في عيد رفع الصليب لا تجعلوا جسد المسيح ممزّقًا (جورج عبيد)

أكثر من ٥ سنوات فى تيار

كيف للمسيحيّ أن يكرز بالمسيح مصلوبًا وقائمًا من بين الأموات في لحظات التبدّلات الإيديولوجية والجيو-استراتيجيّة، وفي عالم متحوّل من ثقافات إلى ثقافات أخرى؟ ما يبيج طرح سؤال كهذا في عيد رفع الصليب الكريم، رؤية بدأت تترسّخ في الشرق والغرب، تقود إلى مجموعة استنتاجات، منها أنّ صليب المسيح الحيّ بات مستبدَلاً بغابة صلبان عدميّة تحاول إبطال فعله في التاريخ والوجود، في الزمن والمكان، وتطيح بالرؤية القياميّة المكنونة والمبثوثة في كلّ مسيحيّ إلى أي مذهب انتمى ختم بالميرون أي بمسحة الزيت المقدّس. ومنها أيضًا أنّ الغرب بدأ يفرغ من الإيمان، بحيث باتت تلك المسألة عصيّة عن المعالجات الجذريّة سواء في المفهوم القيميّ أو في الحضور البيولوجيّ المنتمي إلى ما هو قيميّ دليلنا على ذلك خلوّ الغرب الأوروبيّ من الكائس ومن المؤمنين، وثمّة كنائس بيعت وتحولت إما إلى ملاه ليليّة أو مطاعم أو متاحف، والكنيسة الغربيّة حتى الآن لا تملك أجوبة واضحة عن تلك الظاهرة، وفي الشرق بات المسيحيون عرضة الاضطهادات وضحايا الفاقة والعوز فأمسوا مهاجرين يبحثون عن حياة جديدة لهم، منسلخين عن أرض آبائهم وأجدادهم والقيادات الروحية بدورها ليس عندها أجوبة محددة.
همّ المؤمن في كل ذلك أن لا يبطل صليب المسيح فينا، وتلك مسلّمة كبرى تعني الأفراد بشهادتهم كما تعني الفرد. أن لا يبطل صليب المسيح فهذا يعني أنّ المسيحيّ لا يتحرّك إلاّ بقوّة الإنجيل أي بقوة المسيح عينه وهو حياتنا جميعًا. فالإنجيل هو البشارة بالسيد، والسيد ليس ساكنًا الكتب أو محصورًا بها فقط، بل هو حي أزليّ منذ ألفين وثماني عشرة سنة، يتحرّك فينا ويدعونا لكي نتحرّك فيه، حياته حياتنا، وحياتنا حياته، فلا فرق بين أن يحيا هو فينا ونحيا نحن فيه، ف"النحن" و"الهو" إذا استكنّا في قوّته واحد، فصليبه حياة وقيامة لنا، والوحدانيّة المعطاة لنا من محبته وجوهره، تتيح لنا أن نواجه بإيماننا كما واجه أكابرنا في المسيحيّة الأولى وتفترض بنا أن لا نجعل مسيحيتنا ممزّقة بالحراب وتائهة في المجهول، فهو بناها على الصخر حتى لا تقوى أبواب الجحيم عليها، وأعطانا نفسه بموته وقيامته مثالاً لنا لنستمرّ شهودًا له ولا نخشى شيئًا وموتًا فلا جوع ولا برد ولا عطش يفصلنا عن محبة المسيح كما كتب الرسول الأكرم بولس. وعلى هذا يستمر بدوره ويبقى صليبه طريقنا نحو السماء.
مأساتنا الحقيقيّة أنّنا أدمنّا ثقافة التفريق بين المسيح وبيننا كمؤمنين به في هذا المدى المشرقيّ. ويتضّح يومًا فيومًا أنّه لم يعد همّ الكنيسة بمعظم قياداتها ولم يعد همّ المؤمنين في حياتهم اليوميّة. خطورة الوضع الحاليّ ليست في الحروب التي شنّت وتشنّ، وليست في التدمير الذي مورس على كنائسنا والأديرة، وليست في القتل والذبح وهذا حصل في التاريخ وقد يحصل في أمكنة وبقع عديدة من هذا العالم، والمسيحيّ حامل صليب الرب على منكبيه وقد تسلّم قول الرب: "وسيضطهدونكم من أجل اسمي". حاملو سمات الرب يسوع مضطهدون ومقتولون، لأنّه قلب الأمم والتاريخ حين قال أنا هو، أي أنا والله واحد، وأنا ابن الله، وقلبهما لأنّه شفى المرضى ومنح النور العميان وأقام المخلّع وأنهض الأموات إلى أن قام هو من بين الأموات، ولم ينته بموته على الخشبة أو ينتن في القبر. لم يصدّق اليهود ولا الأمم الوثنية أنّ للتاريخ والبشرية إلهًا حيًّا متحرّكًا بالمسيح يسوع مخلّص الأمم وقد أبطل آلهتها وأبادها من جذورها. وعلى الرغم من هذا الفهم فإن الخطورة أننا نتعاطى مع الواقع الحالي خارج المحتوى اللاهوتيّ الصافي وخارج الانتماء الكافي. هذا المر ليس مرميًّا عل كاهل الإنسان العاديّ، فهو يتلقّى الأفكار وينال الرؤى، بل على قيادات متخمة ومترفة، لا تجيد خطاب المحبة فيما بينها ومع شعبها. خطورة التلاشي تبدأ من عندها ولا تكمن في ذلك البسيط الذي يعمل ليأكل ويعيش ويعيل عائلته، وفي الوقت عينه يرى كيف أنّ هذه القيادات تخلّت عنه ورذلته واضطهدته في مؤسساتها سواء كانت استشفائيّة أو تربويّة، وهي الحاملة الرسالة الإنجيليّة. وقمّة الخطورة تظهر في الخطاب الدينيّ القائم على الرتابة واللسان الخشبيّ، غير المرافق للتغييرات، فيبدو بعيدًا عنها كبعد المشرق عن المغرب، وغير المولّد للحلول التي تفيد المؤمن في حياته وثباته.
