الفيلم التجريديّ.. سيمفونيّةٌ بصريّةٌ تمنحُ لغة السينما سحراً وثراءً

حوالي ٦ سنوات فى المدى

صلاح سرميني
تتضمّن السينما التي تندرج تحت تصنيف السينما الطليعيّة، كلَّ الأفلام التي ترفض التطوّر القصصيّ الملازم دائماً للسينما التقليديّة. ومن بين الاتجاهات المختلفة، والمتعددّة للسينما الطليعيّة، نذكر منها - على سبيل المثال- الفيلم التجريديّ، وبالاستناد إلى مرجعٍ قاموسيّ، فإنّ ( Abstrait ) تعني : مُجرّد، مُفارق، معنويّ، ذهنيّ، تجريديّ، ··· - بينما يحلو للبعض بأنّ يُطلق عليه الفيلم المطلق ــ Absolu ــ وهو يتعدّى حدود المحتوى القصصيّ، حيث لا وجود على الإطلاق للعنصر التمثيليّ المُتجسّد في الفيلم التقليديّ كمرجعٍ عن حقيقة العالم الفيزيائيّ، على العكس من الفيلم السورياليّ، والميتافيزيقيّ، اللذين يتضمنان بُعداً زمنيّاً روائيّاً، ويستخدمان عناصر واقعيّة، وذلك عبر تشويهاتٍ، وتحولاتٍ مُتعمدّة في الصورة ·وقد تضافر ظهور الفيلم التجريديّ مع الرغبة بتحرير الخيال من كلِّ علاقاته مع الواقع الحقيقيّ.كانت انطلاقته ـ وكحال كلِّ الفنون التجريديّة بشكلٍ عام ـ من افتراضيّةٍ خياليّة، تتحدّد بالدّقة، والصرامة القصوييّن المُطبقتيّن على العمل الفني، انطلاقاً من الـعدد، والقوانين الرياضيّة العُليّا، وذلك عادةً باستخدام عناصر جيّومتريّة بشكلٍ جوهريّ، لأنّ أبعادها، وعلاقاتها قابلة للقياس، والضبط، وبتنظيم، وتطوير عناصرها بمقتضى قوانين الانسجام، والطباق البصريّ·وقد رغب مخرجو الأفلام التجريديّة دائماً، بإنجاز أعمالٍ يتجسّد فيها الشكل الموسيقيّ عن طريق العناصر البصريّة فقط، أي حالة الحركة الدائمة للأشكال، والألوان، والعلاقة فيما بينها· ومن المهمّ الإشارة، بأنّ معظم مخرجي الأفلام التجريديّة كانوا رسامين أصلاً، وخاصّة أولئك الذين ينتمون إلى التيّارات التشكيليّة التجريديّة، والبنائيّة، يبدأ ذلك عادةً، بأنّ يشعر هؤلاء بضرورة استثمار وسائل أخرى للتعبير، ويجدون في السينما اتساعاً في الإمكانيات التعبيريّة عن الرسم، الذي يرغبون دائماً بتغذيته بحركةٍ فيزيائيّة·ولهذا، فإننا نفهم هنا الفائدة المرجوّة من استخدام بعض محترفيّ السينما - من مخرجي الأفلام الروائيّة - لهذا النوع من الأفلام، وذلك في حالاتٍ ما، حيث استعانوا بالفيلم التجريديّ لاستخدامه كمَشَاهِدَ في أفلامهم، كحال النتيجة الفنيّة الرائعة التي ظهرت في فيلم "متروبوليس" لـ"فريتز لانغ" ·ويعود فضل البداية الأولى للفيلم التجريديّ إلى الرسام الروسيّ "ليوبولد سورفاج"، حيث نشر مقالةً في مجلة "أُمسيات باريس" ـ العدد 26/27 عام 1914 ـ التي كان يصدرها " غيوم أبولينير"، يُحدّد من خلالها قواعد الفيلم التجريديّ ·وبعدها قدم دراساتٍ متنوعة حول هذا الموضوع، ولكنّ الحرب أجبرته على التوقف، ولم يبقَ لنا غير بعض التخطيطات، والرسومات، والقطعٍ الكرتونيّة، بدون أن يترك أيّ تجربةٍ على شريطٍ سينمائيّ، وما أن انتهت الحرب، حتى بدأ فنانون آخرون بتجارب مماثلة، كان ذلك مع الرسّام السويديّ "فايكينغ إيغلينغ"، والألماني "هانز ريختر" ·الأول، وابتداءً من نهاية عام 1916، لم يعد يرسم بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وإنما