ياسر عرفات.. بطل غير صورة الفلسطينيين أمام العالم

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

بكوفيته وشراشيب ذقنه، رسم أبو عمار صورة للشعب الفلسطيني عرفها العالم، وغيرت الفكرة من لاجئ أمام منظمات الإغاثة إلى مقاتل ومقاوم لطغيان الاحتلال الغاشم من أجل الحصول على أرضه، فصار رمزا للكفاح الوطني الفلسطيني والقومية العربية، حتى بعد رحيله الغامض في 11 نوفمبر 2004.

ولم يكتب أبو عمار قصة كفاحه بماء الذهب، بل سطرته رصاصات سلاحه في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بالدول العربية، التي خط فيها أولى محاولاته لتكوين جيش وطني لتحرير أرضه، بعد إيمانه الراسخ بأن إنهاء احتلال الكيان الصهيوني الغاصب لا يأتى إلا برصاصات الفلسطينيين جنبا إلى جنب، وبدهائهم السياسي وكيفية تسخير الدبلوماسية في فضح الأعمال الإجرامية للمحتلين، فاستهل معركة التحرير بالدبلوماسية حين كان طالبا، ثم النهج المسلح وانتهاءً بالدبلوماسية في آخر حياته.   

خلاف على المولد

ولد محمد ياسر عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، في 24 أغسطس عام 1929، لكن لم يثبت تحديدا مكان مولده، إذ ذكرت تقارير أنه ابن مدينة القدس، ورجحت أخرى أن صرخته الأولى في الحياة دوت في القاهرة، حيث امتزاج أصول عائلته الفلسطينية المصرية، لكن المؤكد أن شخصيته القيادية طغت على طفولته، وظهر ذلك خلال دراسته في كلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول، إذ شارك في الحركات الطلابية.

وفي عام 1948 انضم عرفات، إلى حرب الجهاد المقدس للعرب ضد الصهاينة، وعين ضابط استخبارات في «جيش عبد القادر الحسيني»، ولدى وقوع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، شارك في صفوف الجيش بصفة ضابط احتياط في وحدة الهندسة.

بداية دبلوماسية

شكل عرفات رابطة الطلاب الفلسطينيين مع عدد من زملائه التي حاول من خلالها أن ينادي بقضية الأرض الفلسطينية، وبعد دراسته بحث ياسر، عن مصدر عيش فعمل مهندسا بالكويت في الخمسينيات، لكنه لم يستقل من العمل الوطني، فهناك انضم لمجموعة من الوطنيين الفلسطينيين الذين اتحدت توجهاتهم القومية العربية وأهدافهم في التخلص من الكيان الصهيوني، وبدأ أولى خطواته عام 1959 بإنشاء خلية ثورية تؤمن بأن تطهير أرض وطنه من المحتلين لا يكون إلى بسواعد أبناء بلده، وتكاثرت الخلايا الثورية في عواصم عربية أخرى إلى جانب فلسطين، وأطلق عليها اسم «فتح» وهي اختصار لحركة تحرير فلسطين.

وسعى ياسر، لإكساب حركته صفة الشرعية، لكنه واجه حائط صد في عواصم عربية وتوجه إلى سوريا واجتمع بقادة حركته هناك للاتفاق على الاستعداد لانطلاق «ثورة الرصاصة الأولى» المسلحة في 1 يناير 1965، وافتتح أول مكتب للحركة في الجزائر عام 1965، فيما واصلت خليات حركته الثورية عمليات مسلحة ضد الكيان الصهيوني، كبدته خسائر في صفوفه حتى وقعت النكسة.

وقلبت النكسة العلاقة بين «فتح» والحكومة المصرية التي كانت ترفضها على اعتبار أنها جناح لجماعة الإخوان المسلمين، لكن الرئيس جمال عبد الناصر طلب مقابلة عرفات في 1967، وطلب الزعيم المصري من أحمد الشقيري الاستقالة من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية تمهيدا لتسلم عرفات قيادة المنظمة، ما ساعد في رسم صورة الزعامة لأبو عمار.

وتحولت المواجهة أمام الإسرائيليين من داخل فلسطين إلى الحدود الأردنية، بعد توسع الكيان الصهيوني في احتلال الأراضي وامتدت سيطرته على القدس والجولان وأجزاء من الضفة الغربية وغزة، وحين حاول الجيش الإسرائيلي التمدد نحو الأراضي الأردنية في 21 مارس 1968 تصدى له الثوار الفلسطينيون في قرية الكرامة في منطقة غور الأردن، بمساعدة جيش المملكة، وتكبد الإسرائيليون خسائر فادحة دفعته للتخلي عن طموحه ولملة ما تبقى بعد خسارته المعركة، وهنا اكتمل الرمز الكفاحي لأبو عمار.

