«سرد أحداث موت معلن».. جريمة مكتملة الأركان بطلها الشرف

ما يقرب من ٦ سنوات فى التحرير

الظلام والصمت يخيمان على مسرح ميامي، هذه المرة لم يكن الستار مغلقا كالعادة، لكن تفاجأ الجمهور بأجواء جنائزية في استقبالهم على خشبة المسرح، الأضواء خافتة ولا يظهر سوى تابوت بداخله شاب فى أواخر العشرينيات، يرتدي بنطلونا أبيض وسديري أحمر، ومستلقيا على ظهره.. مشهد غريب بعض الشيء، وما إن هدأت الصالة وجلس الجميع فى أماكنهم، إذا بأبطال العرض يخرجون من باب صغير بجوار المسرح المظلم، لم يظهر إلا خيالهم وأصوات أنفاسهم التي تتصاعد بسرعة بعد أن تراصوا بين مقاعد الجماهير، الجميع فى حالة دهشة واستغراب، التساؤلات تطارد الرؤوس، الترقب يفرض نفسه، كل القواعد تتكسر، لا شيء مألوفا اليوم.

أنفاس الأشخاص التي اخترقت ساحة الجمهور، بدأ زفيرها يتلاشى تدريجيا داخل العتمة، ملامح اللوحة بدأت تنكشف بمرور الثواني، مع صعودهم إلى خشبة المسرح واحدًا تلو الآخر؛ أربعة منهم حملوا التابوت إلى ركن فى آخر خشبة المسرح، وجلس الجميع على مقاعد خشبية مقابلة له، وفي الخلفية موسيقى تصويرية حزينة، وسط انبعاث شعاع الدخان الأبيض، بعد أن نجح مخرجا العرض محمد عز الدين وتامر نبيل، من اللحظة الأولى في خطف انتباه الجمهور، تلاعبا بأدواتهما مرة أخرى بخلق حالة من التعاطف مع هذا الشاب المتوفى، الذي أتى إليه هذا الجمع الحزين من أجل وداعه، كلماتهم الفردية التى قالوها فى رثائه حيرت الحاضرين، من أمر هذا الشاب، فهناك من يبكي على فراقه وآخرون شامتون فى نهايته.

بعد انتهاء مراسم الجنازة، عاد كل مودع إلى منزله، بينما وقف رجل عند أول المسرح، وقال بصوت عالٍ: «استيقظ سانتياجو نصار، فى الخامسة صباحًا..»، ومن هنا انطلق عرض «سرد أحداث موت معلن»، ليحكى لنا الأبطال كيف مات «سانتياجو»، ومن وراء قتله، وكيف تواطأ الجميع فى قتله.. هنا قرر أبطال العرض العودة بالزمن 6 أشهر، ليرووا لنا حيثيات قتل «سانتياجو» على يد اثنين من إخوة «بيكاريو»، انتقما لشرف العائلة، حيث كان للقتيل علاقة بأختهما، التي أفصحت عنها ليلة زفافها، ليعيدها الزوج إلى أسرتها في نفس الليلة.

تفاصيل الحكاية تكشف لك عن ملامح حياة «سانتياجو» المخمور دائمًا، فهو شاب ثري ينتمى إلى عائلة معروفة بتلك القرية، يسكن فى بيت كبير مع والدته، ولديهم خدم من بينهم سيدة عجوز وابنتها، والتى كانت شامتة فى موته، بسبب معاملته السيئة لها، وتعديه على ابنتها، ويقضى «سانتياجو» حياته داخل البارات وزجاجة الخمر لا تفارق يده، لا تفلت من تحت يده أى فتاة، وكانت من بينهن «أنجيلا» ابنة العائلة الفقيرة، التي وقع فى غرامها أحد الأثرياء من خارج القرية.

حاولت «أنجيلا» رفض هذا العريس الثري بكل الطرق، ولكن كان هناك إصرار كبير من جانب إخوتها وأمها وأبيها على إتمام هذا الزواج، ما إن حان موعد الزفاف، حتى اعترفت تلك الفتاة بأنها ليست عذراء، ليتركها الزوج وقبل أن يرحل من القرية، أخبر أهلها بما حدث، ويقرر الأخوان الانتقام لشرفهما، وحملا السكين وانتظرا داخل بنسيون حبيبته «فلورا» وأخبرا الجميع بأنهما سيقتلان «سانتياجو»، لم يصدقهما البعض والبعض الآخر صمت، وحاول البعض تحذير الشاب الثلاثيني، إلا أنه جاء لملاقاة مصيره.

