من الأشهر اليوم؟

فريدة النقاش
يتكرر مصطلح الفوضى في وصف الموجة الأولى للثورة في 25 يناير 2011، وهو مصطلح يكاد يكون ثابتاً في كتابات وأحاديث من سبق أن دافعوا ـ بالحماسة ذاتها ـ عن نظام "مبارك"، وشارك بعضهم في تكوين ما أسميناه حينها بطانة "جمال مبارك"، أي هؤلاء الذين تولوا عملية "تسويقه" ـ بلغتهم ـ لكي يرث أباه في موقع رئيس الجمهورية. وكان من أبرز الأعمال الجليلة لجماهير 25 يناير 2011 ، هو توافق الشعب والجيش على رفض التوريث، وانطلق من الميدان -حينذاك- الشعار العظيم الجيش والشعب إيد واحدة، وكان هذا الشعار ابن اللحظة هو حاصل إبداع جماعي ورؤية نضجت وتبلورت في التجارب التاريخية حتى في عهود مصر القديمة، إذ تحتفظ الذاكرة الجماعية بصورة "أحمس" القائد المصري الشجاع الذي طارد "الهكسوس" حتى آسيا الوسطى لتبقى مصر حرة لأهلها. كما تحتفظ هذه الذاكرة بصورة ومآثر كل من "أحمد عرابي" و"جمال عبد الناصر" و"خالد محيي الدين" و"عبد المنعم رياض" و"يوسف صديق" وصولاً إلى "عبد الفتاح السيسي" وعشرات غيرهم من العسكريين الذين لعبوا أدواراً محورية في حماية مصر والدفاع عن سيادتها . ويدافع أصحاب " الفوضى" هؤلاء لا عن ماضيهم فحسب، وإنما أيضاً عن فلسفة النظام السابق وسياساته الاقتصادية والاجتماعية وهم يسعون للإحاطة بالقيادة الجديدة على أمل أن يلعبوا أدواراً مشابهة لما كان في الماضي، ويساعدهم أن السياسات القديمة يجري إعادة إنتاجها . يستخدم هؤلاء لغة الثورة المضادة، وهي تتسلل بنعومة إلى وجدان جماهير محبطة وشبه يائسة بعد أن تفككت منظومة الثورة، وانفرط عقد حلف الموجة الثانية منها في 30 يونيه/ حزيران 2013 ، و26 يوليو/ تموز 2013 ، يوم منحت الملايين تفويضاً لوزير الدفاع وكان التفويض مشروطاً بالالتزام بأهداف الثورة، والمضي قدماً على طريقها، واحترام شعاراتها "عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية.. دولة مدنية"!! . ويسخر أصحاب الفوضى من هذه الشعارات، ومن كل القيم والمبادئ التي استخلصتها الثورة من القراءة الذكية والموضوعية لتاريخ مصر، ومن الكفاح المتصل لشعبها حتى في أحلك الظروف في ظل الاحتلال والاستبداد والفساد. جاء العمل الجماعي على رأس جدول أعمال الثورة، ومثل هذا العمل هو على الضد تماماً من فلسفة الحل الفردي التي روّجت لها سياسات الانفتاح والليبرالية الجديدة التي لا تعترف بالمجتمع، وإنما بالأفراد فحسب، وقد عبرت واحدة من منشئ الليبرالية الجديدة وهي "مارغريت تاتشر"عن هذه الفلسفة حين قالت: ليس هناك مجتمع بل هناك أفراد فحسب. وحين نقول إن الثورة هي إبداع جماعي للشعب تبرز فيها كل فضائله، فإننا نسجّل حقيقة تاريخية أخذت تمشي على قدمين، وهي تتوغل عميقاً في وجدان المصريين الذين شاركوا في أعمالها والذين لم يشاركوا، وهو ما أثار فزع قوى الفساد والاستبداد والرجعية، فراحت أبواقهم تهاجم الثورة وتصفها بالفوضى، داعية للهدوء مدعية التحلّي بالعقل والحكمة . وكانت الثقة بجماهير