فتحت معركة «الكرامة» الباب واسعا أمام «فتح» لدعمها ماليا من قبل الدول العربية، وأمام الفلسطينيين للانضمام إلى صفوف الثورة الفلسطينية، ما دفع الكيان الصهيوني لمحاولة التخلص من عرفات خلال عملية اغتيال في 1968 للقضاء على قوة حركة التحرير، التي أصبحت قوة عسكرية تطور من نفسها استعدادا لمعركة التحرير الكبرى.

تضخم مخيف

امتد التضخم العسكري لحركة فتح من مخيمات الفلسطينيين إلى المدن المختلفة والعاصمة الأردنية، فطلب الملك حسين من عرفات إبلاغ الجيش الأردني بأي عملية ضد إسرائيل قبل تنفيذها، ومنع العمليات المسلحة بالقرب من ميناء العقبة، ورفض أبو عمار هذه الشروط، وبدأت مناوشات عسكرية وتعديات على السلطات الأردنية.

وبدأ تضييق السلطات الأردنية على النفوذ المسلح للفلسطينيين داخل أراضي المملكة عام 1970، نتج عنه تصاعد حالة التوتر بين الجانبين، فاحتل الجيش الأردني قواعد عسكرية للفلسطينيين، واحتجزت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رهائن في فندق بالعاصمة، واجتمع الملك حسين والرئيس جمال عبد الناصر، وقررا وقف العمليات العدائية ضد إسرائيل، وبلغ التوتر أشده بعد تعرض موكب الملك حسين لإطلاق نار وخطف الجبهة الشعبية 4 طائرات في 6 يوليو 1970، وفجرتها بمطار أردني وغيرت اسمه لمطار الثورة.

وردا على ذلك، فرض الملك حسين الأحكام العرفية في الأردن، وفي سبتمبر 1970 قصف الجيش الأردني مخيمات فلسطينية بعمان، واستمرت المعركة الطاحنة بين الجانبين لمدة 12 يوما فيما عرف بـ«أيلول الأسود»، وتوسط عبد الناصر لدى الملك حسين، بمساعدة العاهل السعودي، للإبقاء على قواعد عسكرية للفلسطينيين في الأردن ووقف القتال، لكن رحيل ناصر أتاح الفرصة للملك حسين باستكمال خطة القضاء على «الفدائيين»، وفي عام 1971 كان الاستقرار على الرحيل من الأردن إلى سوريا ولبنان.

ترتيب أوراق

ظل عرفات يبحث عن حلم إقامة الوطن المستقل، فحاول إعادة ترتيب عناصره المسلحة في مخيم اليرموك بسوريا، وانتهجت حركته عمليات نوعية باختطاف الإسرائيليين والطائرات، ورد الكيان الصهيوني باغتيال القيادات الفلسطينية بين عامي 1972 و1973.

ولم يغفل أنور السادات قوة أبو عمار وحركته في مواجهته مع إسرائيل، إذ اجتمع الرئيس الراحل بفاروق القدومي أحد مؤسسي حركة فتح -بحسب قوله- في برج العرب قبل حرب أكتوبر، وأبلغه بحاجته للفدائيين، لأنه سيبدأ معركة ويتوقف بعد عبور قناة السويس بـ10  كيلو مترات من أجل المفاوضات، فيما يكمل الفدائيون الطريق المسلح، وتم إبلاغ ياسر عرفات الذي شارك على الجبهة السورية أيضا.

وحصل على الحق الحصري لتمثيل الفلسطينيين خلال القمة العربية بالرباط عام 1974، ولكنه لاحقا تورط في النزاع اللبناني على السلطة، بعد استقطابه إلى جانب اليسار اللبناني في مواجهة اليمين المسيحي، واتحد مع كمال جنبلاط «الحركة الوطنية» في حرب داخلية لبنانية، وحققا انتصارات عسكرية دفعت السياسيين المسيحيين «الجبهة اللبنانية» للاستنجاد بالرئيس السوري حافظ الأسد.

