قضية للمناقشة حنين لماسبيرو زمان

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

فريدة النقاش
حين يلتقي أصدقاء وصديقات الزمن الذي اعتادوا أن يسموه بالزمن الجميل، وهو وصف شائع يستخدمه كتاب وإعلاميون كثرة حين يلتقي هؤلاء الأصدقاء والصديقات كثيراً ما يعبر حنينهم إلى الزمن الجميل عن نفسه بتذكر برامج وأفلام ومذيعي ومذيعات ومسلسلات "ماسبيرو زمان" وفي هذا البرنامج يقدم التليفزيون المصري مواد أنيقة مشوقة وراقية تنتمي إلى ذاك الزمن الجميل وغالباً ما تقترن متابعتها بحالة من الحنين . وحين زرت الولايات المتحدة الأميركية لأول مرة عام 1990 بدعوة من اتحاد الطلاب العرب لأحاضر عن أن الحنين إلى زمن الستينيات في القرن الماضي، هو حنين ظاهر بين قطاعات من الشباب الأميركي ورافقني أحد مضيفيي لنشاهد معرضاً لصور "مارلين مونرو" التي يعتبرها الأميركيون أيقونة الستينيات، وفوجئت بالزحام الشديد في المعرض، وأخذت أفكر في أصل هذا الحنين منذ ذلك الحين . كانت ستينيات القرن الماضي هي ذروة حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، كما شهدت انتصار دولة الرفاة الاجتماعي في أوروبا، ازدهار الاقتصاد السوفيتي حتى أن بعض الاقتصاديين الرأسماليين شعروا بالقلق من قدرة الاتحاد السوفيتي الذي انتصر في الحرب العالمية الثانية وهز "هتلر" والنازية، ودفع ثمن هذا الانتصار خسائر فادحة في البشر والثروات، ومع ذلك وفي سنوات قليلة كان قادرا على إنتاج سلاح نووي، ومنافسة اقتصاد أقوى دولة في العالم، فضلاً عن مساعدة حركة التحرر الوطني . امتلأت الستينيات إذن بطاقة أمل، وبتفاؤل عظيم ألهمته انتصارات الشعب الفيتنامي ضد الاستعمار الفرنسي أولاً في "ديان بيان فو" ثم ضد الاستعمار الأمريكي في "سايجون " الطامحين لا فحسب لتحرير بلدانهم، وإقامة العدالة فيها تحت سماء الاشتراكية، وإنما كانوا يطمحون لتغيير العالم كله لمصلحة المنتجين من عمال وفلاحين ومثقفين، كانت اليوتوبيا تمشي على الأرض حين تعلق الجنود الأميركيون المهزومون بسقف السفارة الأميركية في "سايجون " ـ التي أطلق عليها الفيتناميون اسم "هوشي منه " بعد الانتصار وتوحيد البلد كان الجنود المهزومون ينتظرون طائرات الهيلوكوبتر لتنتشلهم من مستنقع الهزيمة وهم في حالة مزرية . وفي مؤتمر للشباب في برلين عام 1975 كان الشعار الأساسي هو "فلسطين " بعد فيتنام، واتسعت على نطاق عالمي حركة تأييد حقوق الشعب الفلسطيني. وصعدت حركة الحقوق المدنية ضد التمييز العنصرى الواقع على الأميركيين الإفريقيين، مواكبة لاتساع قاعدة الاحتجاج على الحرب الأميركية ضد شعب فيتنام خاصة في الجامعات الأميركية . وحققت مصر في الستينيات طفرة اقتصادية وتحررية بعد أن كانت قد استعادت شركة قناة السويس التي أممها جمال عبد الناصر، وحققت مصر نصراً سياسياً كبيراً على العدوان الثلاثي وساندها الإنذار السوفييتي للمعتدين في تحقيق النصر، ورغم كل المصاعب والثغرات في نظام ثورة يوليو السياسي شرعت البلاد في الإعداد لبناء السد العالي أكبر مشروع هندسي في العالم في القرن العشرين، وأنجزت الخطة الخمسية الأولى . وشهدت سنوات ما بعد هزيمة 1967 حرب استنزاف طويلة ضد العدو الصهيوني صنع فيها الجنود والشعب المصري بطولات ترقى لمستوى الملاحم، وشهد الإنتاج السينمائي والتليفزيوني نموًا كيفيا ملحوظاً في السينما والمسلسلات، وكتب الأدباء والشعراء بعض أفضل الأعمال، وولدت كعلامة ثورية ظاهرة الشيخ "إمام عيسى" و"أحمد فؤاد نجم " و"عزة بلبع" المغنية الشابة التي صقل السجن المتكرر صوتها الجميل. وماجت الجامعات بحركات الاحتجاج ضد نظام " السادات " الذي غير ـ فيما سماه ثورة التصحيح ـ أيار 1971 ـ بعد موت عبد الناصر بشهور، غير التوجهات التحررية والتنموية الأساسية لثورة تموز مستنداً إلى الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها تموز من استبداد وقمع للحريات، وأعلن بدء المرحلة الجديدة وشعارها 99% من أوراق الحل في يد أميركا إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن "في مصر فقط بل وفي المنطقة" . فإلى أين يا ترى يمكن أن يقودنا الحنين إلى الزمن الجميل إنه يمكن أن يقود ـ دون وعي ـ إلى أصولية من نوع جديد، ولم لا ألا يطالب الإسلاميون بالعودة إلى العصور الذهبية، أي عصور الخلافة، وعلى حد قول " أم كلثوم" ـ لا أعرف من المؤلف ـ إن كنت عايزنا نرجع زي زمان، قول للزمان ارجع يازمان، إن الزمن لا يرجع للوراء أبداً . وإن العودة إلى الزمان الجميل هي للأسف مستحيلة، ولكن استلهام القيم الكبرى والعليا لهذا الزمان، ليست بالقطع مستحيلة، وعلينا ونحن نحلل هذه القيم أن نستخدم منهج القراءة النقدية وليس التقديسية ، فمن أسس الصراع بين قوى الاستنارة والتحرر ، والتقدم الإجتماعي من جهة ، وقوى الرجعية والأصولية والدينية من جهة أخرى ، من هذه الأسس أن يكون مشروع التنوير مرتبطاً بالتغيير الاجتماعي إلى الأفضل لصالح الأغلبية العظمى من المصريين وبرضاهم، وأن يكون هذا المشروع نقدياً بدءاً بنقد الذات لتجاوز الأخطاء التي وقعت فيها قوى التقدم والاستنارة من قبل فرحلتها القادمة أصعب كثيرا من كل ما فات . وحين طرح حزب التجمع الوطني برنامجه العام الجديد 1998 أي قبل عشرين عاماً اختار له عنوان "المشاركة الشعبية" وكان قد التقط أسباب ما أصاب النظام الاشتراكي الذي سقط من ركود وفساد ووجد أن غياب المشاركة الشعبية أي الديمقراطية بمعناها الشامل هو السبب الرئيس لهذا السقوط وهو ما حجب عن عيون القائمين على الأمر إشارات التحلل والانهيار . سوف نواصل الحنين إذن للقيم وليس للنموذج، ونحول الحنين إلى عمل لا أحلام يقظة.

شارك الخبر على