ما يشبه الأحلام من ذكراك

أكثر من ٥ سنوات فى الشبيبة

أحمد المرشدنعيش هذا الأسبوع أيضاً مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بعدما عشنا الأسبوع الفائت مع رائعته "هان الود" التي أعاد بها حب عمره نهلة القدسي إلى عش الزوجية لتنهي هجرانها له وليهنأ معها بقية عمره، كل هذا بسبب أغنية غناها بشجن وعبر بكلماتها عن مدى لوعته على فراق حبيبته..أما اليوم فنعيش مع ذكرى قصيدة من أروع ما غنى عبد الوهاب الذي غني للحب والمكان والتاريخ، فأغانيه وقصائده في الحب والعشق والهوى كثيرة ونعرفها كلها تقريبا، أما عن المكان فغنى للنيل في "النهر الخالد"، وكانت "كليوباتره" هي حكايته مع التاريخ، وثمة قصيدة أخرى عبر بها عن حبه للمكان وهي "جارة الوادي"، فكانت عبارة عن قطعة شعرية تذوب مع الموسيقى العذبة وتطوف بنا في خيال هذا الوادي الجميل الذي زادته كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي بهاء وجمالا، حتى يكاد من يسمع القصيدة بصوت عبد الوهاب أن يستشعر مدى حنانه هو وكاتبها وشجنهما في حب هذا الوادي الجميل..فكتب فيه شوقي من كلماته أبياتا تشعر مع سماعها أو قراءتها بسحر وجمال المكان ورقته.وذهب الكثيرون وأغلبيتهم مصريون الى أن "جارة الوادي" هي مدينة على نيل مصر، ولكن خاب ظنهم لأن عبد الوهاب غنى للنهر الخالد، فلماذا يغني لجارة وادي النيل، كما غنى للجندول، إذن هو يغني لمكان آخر انشغل بسحره وليس النيل أو حبيبة تسكن بالوادي المقصود هزه الشوق إليها بعد فترة فراق وبعاد، وقد كان هذا المكان هو مدينة زحلة اللبنانية التي سلبت قلب أحمد شوقي عندما زارها لأول مرة العام 1925 ليعود إليها بعد عامين تقريبا بعدما وقع في سحرها ونادته ليسرع إليها هائما ثم يكتب فيها قصيدة "زحلة" التي تهز قلب كل عاشق لهذا المكان، خاصة وأن كل من زار زحلة سواء لبنانياً أو غير لبناني يشعر فيها وكأنه في قطعة من الجنة، أو هكذا قال أبناؤها وزوارها، فما بالنا إذا كان الشاعر الكبير أحمد شوقي من هؤلاء الزوار الذين وقعوا في سحر المدينة:شيعت أحلامي بقلب باكي - ولممت من طرق الملاح شباكيورجعت أدراج الشباب ووردة - أمشي مكانهما على الأشواكوبجانبي واه كأن خفوقة- لما تلفت جهشه المتباكيلقد أضاف أحمد شوقي بكلماته عن زحلة ليزيد من جمال أبهي بقاع لبنان بأشجارها الوارفة وعيون مياهها، وإن كانت القصيدة قد عرفت بـ"جارة الوادي" لأن عبد الوهاب اختار البيت " يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني - ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكراكِ" ليكون بداية لقصيدته فتراجع اسم القصيدة الأصلي ليكون "جارة الوادي". ومن الطبيعي أن يقتطع عبد الوهاب بعض الأبيات ليغنيها حيث من الصعب غناء كامل القصيدة التي تغني فيها أمير الشعراء بزحلة وجنانها وخمرها ومائها فاختار ما يلي:لَمْ أَدرِ ما طِيْبُ العِناقِ عَلى الهَوى..حتَّى تَرَفَّقَ ساعِدي فَطَواكِ..وتأَوَّدَتْ أعْطافُ بانِكِ في يّدي..واحمرَّ مِنْ خَفَريهِما خَدَّاكِ..وَدَخَلْتُ في لَيلَينِ فَرْعَكِ والدُجى..ولَثَمْتُ كَالصُبْحِ المُنَوَّر فاكِ..وتَعَطَّلَتْ لُغَةُ الكَلامِ وخاطَبَتْ..عينيَّ في لُغَةِ الهَوى عَيْناكِ..لا أَمْسِ مِنْ عُمْرِ الزمانِ ولا غَدٌ..جُمِعَ الزَمَانُ فَكانَ يَوْمَ رِضاكِ..