الإرهاب والثقافة البديلة

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

د. عقيل مهدي يوسف
تُعنى (الثقافة)، بقوة المعرفة، وتصوراتها العقلانية الرصينة، والموحية بالجمال، والحق، والخير. أما (الإرهاب) فيقوم على هوامات إجرامية في ثقافة قهرية تلقينية، بأبعاد أسطورية. وعصبوية منعزلة عن الحياة، تغذيها مخططات مخابراتية دولية. السؤال: هو كيف يمكن تغيير الواقع الموضوعي من خلال الثقافة؟! وهل بإمكان التنوع الثقافي التصدي (للإرهاب)؟!.
فالمعروف لدينا، إن الثقافة تخاطب مواطناً حرّاً، أما الإرهاب فيسوق قطيعاً من الرعاع نحو المجزرة، بلاهوت سياسي منقرض، يتناقض مع الدين الحق، كذلك الذي نجده ناصعاً في (القرآن)؛ (لا إكراه في الدين)، ووصاياه في احترام الديانات الأخرى، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ان تبرّوهم وتقسِطوا عليهم)... و(لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).أو في حديث الرسول محمد، (لم نؤمر بقتال) متبّرئاً من العصبية المقيتة للظالم (يمرق من الاسلام، كما يمرق السهم في الرمية). تحتم علينا المسألة الثقافية، التواصل مع طبيعتها المركبة، تاريخياً، واجتماعياً، وفلسفياً، وسياسياً، وفنياً.وكلها تقتضي منّا إتباع رؤية منهجية متنامية، تتجاوز العوائق القائمة القديمة، بمعايير مستحدثة، متبنية انساقاً من الترميزات، والتخيلات الإبداعية في التعبير الأدبي – الفني، والفكري، بهدف التأثير على المتلقي، وتحفيزه على ابتكار المعاني والدلالات للأثر الثقافي.سنحاول تتبع الظاهرة الثقافية بمنهج تحليلي وصفي، يوجز سعتها البانورامية.إننا حين نقارب من جانب مقابل، (ظاهرة الإرهاب)، نجدها قائمة على نحو منفرٍ، يقاوم التغيير، بأسلوب تدميري، يصطنع لنفسه دوراً إجرامياً، تخريبياً، يسقطه على الأبرياء من ضحاياه أو يستقطب اتباعاً يتمثلونه بوعي أو غير وعي، وبالتالي يصبح لديهم وكأنه أمر طبيعي مقبول ومعاش. وهكذا يتكيف جيل جديد مع الخراب والعنف والرعب متلبّساً بمفاهيم سجالية، ينسبها الى المقدس، وبالتالي يبرّر لنفسه ما ينتظره من تخريب للمجتمع، وللأفراد، ومن تعطيل للعقل. لأن خبرته الفقهية لا تتعدى الجلباب القصير، واللحية المرسلة!، وهكذا يجري تزوير المقدس، في (بنية مثبتة) وثنية، تعزز سلطة (أمراء الجهل)، كأداة متحجرة، فاقدة لإنسانيتها بالكامل، تلحق الأذى بالآخرين، بلا سند قانوني، وتختزل الإسلام الى مصحف وسيف فقط , وتفصله عن الحياة , والفكر , والحوار . سبق أن أعطي لمواصفات " المجرم " ، تفسيراً (بايولوجياً)، كما فعل (لومبروزو) 1876، اعتماداً على تكويناته العضوية الشاذة، التي تدفعه للجريمة.أما ( فرويد )، فنظر الى الطاقة الجنسية (Eros) وطاقة الموت (Thanatos)، التدميرية (للأنا).مؤكداً في رسالة بعثها الى (انشتاين): (كل ما يدعم الثقافة، هو الذي يوقف اندلاع الحروب).ويقارن (جاك لاكان) بين عدوان القطيع الحيواني، ويراه خارجياً وأخف وطأة، من العدو الكامن في (داخل) الإنسان.ما يميز الإرهاب، هو استخدامه للعنف بطريقة غير مألوفة، لترويع الآخرين، نفسياً، ومادياً. وبطريقة منظمة من التخريب والإبادة، ويتصف دعاته بالانحراف، وتعاطي المخدرات، وبالكآبة والانفصام، وبانهيار القيم الأخلاقية.