قطيعة مع مصر

اعتبر أبو عمار زيارة الرئيس السادات إلى تل أبيب طعنة في ظهره، فبدأت قطيعته لمصر ما أفقده قوة داعمة له بشدة، وزادت من عزلته وحصاره الدبلوماسي، فلجأ إلى إعادة ترتيب أوراقه مع الرئيس السوري الأسد، في الوقت الذي احتلت فيه إسرائيل جزءا من الجنوب اللبناني وانسحبت تاركة حزاما أمنيا بين المقاومة والأراضي المحتلة.

انشطار حركي

بعد تحقيق إنجاز سياسي بالاعتراف دوليا بحق المصير الفلسطيني، جاءت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن على يد عناصر من المقاومة الفلسطينية ذريعة للكيان الصهيوني، واتخذها مبررا لاجتياح لبنان بحثا عن الفدائيين عام 1982، في حرب شديدة الضراوة خسرت فيها قوات أبو عمار، وحاصر وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون بيروت 76 يوما وقصفها بكل أنواع الأسلحة، مشترطا خروج الفدائيين مقابل وقف العدوان، وانتهى بانسحاب أبو عرفات ورجاله من لبنان إلى تونس.

وتناثرت قيادة حركة فتح بين دمشق وتونس، وتشرذم عناصرها المسلحة، وتعرض أبو عمار لمحاولة تمرد من أبناء حركته في دمشق، وبدأت ملامح الحرب الداخلية للحركة بعدة اغتيالات للقيادات، وحاصر المنشقون الموالون لعرفات مخيمات الفلسطينيين بلبنان وسوريا.

وتفاجأ الموالون لعرفات بتواجده بينهم في مدينة طرابلس اللبنانية، لقتال المنشقين في حرب استمرت لمدة شهرين، حتى تقرر مغادرته مع عناصره برعاية فرنسية، وخلال مغادرته زار أبو عمار القاهرة واستقبله الرئيس الأسبق حسني مبارك، ليمحي قطيعة استمرت 6 سنوات.

توحيد الصفوف

استغل عرفات الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 في توحيد الصفوف حوله، وفي 15 نوفمبر 1988 أعلن أبو عمار، استقلال دولة فلسطين، خلال مؤتمر للمجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر: «باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطنين فوق أرضنا الفلسطينية.. وعاصمتها القدس الشريف».

وفي نفس العام، رفضت واشنطن حضور عرفات، بالجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوجه إلى جينيف، وهناك طالبته أمريكا بإدانة علنية واضحة للإرهاب -للعمليات الفدائية- وخلال زيارته الأولى إلى فرنسا في العالم التالي، أعلن عرفات أن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بائد.

وخسر أبو عمار، الدعم المالي لمنظمته من الدول الخليجية، بعد خطأ بحساباته السياسية حين فضل الوقوف إلى حليفه صدام حسين خلال حرب الكويت، تبعها اغتيال أبرز قادة حركته في تونس.

وسمحت الولايات المتحدة للفلسطينيين بتمثيل ضمني مع الأردن في مؤتمر مدريد للسلام بالشرق الأوسط، وبدأ الوفد الفلسطيني مفاوضات الاستقلال بالتنسيق مع أبو عمار، في الوقت الذي سلك فيه عرفات مباحثات سرية مع الإسرائيليين برعاية واشنطن في النرويج، وتوج بالإعلان عن مبادئ الاتفاق في 26 أغسطس 1993، ما أصاب جانبا من الفلسطينيين بالإحباط، حتى تم توقيع اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر 1993.

وانفتحت الدبلوماسية أمام أبو عمار، وتقاسم جائزة نوبل للسلام مع شيمعون بيريز وإسحاق رابين سنة 1994، وفي نفس العام وقع مع رابين اتفاق الحكم الذاتي في القاهرة «غزة وأريحا».

وعاد أبو عمار إلى غزة في يوليو 1994، وكان هناك استقبال شعبي واسع له، وبعدها دخل أريحا وأقسم اليمين الدستوري للسلطة الفلسطينية.

وفي نوفمبر 2004، توفى ياسر عرفات، داخل إحدى مستشفيات فرنسا، بعد صراع مع مرض غامض أصيب به في أكتوبر من نفس العام بعد تناوله وجبة عشاء، أثناء حصار فرضته عليه قوات الاحتلال الإسرائيلية، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2001، ولمدة 3 سنوات، داخل مقر إقامته بمدينة رام الله في الضفة الغربية.

شارك الخبر على