المدن الفقيرة هي البند الثاني على جدول أعمال الثورة، ولم تكن هذه الثقة نابعة من الفراغ أو التأمل الرومانتيكي شأن الذين يؤلهون الجماهير سواء أصابت أم أخطأت، بل كانت هذه الثقة بنت التجربة الواقعية الحيّة، فقد شهدت السنوات الخمس السابقة على الثورة ما يزيد على ثلاثة آلاف شكل من أشكال الاحتجاج للعمال والموظفين والفلاحين الذين دافعوا عن الأرض التي حصلوا عليها من الإصلاح الزراعي، وجرتهم قوى الأمن لاستخدام العنف وسقطت في هذا الصراع الشهيدة نفيسة المراكبي، وشهدت ثورة موظفي الضرائب العقارية المزيد من البطولات النسائية، وقادت النساء وأطفالهن مع أزواجهن الاعتصام أمام مبنى رئاسة الوزراء. هذا إضافة إلى مئات العرائض والمسيرات والإضرابات والتي مهدت جميعاً للموجة الأولى من الثورة التي لم تنفجر عشوائياً، كما أنها لم تأت من فراغ . تجلّت كذلك قيمة الحفاظ على المال العام، فلم تسجّل وقائع الثورة أي عملية نهب أو عدوان على المنشآت أو المدارس اللهم إلا واقعة محاولة السرقة من المتحف المصري، وقد تقدمت الشابات والشبان لحمايته، ولاننسى في هذا الصدد مشهد الشابات والشبان وهم منخرطون في تنظيف ميدان التحرير بعد سقوط "مبارك" وهو المشهد الذي ألهم العالم كله، تماماً كما سبق وأن جعلت الأمم المتحدة من يوم 21 فبراير/ شباط يوماً للطالب العالمي إجلالاً للروح الفدائية للطلاب المصريين في 21 فبراير/ شباط 1946، أثناء الانتفاضة الشعبية حين فتح كل من القصر الملكي وقوات الاحتلال كوبري عباس على الطلاب المتظاهرين فسقط عشرات الشهداء في النيل . العطاء بلا حدود دون إعلان أو من كان سمة غالبة على غالبية المشاركين في أعمال الثورة، أعرف أطباء وطبيبات كانوا يعيشون في أوروبا وعادوا إلى مصر ليخدموا في مستشفيات الثورة الميدانية، إضافة لمئات الأطباء المقيمين في القاهرة، وطالبات وطلبة كلية الطب الذين رأيتهم يدخلون إلى الميدان في طابور منظم بالبلاطي البيضاء ويبرزون للمنظمين بطاقاتهم الشخصية من دون تذمر، فدمعت عيناي فرحاً. كانت الثمانية عشر يوماً تشابه مدينة فاضلة نبتت في ميدان التحرير وتخلقت فيها علاقات جديدة أزاحت الصدأ عن أرواح الآلاف سواء بين المسلمين والمسيحيين أو بين النساء والرجال، أو بين المتعلمين وغير المتعلمين، إذ تجلى الوعي الجمعي وهو يستعيد كلاً من الشيخ "سيد درويش" و"الشيخ إمام عيسى" وغيرهما من فنانين وفنانات كانوا قد اختاروا "الدخول من الباب الضيق" فضلاً عن هؤلاء الفنانين الذين أطلق الميدان مواهبهم . ويريد لنا القادمون من الماضي، والذين يريدون منا أن ننسى مبادئ وأهداف ثورتنا لأنها تعثرت، المغول يريدون لنا أن نكون كما يبتغون لنا أن نكون "على حد تعبير" محمود درويش ، يريدون لنا أن ننسى، ولكننا لن ننسى أن ما حدث كان ثورة لا فوضى، ثورة تضرب بجذور عفية في أرض الوطنية المصرية الحديثة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وتحفر لنفسها مساراً صاعداً رغم الضربات والانتكاسات.