في حلقة ضيّقة جمعت مفكرين مسيحيين، تمّ طرح السؤال التالي كيف استطاعت الثور الفرنسيّة أن تقلب الوضع في فرنسا ولماذا كانت؟ وعلى ماذا استند كارل ماركس لكي يطلق منطق الاشتراكيّة، وما هي أسباب انطلاقة الثورة الشيوعيّة في روسيا؟ وقد تمّ في تلك الحلقة عطف الأسباب الموجبة على ما يرى ويعاش في هذا الزمن. ليتضح للمشاركين بأنّ الخطاب الدينيّ والفكر الدينيّ هو العلّة، نحن في فكر ديني بات يشبه إلى حدّ بعيد الصنميّة لا سيّما في انسيابه إلى أرض الواقع. فالعلمانويّة الدهريّة Sécularité انتصرت في أوروبا، وبابا روما كما تبرز التقارير بدأ يفقد السيطرة، وثمّة أبرشيات هناك تبيع كنائسها. نسي الأوروبيون قديسيهم الكبار من فرنسيس الأسيزي إلى تيريزيا الطفل يسوع، نسي هؤلاء البابا القديس يوحنا بولس الثاني، ونسوا درب الصليب في روما ولم يعودوا يسمعون شهادة القديسين الوافدين من المشرق ليستشهدوا حبًّا بالرب يسوع وكثيرون من نبلائهم استشهدوا معهم. وأكثر ما تحتاجه أوروبا هو ثورة مسيحيّة حقيقيّة على طريقة الشاعر الملحميّ توماس إليوت، فلا تشفى ولا تعود إلى نضارتها إلاّ حين تمرّ كأس المسيح فوق أرضها، أو حين يمر صليبه وينثر عليها ضياء القيامة. وفي بلداننا المشرقيّة يأسرنا الخطاب الديني الرتيب، بعدم مواكبته ومواجهته للأحداث والتطورات السياسيّة والاقتصادية، بكلّ تحولاتها الجذريّة. فالهمّ ليس بأن نكسب مواقع نيابيّة أو وزارية أو سلطوية في لبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر... علمًا أنّه لطيّب أنّ يتمّ تفعيل قيم المشاركة والثقافة التشاركيّة والشركويّة بين المسيحيين والمسلمين. بل أن نكسب الوجود كلّه إلى جانب إخوتنا المسلمين بمجموعة رؤى ومسلمات تبديها الكنائس وتنعشها وتحرّكها وتوجد لها المعاني الكاملة.
الغريب أن النخبة المسيحيّة الفكريّة قد احتجبت خلف هموم تافهة بدلاً من أن تنتفض وتلتقي وتخلق مجموعة مسلمات تفرضها على أرض الواقع. لقد أعدّت في هذا الخصوص وثائق هامّة فيها انماط علاجيّة، وقد أهملناها وضضعناها جانبًا منها الإرشاد الرسوليّ لأجل لبنان، خلال عهد الباب القديس يوحنّا بولس الثاني، والإرشاد الرسوليّ من أجل مسيحيي الشرق على عهد البابا بينيدكتوس السادس عشر وبدورنا أهملناه ووضعناه جانبًا، فلماذا لا يتمّ إطلاقهما والعمل بموجبهما وتحريك النخب لبثهما حتى تبقى ونحيا ونستمر؟ تطورات عديدة حدثت منها ما هو دموي خطير، في العراق نزح المسيحيون بكثافة بعد تعرضهم للاضطهادات، وفي سوريا تعرّضوا لشتى أنواع الضيقات ولا يزالوا تحتها في المناطق التي سيطر عليها الأكراد، والفكر الدينيّ والخطاب الدينيّ غائب عنها ولم يتحرّك لملامسة الجراح. وفي لبنان يعيش المسيحيون انقسامًا سياسيًّا عموديًّا وخطيرًا كما المدارس المسيحية ترفع الأقساط على أبنائها والفكر الدينيّ لا يلامسها بل يتفرّج عليها بلا إحساس لخطورة تداعياتها على حياة الناس وبقائهم وثباتهم ورسوخهم.
في عيد رفع الصليب، المسيحية كلّها طريحة الألم والتمزّق.، أخشى أننا مرفوعون على صلبان تشلحنا في الموت العبثيّ، فيما قيامة الرب لا تتحرّك إلاّ بصليبه هو. ونداؤنا الصارخ لكلّ من سيطوف بصليب الرب، من اساقفة وكهنة ومؤمنين، لا تنظروا إلى الصليب بشمله ولا بحدث ارتقاعه التاريخيّ بل انظروا إليه كشجرة حياة، ذوبوا في المسيح ذوقوه وتمتعوا به، خذوه حياة لكم، وتوحدوا في محبته حتى نثبت به إلى الأبد ونرث وجهه القدوس الطيّب ببهائه والمنير لجميعنا.

شارك الخبر على