طريق الحكمة ، طريق السلام كيف يفكّر (الدالاي لاما)؟

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم العاشر والأخير
يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالما المعاصر ، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق المجتمعي - السايكولوجي - الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي. أقدّم في هذا القسم (وأقسام أخرى لاحقة) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى (طريق الحكمة ، طريق السلام) الذي أوشك على إتمام ترجمته . إعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر (Crossroads Publishing Company) عام 2004 .المترجمة
 
التبت : نظرة من الداخل  هل أنّ الوضعية السياسية الحالية في التبت ( التي تسبّبت للتبتيين بمعاناة فظيعة يصعب حصر جوانبها وألوانها ) مرتبطة بشكلٍ ما بالكارما الجمعية للشعب التبتي ؟ - المأساة الحالية في التبت هي نتيجة مباشرة للكارما السلبية للجيل الحالي من التبتيين . الظروف التي ساهمت في المأساة التبتية نشأت خلال الجيل السابق ، ثمّ حصل بعدها مع بدايات القرن الأخير* أن انغلقت منطقة التبت على نفسها وانعزلت تماماً عن العالم وأهمَلَت أهمية الإعتراف بها كدولة مستقلة من قبل مجتمع الأمم ؛ فقد كان الشعب التبتي آنذاك غير آبه بالتطوّرات التي كانت تحصل في الدول المجاورة وبخاصة في الصين .
مهمّة الأديان على مسار الخير الأديان العالمية جاءت - كما نعرف - من مناطق ثقافية متباينة ، وتطوّرت من غير معرفة أبداً بوجود أديان أخرى ، ويصحّ هذا القول على وجه التحديد مع الأديان التوحيدية التي نأت جميعها عن أية تعاليم أخرى بادعائها إمتلاك الحقيقة المطلقة ؛ بل خاض أتباعها معارك طاحنة بالضد من هؤلاء الذين يتبعون معتقدات مختلفة عنها ؛ لكن برغم ذلك أودّ أن أتساءل : هل ثمة رابطة ثنائية مشتركة تجمع كلّ المعتقدات الدينية مع بعضها ؟ - نعم ، المحبة هي تلك الرابطة المشتركة التي يمكنها أن تكون القوة الموحّدة التي تتجاوز كلّ العقبات والإختلافات بين الأديان . كلّ الأديان الرئيسية في هذا العالم ( البوذية ، اليهودية ، المسيحية ، الإسلام ، الكونفوشيوسية ، الهندوسية ، اليانية ، المعتقدات السيخية ، الطاوية ، الزرادشتية ،،، ) - كلّ هذه الأديان تتشارك مفاهيم متماثلة فيما يختصّ بالمثال العلوي الذي تمثّله المحبة ، والمعنى العلوي الأقصى لكلّ الممارسات الدينية والروحية في هذه الأديان هو النزعة الإيثارية الفعالة . يسعى كلّ المعلّمين الدينيين العِظام للإنسانية لثني أتباعهم عن إجتراح الأفعال الشريرة وجعلهم يسلكون في مسار الخير من خلال تعاليمهم . تسعى كلّ المساءلات الدينية لبلوغ إجابات للمعضلات الجوهرية الأساسية الخاصة بالوجود من جهة ، وتزويد أتباع المؤمنين بالأديان المختلفة بقواعد أخلاقياتية تصلح لأن تكون بمثابة مدوّنة سلوك للبشر : كلّ الأديان تعلّم أتباعها من خلال وصاياها بضرورة الإبتعاد عن الكذب أو السرقة أو القتل ، وهذه الوصايا هي التي ترينا الطريق الأفضل في الحياة . لاأرى إختلافات رئيسية بين الأديان جميعها ، وتبعاً لمعتقداتي فإنّ كلّ الأديان يجب أن تعلّم أتباعها ضرورة اعتبار كلّ الناس أخوة وأخوات ، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل هؤلاء الأتباع يتعلّمون كيف يعاملون بعضهم بعضاً في روح من التسامح والفهم المتبادل .
