أغانيه لا تسمع إلا بذرف الدموع!

أكثر من ٥ سنوات فى تيار

رحل يوسف كابزون؛ أحد آخر الحناجر النادرة في ألبوم الأغاني السوفيتية.
رافق كابزون، المعروف على نطاق واسع في العالم، التحولات العاصفة في روسيا؛ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حين دب الدفء في الحياة الثقافية والفنية السوفيتية؛ إثر خفوت حدة الجدل حول ما يعرف بالمنظمة الحزبية والأدب الحزبي، لصالح تيار الوسط بين؛ الرؤية الستالينية، والنظرة الليبرالية؛ المتطلعة نحو الغرب "المتعفن"! وفق توصيف الأدب الشيوعي الحزبي.
ولد يوسف دافيدوفيتيش كابزون عام 1937 لأسرة سوفيتية يهودية، وترعرع برعاية زوج والدته وأخذ اسم العائلة منه، وارتبط تاريخه باللقب وبالتعريف السوفيتي للهوية العابرة للطوائف والأديان.
غنى كابزون أجمل أغاني ما بعد (الحرب الوطنية الكبرى)؛ التوصيف الروسي للحرب العالمية الثانية المحتفى بنهايتها في التاسع من أيار/مايو كل عام عيدا للنصر، وتصدح فيه، أغنية كابزون الشهيرة "يوم النصر" تأليف الشاعر والملحن فلاديمير خاريتونوف، وتتغنى بها روسيا جيلا بعد جيل.
حافظ كابزون على فخامة ورومانسية الأغنية السوفيتية؛ حتى عقب انفراط عقد الدولة السوفيتية، وحل الحزب الشيوعي السوفيتي، وملاحقة قادته وأنصاره، وشن حملة مكارثية على الماضي السوفيتي، وتسويد كل صفحات الدولة السوفيتية؛ والحط من منجزاتها والسخرية من أفكار مؤسسيها والتنكر للتضحيات التي قدمها ملايين المواطنين السوفيت على مدى سبعة عقود.
وخلافا لشعار "الجمهور عاوز كده" الذي ساد في الحياة الروسية، عقب الانهيار، صعد يوسف كابزون على خشبة المسرح وأنشد، في تحد واضح، أغنيات سوفيتية؛ بعثت الحنين في قلوب من أضناهم، الزمن (الديمقراطي) المثقل بالفاقة، واللصوصية، وسطوة المافيات، والانفلات الأمني، والثراء الفاحش لحفنة من قطاع الطرق، استولت على الكرملين.
وأصبحت المقدمة الموسيقية، والأغنية، المرافقة للمسلسل التلفزيوني الشهير "سبع عشرة لحظة ربيعية"؛ بصوت يوسف كابزون، علامة فارقة، في المنحنى الفني للمغني الذي، استمر وفيا للحزب الشيوعي الروسي، وساعد قادته، في الخروج إلى العلن مجددا، ودافع عنهم مستثمرا علاقاته وسمعته بين الطبقة الحاكمة التي خرجت من معطف النخبة السوفيتية، وتنكرت لها.
ويصور المسلسل، مآثر جهاز الاستخبارات السوفيتية، الذي تمكن من زرع عملاء في عقر دار هتلر، ونجح في رصد تحركات قطعانه، وكشف المؤامرات الغربية مع ألمانيا النازية ضد الاتحاد السوفيتي.
وكانت شوارع موسكو، تخلو من المارة حين عرضت حلقات المسلسل في التلفزيون لأول مرة صيف العام 1973.
وظف كابزون ثروته الطائلة، في إسداء المساعدة، لأصدقائه الشيوعيين، وانتخب نائبا عن قائمة الحزب الشيوعي.
وفيما حرص كابزون على إقامة علاقات وثيقة مع جميع القوى السياسية المدرجة في خانة القوى الوطنية، لم يخف عداءه للسياسة الأمريكية، وتبعا لذلك، هاجم الحكومة الإسرائيلية التي احتجزته مرة في مطار تل أبيب بذريعة التعامل مع عصابات المافيا.
لكن كابزون تبرع في نفس الوقت، للمنظمات والجمعيات اليهودية الإسرائيلية التي أسسها المهاجرون الروس إلى فلسطين، وأغدق الأموال عليها، ولم يخف تعاطفه مع ما يسمى "حق العودة". بل تدخل لإطلاق سراح يهود سوفيت أدينوا، بالتجسس لصالح إسرائيل ولم يتنكر لأصوله اليهودية، وأوصى بأن يدفن وفقا للطقوس التوراتية.
التصق كابزون بالإبداع الوطني الملتزم، وشكل علامة فارقة في الفن الروسي المعاصر، حتى صار، أحد أبرز ممثلي الثقافة الروسية، رغم حساسية بعض قوى اليمين القومي المتعصب، من نعته بـ(فنان الشعب الروسي) اللقب الذي حاز عليه عدة مرات.
لا تخلو حفلات كابزون، حتى الرمق الأخير من أغاني الحرب، وآلامها، وأشجانها، ولوعة الأمهات والأحبة.
وإذا كان جيل الحرب، والأجيال التي أعقبتها، يذرف الدمع سخيا، مع الصوت الرخيم الذي لم يهرم؛ فإن أجيال الشباب؛ التي أحيا فيها فلاديمير بوتين؛ الروح الوطنية، وبعث الدولة العظمى، أخذت تستمع لكابزون وتطرب لأغنياته المفعمة بحماسة رومانسية؛ تثير مشاعر الحنين إلى الماضي الذي سمعوا عنه، ولم يجايلوه، ويطربون لصوت كابزون.
المفارقة أن المغني الذي كان سيحتفل بعيد ميلاده الحادي والثمانين، بعد أسبوع، سيدفن في وقت واحد اليوم ( الأحد) مع رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية، ألكسندر زاخارتشينكو الذي اغتيل قبل يومين، وتتهم كييف بتصفيته لأنه اعلن انفصال دونيتسك عن الأراضي الأوكرانية.
وكان كابزون الذي تبنى مطالب الروس في أوكرانيا، أحيا حفلات لصالح الانفصاليين، والتقى بزعيمهم المقتول عدة مرات.  
تؤرخ حنجرة كابزون، للأغنية السوفيتية التي لم يبح صوتها، حتى بعد غياب الدولة العتيدة.
وعملت الآلة الإعلامية للكرملين على نفض التراب عن الأسطوانات الذهبية لتلك الحقبة، لكي تسطع  صورة روسيا، الباحثة عن المجد الغابر للحقبة السوفيتية بصوت كابزون الذي صارع مرض  السرطان 18عاما، وانتصر عليه مرات ومرات، حتى وهن العظم، وحلت الساعة. 

شارك الخبر على