وعندما غنى عبد الوهاب هذه القصيدة، كان في أوج نجوميته وصديقا شخصيا لأحمد شوقي حتى أنه تردد أنهما زارا زحلة معا العام 1927 فانبهر بها أيضا مثل صديقه شوقي الذي زارها قبل عامين، وقرر أن يغني كلماته تعبيرا عن روعة المدينة التي فتنت الشاعر والمطرب وخطفت قلبهما وعقلهما، فيما يعرف عن عبد الوهاب حبه لبلاد الشام عموما حيث كان كثير الزيارات لسوريا ولبنان وربما فلسطين أيضا، فجو بلاد الشام كان مفضلا لمطرب الأجيال ولكن جارة الوادي أو زحلة استأثرت بكل كيانه. ورغم نجاح الأغنية نجاحا ملفتا وقتها، إلا أن البعض وجه اللوم لعبد الوهاب لاختصاره القصيدة الحقيقية حتى شك كثيرون أنه يغني للنيل، ولكن بالقصيدة الأصيلة الكثير من الأبيات التي تدل على أن المدينة لبنانية، وعلى سبيل المثال:لُبنانُ رَدَّتني إِلَيكَ مِنَ النَوى - أَقدارُ سَيرٍ لِلحَياةِ دَراكِ..بِنتَ البِقاعِ وَأُمَّ بَردونِيَّها - طيبي كَجِلَّقَ وَاِسكُبي بَرداكِ..وَدِمَشقُ جَنّاتُ النَعيمِ وَإِنَّما - أَلفَيتُ سُدَّةَ عَدنِهِنَّ رُباكِ..تِلكَ الكُرومُ بَقِيَّةٌ مِن بابِلٍ - هَيهاتَ نَسيَ البابِلِيِّ جَناكِ..كُنتِ العَروسَ عَلى مَنَصَّةِ جِنحِها - لُبنانُ في الوَشيِ الكَريمِ جَلاكِ..ضَمَّت ذِراعَيها الطَبيعَةُ رِقَّةً - صِنّينَ وَالحَرَمونَ فَاِحتَضَناكِ..شَرَفاً عَروسَ الأَرزِ كُلُّ خَريدَةٍ - تَحتَ السَماءِ مِنَ البِلادِ فِداكِ..إِن تُكرِمي يا زَحلُ شِعري - إِنَّني أَنكَرتُ كُلَّ قَصيدَةٍ إِلّاكِ..ويكتب لقصيدة "جارة الوادي" أن أمير الشعراء كتبها بكلمات عبر بها عما يشعر به نحو مدينة زحلة، فخرج لنا بقصيدة بديعة لغة ومعني ومضمونا، فجاءت كلماتها خير معبر عن تلك المدينة " زحلة " أروع منتجعات العالم كما يصفونها بأنها "عروس البقاع" نظرا لجمال مناظرها و اقترانها بواديها الذي يجري فيه نهر النطرون، وقد أثارت هذه الطبيعة الخلابة والجميلة أشجان وأحاسيس أحمد شوقي ليترجم بكلماته أشواقه ويتغزل بها في مدينته المفضلة كعشيقة بمجرد غياب عامين فقط، ويكفي أول بيت غناه عبد الوهاب:" يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني - ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكراكِ" وبه خير معبر عن الحب والشوق، ثم يكشف شوقي حسرته علي شبابه الذي ذهب بدون الاستمتاع بالبقاء في زحلة ونسيمها العليل.وكما قلنا الأسبوع الفائت إن المطربة فايزة أحمد غنت "هان الود" بعد عبد الوهاب حتي أنه ذكر أنه لن يغني أغنية إلا بعد أن تغنيها له أولا فايزة أحمد إعجابا منه بأحاسيسها وهي تغني "هان الود"، ولكن في قصيدة "جارة الوادي" فقد عرفها معظمنا بصوت فيروز وليس عبد الوهاب رغم أنه حقق نجاحا كبيرا بها، كما وقعت في حبها المطربة نور الهدي التي قدمتها بصوتها الملائكي في تسجيل نادر في تلفزيون لبنان العام 1969 ثم تسجيل آخر بدون موسيقي. والجميل في غناء نور الهدي لـ"جارة الوادي" أنها وقعت في حب القصيدة – كلمات وأغنية ولحنا - فأصبحت أغنية عمرها، حيث حجزت مكانة مرموقة لها لدي جمهورها وعوضت بها سنوات عمرها التي لم تغن بها، فكانت "جارة الوادي" الأغنية التي تكتب الخلود لنور الهدى بكلمات أحمد شوفي ولحن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ليتعرف جمهورها علي الجمال الذي تجلى في حنجرتها والنور الملائكي الذي يشع من وجهها، فألقت الأغنية بإحساس رائع يشمل كل فنون الطرب من بحة عذبة وإحساس وألم وأنوثة وفرح وبراءة.أما غناء فيروز لـ"جارة الوادي" فلهذا قصة أخرى حتى وإن شاعت الأغنية بصوتها أكثر وذلك بعد سنوات طويلة من غناء عبد الوهاب لها ولكن بتوزيع موسيقي وضعه الرحبانية ليتناسب مع مقامات صوت فيروز المختلفة عن مقامات صوت عبد الوهاب الرائعة والفاتنة علي مدي فترات غنائه، حيث اتصف صوته بكل مرحلة بمميزات مختلفة ربما يحين الوقت للكتابة عنها لاحقا.كاتب ومحلل سياسي بحريني

شارك الخبر على