أفلام مُنعت من العرض لأسباب سياسية.. «ليلى بنت الصحراء» أغضب إيران (١)

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

لو وضعنا قائمة برائدات صناعة السينما المصرية والعربية، فبالتأكيد لن تخلو من اسم متعددة المواهب الشاملة بهيجة حافظ، المولودة بالإسكندرية في 4 أغسطس 1908، والتي انتمت لعائلة أرستقراطية، منها إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر سابقًا، وخلال رحلة 75 عامًا، عمِلت في كل الفنون السينمائية، فهي ممثلة ومنتجة ومؤلفة موسيقى وكاتبة ومخرجة ومونتيرة ومصممة أزياء، كما أسست أول نقابة للمهن الموسيقية في عام 1937، ورغم صلابتها وجمالها ودأبها لم يصبها الحظ كثيرًا، واضطرت في سنواتها الأخيرة إلى الانزواء، وماتت وحيدة بطريقة لا تليق بها ولا بجهدها، وما قدّمته للسينما.

بهيجة من طليعة الوجوه النسائية، التي ظهرت على شاشة السينما المصرية، أول فيلم مثلته كان "زينب" (1930) مع دولت أبيض وسراج منير وزكي رستم للمخرج محمد كريم، ووضعت الموسيقى التصويرية له أيضًا، ولاقت معارضة كبيرة من أسرتها حينها، لدرجة أن شقيقتها وقفت في السرادق حينها تتلقى العزاء فيها، ورغم ذلك لم تلتفت إلى أحلامها، وبعد نجاحها فيه أسست شركة "فنار فيلم"، وأنتجت لها عدة أفلام، منها "الضحايا" (1932) مع زكي رستم، وشاركت في إخراجه، و"الاتهام" (1934) مع عزيز فهمي وزكي رستم.

طموحاتها الفنية قادتها إلى الحدث التاريخي الجلل ​في الأوساط السينمائية العربية، حيث فيلم "ليلى بنت الصحراء" (1937)، من بطولتها وحسين رياض (أول أفلامه، وتقاضي عنه 50 جنيهًا)، وزكى رستم وعباس فارس وراقية إبراهيم، وقامت بوضع موسيقاه التصويرية وتصميم أزيائه وكتابة السيناريو والحوار وإخراجه مع ثلاثة من المساعدين وهم: حسن عبد الوهاب وبدر أمين وإبراهيم حسين العقاد، بعد أن اختلفت مع المخرج ماريو فولبي، ولم يحمل الأفيش اسم مخرج، ولكن وُضعت إشارة على التتر، وحمل البوستر اسمها فقط، وكُتب عليه: "فنار فيلم تُقدّم النجمة المصرية الكبيرة بهيجة حافظ في أعظم وأقوى إنتاج مصري".

بلغت تكاليف إنتاج "ليلى بنت الصحراء" حوالي 18 ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم قياسًا لإنتاج تلك الفترة، وتضمن العمل ديكورات ضخمة لفتت انتباه الجمهور، الأمر الذي كان يُعد جديدًا على السينما المصرية، كما كان أول فيلم مصري يستخدم اللغة العربية الفصحى بسهولة وسلاسة، وعُرض في 28 يناير 1937، ولاقى نجاحًا كبيرًا، كما عُرض في مهرجان برلين الدولي، كأول فيلم عربي ناطق يُعرض في هذا المهرجان، ويحصل على جائزة ذهبية، ورُشح للعرض في مهرجان فينيسيا.

الفيلم أعاد إلى الأذهان العداوة التاريخية التي حكمت العلاقة الفارسية – العربية، عن قصة مستوحاة من ديوان الشاعرة العربية "ليلى" العفيفة التي عاشت في القرن الخامس الميلادي، مليحة البادية والحضر التي ذاع صيتها، حتى وصل إلى مسامع كسرى ملك الفرس، فاختطفها لتصبح جارية من جواريه، لكنها تمنعت عليه، وأذلّت كبرياءه حين رفضت الزواج منه، لتبقى على عهدها لابن عمها البراق فثار عليها كسرى وأمر بجلدها وتعذيبها.