سبق للذاكرة الاسلامية أن دوّنت لدى (الفارابي)، جغرافية خاصة متناقضة في اتجاهين، الأول هو (المدينة الفاضلة) التي تتطلع الى تكريس فضائلها بلا غلبة أو قهر، والثاني (المدينة الضالة) الخالية من الرموز الإنسانية والمجبولة على العنف والحروب.ويذهب (ابن خلدون) الى ملازمة العنف، لأخلاق البشر، بوصف الشر ينبع من الجهل بطبائع الأشياء، لأنه خروج عن عقلانية شرائع السماء، وقوانين الطبيعة.أما شعرياً، فيجد المتنبي: (والظلم من شيم النفوس..).وصف (هوبز) الإنسان بأنه (أناني) ينجذب الى اللذة، ويبتعد عن الألم – وهو يخوض حرب الكل ضد الكل، و(الدولة) تمارس سلطتها، لتفرض نظامها بالقوة.(جون لوك) يمجّد الفطرة السوية للانسان، ويقيد السلطة بنظام ملكي. ويدعو (ستيوارت ميل) الى الحرية والتسامح ويعتبر (روسو) الإنسان، خيّراً بالطبع، فكل ما هو (طبيعي)، هو: حسن، وخيّر، والفساد يتأتى من صنائع الإنسان!؛ ولا مناص من (القانون) عند ( مونتسيكو)، لتوزيع الحقوق والواجبات.يؤكد (ماكس فيبر) على علاقة الدولة والسلطة، والرأسمالية والدين، وشرعنة السلطة , بالإكراه والعنف المؤسساتي، لحماية المواطنين. ويدين (أريك فروم) النازية، ورجال الجستابو في كتابه (تشريح التدميرية).يعقّب (هوركهايمر) على مفهوم (هوبز) ويرى أن (العقد الاجتماعي) جاء نتيجة (للخوف) و(للرجاء)، فهو تسوية بين عدوانيتنا اللامحدودة، وجزعنا اللامتناهي. ويرجع (ماركس) الى ما يفرزه التفاوت الطبقي، من صراعات ضارية بين الرأسمالي والبروليتاري ويشاطره (ماركوز) هذا القلق، الذي يجده داخل الحضارة، التي تدّخر طاقاتها لصالح المجموع، ولا يوافق فرويد على إنها تقمع الغريزة.ويؤكد على إمكان توجيهها نحو العمل، بقوة المتخيّل (Fantasia).ولا يرى (هابرماس) في أطروحته (الإرهاب والحضارة المغلوبة) فصلاً قائماً ما بين الثقافة والتكنولوجيا، ويطالب بالوقوف ضد الحروب والكوارث، وأعلن شجبه للحرب على العراق.ويعلن (فرانس فانون) عن رفضه للمستعمر الفرنسي في الجزائر وفظاعة عنفه (للانسان المقهور) الذي تحتّم عليه إعادة كرامته المهدورة.ويستدل (غوستاف لوبون) على مشاعر بدائية قابعة في اللاوعي المنحرف (المازوشي) إذا انفجرت ستنتشر شظاياها على الجمهور العريض، ويدحض (نيتشه) مقولة الموت من أجل (الشهادة)، ويراها (العدو الأول للحقيقة).يتساءل (جان بودريار) في كتابه (ذهنية الارهاب)، لماذا يقاتلون بموتهم؟ فيرى إن (أميركا) تمارس عنفاً شرعياً، بوصفها قوة مهيمنة في عالم، يضجّ بالموت والاضطراب والجوع والمرض.ويجد (جورج بوش) إن دولاً مثل العراق وايران وكوريا، تمثل (محور الشر) ليدخل في حرب فعلية كاسحة فيما بعد، وتقوم أميركا مع دول متحالفة باحتلال العراق.ومازال المنظرون الاميركان، يؤكدون على (صِدام الحضارات)، بديلاً عن توسيع دائرة التفاهم في دول تراها متمردة أو خارجة على عولمة النسق الأميركي وتابوهاته.قد يمثل (الفوضويون) إحدى حركات الرفض لكل أشكال (السلطة) تحت شعارات طوباوية، فردية وجماعية (شتيرنر)، (برودون)، وبالتالي هم يتوسلون (الإرهاب) لتهديم المؤسسة الاجتماعية.في الجانب المعاكس، الذي يتبنى أسلوباً تحررياً، من أمثال (ماو تسي تونج) في الصين، نادى باستراتيجية حرب العصابات، وتبعه (جيفارا) وكذلك المقاومة العربية الفلسطينية ولكل أسلوبه وتقنياته وأهدافه المختلفة.