يُكوّن تنويعاتٍ متتابعةٍ لفكرةٍ بصريّةٍ تتطوّر فوق لوحاتٍ مختلفة ·في عام 1918، التقى بـ"ريختر"، الذي كان مهتماً بدوره بقضايا مُناظرة، ودرسا معاً الخط الصينيّ، إشاراته المختلفة، وتوافقاته اللانهائيّة ·كتب "ريختر": أنه في يومٍ ما، اكتشف "إيغلينغ" شكلاً فنيّاً جديداً يتطابق مع تجاربنا، منذ ذلك الوقت، ونحن ندرس التنويعات المُمكنة حول فكرةٍ ما، فوق 30، أو 40 لوحةٍ منفصلة. اقترح "إيغلينغ" بدوره، متابعة تحوّلاتها، وتطوّرها فوق شكلٍ مستمر، وذلك باستخدام وسيطٍ ما، لم يكن لا الرسم، ولا الموسيقى، لقد كان ببساطة ـ وعرفنا ذلك فيما بعد ـ السينما ·في نفس تلك الفترة، اهتمّ رسامٌ آخرٌ يُدعى "روتمان" بإخراج أفلاماً تجريديّة بطرائق أخرى، مُستخدماً بشكلٍ خاص أشكالاً تشكيلية، يتغير شكلها مع كلّ صورةٍ سينمائيّةٍ/ Photogramme، ومن ثمّ يقوم بتلوينها يدويّاً، ومنها "أوبوس 1، 2، 3، 4"، والتي يمكن اعتبارها أقلّ قيمةً فنيةً من أعمال الرساميّن الآخريّن، ولكنها، من وجهة نظرٍ سينمائيّة، تتفوّق عليها بشكلٍ صارمٍ . خلال تلك الفترة أيضاً، استغلّ "إيغلينغ"، و"ريختر"، فرصة مشاركتهما في دورةٍ تدريبيةٍ قصيرة، لإخراج بعضٍ من أفلامهما، حيث أنجز الأول فيلمه المعنوّن "السيمفونيّة المائلة"، فيلمٌ بطول 70 متراً، فيما تمكّن "ريختر" من إنجاز سلسلة أفلامٍ قصيرةٍ، كلّ واحدٍ منها بطول 50 متراً، أسماها "إيقاعات 21، 22، 23، 25"· وعلى التوازي، لم تنتفِ في فرنسا مثل هذه التجارب، على الرغم من أنها اقتصرت على بقايا لـ"مان ري"، وسينما تحريكيّة للرسّام "مارسيل دوشا" ·بدأ حَدَثُ الفيلم بصوت مع الألماني "أوسكار فيشنغر"، الذي أخرج أفلاماً تجريديّة مُكوَّنة من أشكالٍ، وألوانٍ في حالة حركة، مرتبطةً بإيقاعٍ موسيقيٍّ أتمّ إُنجازه مسبقاً، وقد امتلكت بعضاً من هذه الأفلام، مثل " Composition in Blue " عام 1923 قيمةً فنيّةً مُطلقة ·كما لم تنتفِ أيضاً بعض التجارب القصيرة، والمنفردة في تشيكوسلوفاكيا، فرنسا، وإيطاليا، ومن الضروري عدم النسيان، بأنّ كلّ محاولات التلوين التي اُستخدمت لخدمة الفيلم التجريديّ قد أُنجزت بتقنياتٍ بسيطة، وميزانياتٍ ماليةٍ محدودةٍ . في إيطاليا، أنجز الرسام "ل · فيزونيسيّ" بعض أفلام بمقاس 16 مللي ملوّنة يدوياً، وذلك خلال الفترة (1938 -1941)، ويبدو أنه اليوم فقط، بدأ يظهر في أمريكا، وإنكلترا بعض السينمائيين الذين ورثوا عن الروّاد الأوروبيين: مثل "ماك لارين"، و"لين لي" ·وهكذا، نلاحظ بأنّ تاريخ الفيلم التجريديّ قصيرٌ، ومحدود، وفيما إذا كان يتلخص بقليلٍ من الأسماء، ومثلها من الأعمال، فإنّ البعض منها يمتلك جماليّةً، وصفاءً مُدهشين، ونحن لا نعرف احتماليّة بقاء الفيلم التجريديّ على قيد الحياة، أو ربما أسوف تأتي أفلام مُستقبليّة سوف بطرائق أخرى في السينما الصافيّة، وتظهر إلى حيّز الوجود ·ربما نشاهد في يومٍ من الأيام أفلاماً تجريديّةً من نوعٍ آخر، معروضةً بشكل انفراديّ، أو جماعيّ، فوق شاشاتٍ، أو مستوياتٍ، مُتعددة، ومختلفة، أو فوق شاشاتٍ تخترقها الأصوات، والأجساد، عندها يمكن لنا لفظ، واستخدام كلماتٍ جديدةٍ تمنح لغة السينما معانٍ أكثر سحراً، وثراءً ·

شارك الخبر على