر الأول الذي يمنع المستثمرين العالميين من الاستثمار في العراق، فلا يمكن النهوض بالاستثمار قبل القضاء على الفساد وإعادة الأمن، وأهم أسباب فقدان الأمن استشراء الفساد على كافة المستوياتت، فإذا تمكنا من اجراء تعديلات على القوانين والتعليمات وازحنا الفاسدين عن منظومة الاستثمار سيمكننا توفير بيئة استثمارية جاذبة، وتحقيق مستوى أعلى من دبي في مجال الاستثمار لامتلاكنا المقومات الاخرى المفقودة في دبي، ولكن هذا يحتاج إلى فترات زمنية طويلة لإعادة الثقة العالمية بالاستثمار في العراق، فما الذي يمكن أن نفعله نحن لبلدنا لإيجاد نهضة حقيقية في أقل فترة زمنية في هذه الأجواء وضمن هذه الظروف قبل مجيء المستثمرين أو حتى في حالة عدم مجيئهم سواء من داخل او من خارج البلد. هناك ثلاثة أصناف من المشاريع، صناعية وزراعية وخدمية سأتطرق اليها ببعض التفصيل لاحقاً، ولكن كيف يمكن توفير الأموال لتحقيق نهضة اقتصادية، في هذه المجالات الثلاثة بأقل فرصة زمنية؟مؤتمر الكويت للاستثمار فشل بدون تحقيق أي نتيجة. قالوا إن المؤتمر وفر ثلاثين مليار دولار كقروض، وبقيت هذه الارقام حبراً على ورق ولم يتحقق أي شيء، وأستطيع القول بكل ثقة حتى لو أن المؤتمر قد حقق 100 مليار دولار كمنح فإني اعتبر الأمر غير مجد، حيث إننا حققنا في عدة سنوات موازنة سنوية فاقت ال 140 مليار دولار ولم نستطع أن نوفر الكهرباء التي لا تحتاج اكثر من 17 مليار دولار لتوفير حاجة العراق ( 23 الف ميغاوات) بينما صرفت 47 مليار دولار للكهرباء ولم نحقق أكثر من 10 آلاف ميغاوات إضافي، فضلاً عن الفشل في توفير الماء الصالح للشرب في مدينة البصرة على سبيل المثال، وتوفير الأمن والقضاء على البطالة وتوفير السكن وتحقيق الاعمار وإحداث نهضة صناعية وزراعية بسبب الفساد.إذاً كيف يمكن النهوض بالبلد؟ أستطيع القول إن الحصول على الأموال هو العنصر الاسهل والأبسط في المعادلة، فتوفير المال لا يشكل أكثر من نسبة 5٪ كعائق، أما العوائق الاخرى فتشكل نسبة 95٪ وهي افتقادنا للبيئة الاستثمارية. نستطيع بكل سهولة أن نحصل على مئات مليارات الدولارات لإحداث نهضة صناعية وزراعية وفي قطاع الخدمات لكن هذا يتطلب توفر شرطين؛ الأول بيئة استثمارية كما ذكرنا والثاني عمل دراسات جدوى من قبل مؤسسات استشارية عالمية كبرى ومتخصصة في هذا المجال لمختلف أصناف المشاريع ؛ حيث تتوفر في المصارف العالمية مئات المليارات من الدولارات الفائضة وهم مستعدون لتوفير أي مبلغ كقرض وبكل سهولة إذا كانت أرباح المشروع تغطي أقساط القرض وتغطي الفوائد اعتماداً على واقع البلد وعلى دراسات الجدوى الآنفة الذكر؛ ولا نخشى من مثل هذا القروض لإنها ليست تراكمية بل تغطي نفسها بنفسها مع تحقيق أرباح صافية كبيرة، أما الفوائد العالمية فتحتسب استناداً إلى المؤشر العالمي للقروض بين الدول بما يسمى (ليبور) (London Interbank Offered Rate)حيث الفوائد على القروض في مؤشر (ليبور) تتراوح بين 2٪ في السنة لفترة خمس سنوات إلى 3.5٪ في السنة لفترة 20 سنة، وكما هو معلوم فإن المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية، تتراوح فوائدها السنوية من 20٪ إلى30٪ في الدول النامية كالعراق، وهذا يغطي الأقساط السنوية والفوائد ويوفر فرص العمل لملايين الشباب إن توفرت البيئة الاستثمارية وعملت دراسات الجدوى من قبل مؤسسات عالمية كبرى وتوفر الاخلاص في العمل وابعد المفسدون عن منظومة الاستثمار التي يجب تشكيلها لإنشاء هذه المشاريع، وشارك القطاع الخاص كمالك وكشريك اساسي في الإدارة وعرضت الأسهم للمواطنين كشركاء في الأرباح وفي اختيار الإدارة، وأُعطي العاملون في المشروع أسهماً في نفس هذه المشاريع .....يستطيع العراق إن توفرت المتطلبات أعلاه أن يستقطب سنوياً بين خمسين ومئة مليار دولار لمثل هذه المشاريع، كما يمكن بكل سهولة الحصول على قروض بفوائد ميسرة من بعض الدول، بل ان بعض الدول لا تأخذ اي فائدة بالمرة إن تم استيراد مكائن المصانع منها كإيطاليا مثلاً. مثل هذا التوجه سيمكّن العراق خلال بضع سنوات من الاستغناء عن حاجته لموارد النفط، ومن مواجهة اليوم الذي سيفقد فيه النفط قيمته الحالية، كما يمكن القضاء الكامل على البطالة، بل لعل البلد قد يحتاج الى العمالة الخارجية إن تحرك بالشكل الصحيح والمدروس حيث يمكن إحداث نقلة نوعية في البلد ونهوضه وتطويره وازدهاره خلال بضع سنوات.....

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على