المحير فى الموضوع أنه لم يدافع عن نفسه، وأخذ تلك الطعنات دون أى مقاومة، وبعد أن رحل عنه الأخوان «بابلو» و«بيدرو»، لم يتفوه «سانتياجو» بأي كلمة واحدة، وأخذ يتحرك ويحاول الوقوف حتى مات أمام منزله، وكانت هذه هي نقطة بداية العرض المسرحي، وانتهت الحكاية بعد مرور 20 عامًا مع عودة الزوج الهارب إلى «أنجيلا»، بعد أن أرسلت إليه آلاف الجوابات، تشرح له مدى حبها له، وها قد تغيرت ملامح أهل القرية وأصبح الشعر الأبيض يزين رؤوسهم جميعًا.

مدة العرض ساعتان؛ ولكنهما مرتا كخمس دقائق، دون أي شعور بالملل للحظة واحدة، فكل مشهد عبارة عن لوحة فنية متكاملة، كل ممثل في المسرحية بطل بمفرده؛ مواهب فنية مدفونة وطاقات مليئة بالحيوية والشباب، ولعب مخرجا العرض دورا كبيرا في إخراج المشاهد بذكاء ملحوظ، فعلى الرغم من أن عدد أبطال العرض المسرحي 26 شخصًا، فإن توزيع الأدوار وتحركاتها على الخشبة في تناغم وتناسق لم يجعل المشاهد يشعر بأى زحام، وكان وجود كل شخصية منهم مؤثرا وضروريا، وربما ساعدهم فى ذلك أيضًا تقسيم الديكور نفسه، الذي قسم إلى 5 لوحات مختلفة، الأولى منزل «سانتياجو» وبجواره بنسيون «فلورا» وبجانبه «بار» وضعت أمامه كراسي خشبية، فى المقابل بيت «أنجيلا» وفى الخلفية بيت كبير وشرفاته مفتوحة.

قصة عرض «سرد أحداث موت معلن» توحى لك بأنه كئيب منذ اللحظة الأولى، لكنه بخلاف ذلك تمامًا حيث تخلل العرض العديد من الاستعراضات الغنائية الراقصة، والمواقف الكوميدية بين أبطاله، ومشاهد رومانسية بين «سانتياجو» وحبيبته «فلورا»، و«أنجيلا» وزوجها الثري، كما جاءت الأزياء بسيطة ولكن لعبت ألوانها دورًا كبيرًا فى إضفاء البهجة فى اللوحات الاستعراضية، لكن الشيء المزعج كان عدم الحرفية في تغيير الديكور، وربما يرجع ذلك إلى أن أرضية المسرح نفسه قديمة ولم تُحدَّث، والدليل أنك تسمع أصوات أقدام الشباب وهم يحركون الديكور.

العرض مأخوذ عن المجموعة القصصية «وقائع موت معلن» للكاتب الكولومبي، جابرييل جارثيا ماركيز، والتى نشرت عام 1981، وتحير الجميع من شأن هذا الموت، فلم يدافع القتيل عن نفسه، ولم يحم أهالى قريته، الذين قرروا إنهاء حياته بصمتهم على الأخوان «فيكاريو»، «سرد أحداث موت معلن» من تقديم فرقة عين، يشارك فى المسابقة الرسمية للمهرجان القومي للمسرح المصري، تحت بند «الفرق الحرة والمستقلة».

من إعداد وإخراج محمد عز الدين وتامر نبيل، وملابس منار مجدي، استعراضات هانئ حسن وموسيقى محمد البغدادي ومحمد السعدني، بطولة محمد صلاح عبد الستار، محمد حسن عبد الفتاح، عمر على النظامي، أحمد كمال توفيق، وائل سعيد حمزة، محمود عيسى، محمود عبد الوهاب وهبة، أحمد محمد عباس، نادين هشام، نجلاء محسن، حبيبة محمد وآخرين.

ننصحك بمشاهدة هذا العرض، إذا كنت تبحث عن رؤية مسرح مختلفة مفعم بالحيوية والشباب، أبطالها موهوبون إلى حد كبير، بعضهم يجيد الغناء والرقص والاستعراض والخفة التي تجعله يدخل القلب سريعًا.

شارك الخبر على