تحتفظ الذاكرة البشرية، بطيف من الاستلابات المؤدية الى قهر الانسان إذ عرفت اليونان القديمة (الاغريقية) ما يسمى بـ(الفارماكوس) وهو طقس مرعب، يضحّى فيه (بانسان) - عندما تحلّ المحن والكوارث (بمدينة) ما – قرباناً للآلهة! وهذا إرهاب لإخضاع البشر، والتسلط على أرواحهم!.وحتى اليوم، نرى اضطهاد (المرأة) ماثلاً في بلدان العالم كافة، على مستوى الحقوق القانونية، أما في مقاطعات الإرهاب، المتطرف، فتشيع به ظواهر القتل والاختطاف والاغتصاب والمتاجرة بالبغاء، وبيع المرأة وكأنها عملة للتداول في البورصة!.وبالتالي تصبح غريبة عن ذاتها، وطبيعتها السوية وعن مجتمعها.يشرح (بوردريار) – (حرب الخليج) ويخلص الى انها (لم تحدث)! في كتابه (ذهنية الارهاب)، لأنها كانت رهاناً زائفاً، لا مبرر لوجوده!.سبق لـ(شكسبير) ان جعل بطله (الملك لير) يتساءل: هل من سبب ما في الطبيعة، يجعل هذه القلوب قاسية؟.ويؤكد (اوسكار وايلد) هذه القساوة بتعليله (للمنظر المتكرر فهو لا يثير الانتباه، لأن الناس تتواطأ عليه، فتألفه).وفي يومنا المعاصر يرى (امبرتو ايكو) إن السينما الحديثة، في سيناريوهات أفلام الخيال العلمي على انها (قيامة) أرضية للحرب الشاملة التي تستبق ما يمكن أن يحدث من كوارث مستقبلاً!.ويرى (جاك دريدا) في (ما الدولة المارقة؟) فيتهم أميركا وعلاقتها بالإرهاب منذ عهد مكارثي وحتى بن لادن.. فهي كما يؤكد (مسرحة إعلامية) على نحو منهجي تدميري، يخدم مصالح أميركا.الإرهابي في الماضي السحيق، وفي الحاضر المعاش يختزل هوية الآخر، ليحوله الى كافر، مرتد، عميل، وسواها من الاتهامات الباطلة، وهو مصاب بمرض ذهاني (بارانويا) بثقافة سوداء قاتلة.وصدق (جومسكي) في تعريفه للارهاب، بأنه (عنف، وتهديد لتحقيق أهداف سياسية أو دينية، او ايديولوجية، تقوم على ادخال الذعر والاجبار) القسري للآخرين.هؤلاء الارهابيون كما جاء ذكرهم في (القرآن) (هم المفسدون ولكن لا يشعرون).نخلص، إن الثقافة البديلة هي التي تشتمل على مواقف عقلية، وجدانية، سلوكية، تتصدى بقواها الناعمة، لبناء وعي قيمي رفيع، تعزز فيه التسامح، وتفعّل ستراتيجية المنظومة التقنية والمعلوماتية في عالمنا العربي، معتمدة أساليب التصور المستقبلي، والتصدي لفرية (الاسلاموفوبيا)! وما تحمله من ضغائن مضمرة، وكره للمسلمين الذين هم أوّل من عانى ومازال من (الارهاب) الماحق للسلام القومي، والديني في بلداننا العربية المنكوبة! وهذا تزوير للواقع الحقيقي، ولصراعاته، فهو ليس نتاج صراع الحضارات، ولا حروب صليبية جديدة، بين الأديان، بل هو بربرية مدمّرة، وفتنة إثنية وطائفية، هدفها الاستئثار بالسلطة، وقتل الأخ لأخيه في الدين والانسانية.فالإرهاب، لا يتأتى من (تطرّف الاسلام، بل من أسلمة التطرف) من قبل أجندات مسمومة.كان (غاندي) يوصي الهندوسي، بأن يربّي ولداً مسلماً، قُتِلَ والداه في زمن الفتنة – كما كان (كانط) يدافع عن طفل بريء حتى لو كانت سعادة العالم متوقّفة عليه , ويذهب (أراجون) في شعره: عار على الذين لا يجردهم طفل من سلاحهم، ويضيف (كامو): (ما من قضية، تستحق ان يُقتل من أجلها "طفل"). ويؤكد (جمينر) : ( لا شيء في العالم , أكثر أهمية من رعاية الأطفال , وحمايتهم ) .

شارك الخبر على