الدواء المُطبّب الأفضل لاأحسب أنّ القادة الدينيين سيُشاركونك رؤيتك هذه وبخاصة أنّ الحديث عن الآراء المختلفة بشأن مايقدّم خدمة أعظم لخير البشرية قد ملأ مكتبات عدّة من الكتب في كلّ بقاع العالم . - لكن برغم هذا الأمر لو صرفنا الكثير من الوقت في مناقشة الإختلافات الدوغمائية بين الأديان والتي تطوّرت خلال ظروف تأريخية وثقافية متباينة فسنعلق حينها في حمّى جدالات نقاشية مدرسية الطابع ليس لها نهاية محتملة . أرى من جانبي أنّ الأمر الأكثر أهمية هو تكريس نفسي لمهماتي اليومية مع توجيه كلّ قوتي وطاقتي نحو دعم مكامن الخير في العالم بأكمله . يمكننا - ربما - أن نعقد مقارنة بين الأديان المختلفة في العالم مع طرق الإستشفاء العلاجية المتباينة التي يستخدمها الأطباء ، والطبيب الجيّد في نهاية المطاف هو من يعرف بدقّة الدواء الأفضل لمريضه . سبق لي أيضاً أن قارنتُ الأديان المختلفة بطائفة مختلفة من الأطعمة التي تناسب الحاجات والميول المختلفة لدى البشر في شتى بقاع العالم ؛ لكن بصرف النظر عن كلّ التباينات الفلسفية بين الأديان فإنّ المهمّة الأكثر أهمية لكلّ الانساق الدينية هي أن تساهم مساهمة جدية في تخليق عالم أكثر سعادة وأماناً .
الدين باعتباره وسيلة للسلطة لكن لِمَ توجد هذه الفجوة الهائلة بين الحاجات والواقع ؟ لِمَ حصلت تلك الحروب الدينية الدموية العديدة ؟ ألاترى في الأمر تناقضاً صارخاً عندما نشهد الكثير من الحروب التي تنشأ بسبب صراعات دينية في الوقت الذي ينبغي فيه أن يكون الهدف الأسمى للأديان هو خلق السلام وتعزيزه في العالم ؟ الأمثلة كثيرة في هذا الشأن : إيرلندا الشمالية ، والصراعات الوحشية في يوغوسلافيا السابقة ،،، والتي كانت أسبابها هي الإختلافات الصارخة بين مختلف أطرافها ...- إنّه أمرٌ يدعو للأسف حقاً أن يُستخدَم الدين في العادة كوسيلة وحيدة لبلوغ السلطة التي يسعى أحدٌ ما من خلالها فرض إرادته على الآخرين ، وليس ثمّة - بالتأكيد - دوافع دينية وراء هذا الفعل بل دوافع غارقة في الأنانية وقادرة على الفعل العنيف على أرض الواقع ، ولسوء حظّنا ساهمت الأديان - ولاتنفكّ تساهم حتى يومنا هذا - في تكريس وزيادة منسوب البغضاء والتشاحن والتنفير والتوجهات العدوانية بين البشر . يبدو لي ، وبخاصة في يومنا هذا ، أنّ الأمر الأكثر أهمية من سواه في المقام الأول ليس نشر الدعوة إلى معتقداتنا البوذية ؛ بل أرى أنّ الحوار بين الأديان هو الأمر الأكثر أهمية في واقع الأمر .
إعتقاد شخصي ثمة زيادة ملحوظة في بلدي باعداد هؤلاء الذين يديرون ظهورهم للكنائس ويسعون لرسم مسارهم الديني الشخصي الخاص بكلّ واحد منهم . هل يتوجّب على كلّ منّا تطوير إعتقاده الشخصي الخاص به وحده ؟ - الدين - بالنسبة لي - مرتبط دوماً بتقاليد معينة . يظنّ الكثير من الناس أنّ اعتقادهم سيكون ديناً عندما يؤمنون بشيء ويخلعون عليه صفات القوة المتعاظمة أو القدرة الفائقة ثمّ لايتورّعون بعد ذلك في القول أنّ المصادفة هي التي تحكم كلّ وقائع حياتنا اليومية . هذا شيء مبالغٌ فيه ويحمل الكثير من التطرّف بالنسبة لي ، ولست أرى أنّ شيئاً مثل هذا يمكن أن يدعى ديناً . عندما كانت لي نقاشات مطوّلة مع الجنرال ( ماو تسي تونغ ) بشأن هذه الموضوعة تحدّث حديثاً عمومياً بالضدّ من كلّ الأديان ؛ لكنه اعترف في نهاية الأمر بأنه ليس محصّناً من الإعتقاد بالخرافة ! . إنّ هذه الأمور ليست مرتبطة مع بعضها وليست من الدين في شيء ؛ فعندما أتفوّه بمفردة ( الدين ) فأنا أعني ديناً محدّد الخصائص بكلّ تاريخه وتعاليمه النقليدية وليس محض هذه المبتدعات الشخصية التي يقدِم عليها بعض الأفراد .