صاحب عرض الفيلم ضجة كبيرة، وأبرزت الصحف الأجنبية أن الفيلم قد يُفسد العلاقات المصرية الإيرانية، فبعثت حكومة طهران إلى وزيرها المفوض في مصر تطلب منه أن يشاهد الفيلم ويحدد الموقف الرسمي، فأرسل الوزير بعد مشاهدته الفيلم تقريرًا يفيد بأن الفيلم يُسيء إلى تاريخ الفرس، وصدر قرار من الحكومة العراقية بمنع عرضه بسبب علاقات الجوار بين العراق وإيران.

وبعد سفر بهيجة حافظ وزوجها إلى إيطاليا للاشتراك في مهرجان فينيسيا، إذا بهما يفاجأن بصدور قرار من قِبل قسم السينما بوزارة الداخلية بناء على أوامر من وزارة الخارجية بمصادرة الفيلم ومنع عرضه في الداخل والخارج لأسباب سياسية، بعد مُضي أكثر من عام على عرضه الأول، بعد احتجاج دولة إيران رسميًا على اعتبار أنه يُسيء إلى تاريخ كسرى، ويرصد علاقاته الغرامية وعجزه عن الوصول إلى قلب فتاة بدوية تحدته وتحدت نفوذه، لذا صدر القرار مجاملةً للحكومة الإيرانية بمناسبة المصاهرة الملكية التي تمت بعد ذلك بقليل، بزواج شاه إيران رضا بهلوي من أخت فاروق الأول ملك مصر.

تقدّمت منتجة الفيلم بهيجة حافظ بالتماسات عدة للحكومة المصرية آنذاك، لكنها لم تستجب ليكون بالفعل أول فيلم مصري يتم سحبه من دور العرض، فأسرعت بحذف مشاهد "كسرى" من الفيلم، وأضافت مشاهد أخرى، وعرضت الفيلم باسم "ليلى البدوية"، ومرت ست سنوات حتى أفرجت الحكومة عن فيلم "ليلى بنت الصحراء"، وأصبح لـبهيجة حافظ فيلمان بنفس الخط الدرامي، وذلك بعد أن رفعت الشركة دعوى تعويض على الحكومة بمبلغ 20 ألف جنيه، وبعد إجراء تعديلات عليه من حذف وإضافة، فضلًا عن تغيير الأسماء الفارسية ليصبح كسرى كنجا والمطربة جلنار جلجلة.

وبالرغم من أهمية الفيلم في تاريخ السينما، إلا أنه كان السبب فى إفلاس الشركة، واضطرت بهيجة للتوقف عن الإنتاج بعدها لمدة 10 سنوات لما تكبدته من خسائر، ثم عادت بعد التوقف لإنتاج فيلم "زهرة السوق" الذي كتبت قصته بنفسها، وقامت فيه بدور "زهرة"، ووضعت موسيقاه التصويرية، ولحنت أغنياته، ولكنه تسبب في إشهار إفلاسها، وتوقفت نهائيًا عن الإنتاج السينمائي، وتم تحويل شركتها "فنار فيلم" من شركة إنتاج إلى شركة توزيع لأفلام الآخرين، وإلى شركة مساهمة وليست مملوكة لبهيجة، وبعد توقفها عن الإنتاج لم تظهر مرة أخرى في السينما إلا في دور قصير من فيلم "القاهرة 30" (1968).

وبعد 80 عامًا من إنتاجه، اختارت إدارة مهرجان أسوان لأفلام المرأة، فيلم "ليلى بنت الصحراء" ليتم عرضه في حفل افتتاح المهرجان، فبراير 2016، ومنح جائزة أفضل مخرجة لبهيجة حافظ التي داهمها المرض في سنواتها الأخيرة، وظلت طريحة الفراش لسنوات طويلة، ورحلت، ولم يتم اكتشاف موتها في يوم وفاتها 13 ديسمبر 1983 إلا بعد يومين من حدوث الوفاة بعدما اكتشف ذلك أحد الجيران، ولم يتم كتابة النعي في الصحف لترحل في صمت.

شارك الخبر على