أملٌ بالرغم من كلّ الأمور المُعيقة هل ترى قداستك إختلافاً بين الناس الذين تتأثر حيواتهم بالصلاة والتأمّل بالمقارنة مع هؤلاء الذين يفتقدون البعد الديني في الحياة ؟ - أعتقد بقوة أنّ الشخص الذي يتبع بصرامة تعاليم دينه يوماً بعد آخر سيشهد تغيراً تدريجياً في توجهاته العامة تجاه الحياة وبخاصة في أوقات إشتداد العوز والحاجة المادية وفي أوقات اشتداد الأزمات كذلك حيث يمكن للدين حينها أن يمنح الناس الدعم والثقة مهما كانت الأحوال السائدة مسرفة في السوء . الدين في هذه الأحوال السيئة يُرينا - برغم كلّ التجارب الحزينة الباعثة على الغمّ والكدر - أن لايزال ثمة معنى علويّ عصي على التدمير والإجتثاث ، وهكذا يمنح الدين الإنسانية ، وبطريقة غامضة وغير مفهومة بالكامل ، أملاً أقوى من كلّ المُعيقات والعقبات القاسية .
قلّة قليلة من الناس فحسب تتعامل حقاً مع الدين بالجدية المطلوبة  لكن من الجانب الآخر للصورة السائدة ثمة الكثير من الناس الذين قد ينتمون لجماعة دينية ؛ لكنهم يجعلون أنفسهم مُنقادين بفعل أشياء مختلفة كلياً عمّا أشرت إليه في حياتهم .....- بين كلّ مليارات البشر التي تعيش على هذا الكوكب يوجد ربما أقلّ من بليون واحد منهم يمكن اعتبارهم بحقّ متجذرين بعمق في تعاليم دين محدّد ويمارسون أنشطة دينية من نوعٍ ما في سياق يومي منتظم . هؤلاء الأشخاص هم الذين لايفقدون رباطة جأشهم ورسوخ ايمانهم حتى في ظلّ أقسى التحديات المهلكة ، والفضل بالتأكيد عائد إلى إيمانهم العميق الراسخ ؛ أما بالنسبة للآخرين فلايعدو الدين لديهم شيئاً يعني موضوعة ثانوية الأهمية عند اتخاذ قرارات ذات أهمية كبيرة أو في وقت اشتداد الأزمات ؛ وواضح إن السبب وراء ذلك هو أنّ إيمانهم ليس متجذراً بعمق في دواخلهم ، ويمكن لهؤلاء أن يسمّوا أنفسهم مسيحيين ، بوذيين ، هندوساً ، مسلمين ؛ غير أنّ هذه المسميات لاتعدو أن تكون أكثر من محض أوصاف لهم ، وليس الدين بالنسبة لهؤلاء أكثر من تلك الأوصاف الباهتة ولايعنيهم أن يكون الأمر على هذا الحال ، وهذا هو السبب الذي يدعوني للتصريح - بعد تفكّر عميق في الموضوع - بأنّ الأشخاص الذين يتّخذون قراراتهم المصيرية في الحياة تبعاً لما تمليه عليهم قناعاتهم الدينية الراسخة ليسوا كُثراً بل هم أقلية صغيرة ، وفي الوقت ذاته هذا هو السبب ذاته الذي يجعلني أرى الأمر طارئاً يستوجب الدعوة لتكريس مزيد من الجهود العظيمة لتعليم هؤلاء الذين يلعب دينهم دوراً ثانوياً شديد الضآلة والأهمية في حياتهم .
* المقصود هو القرن ال20 . ( المترجمة )

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على