ألبرتو مانغويل الشغوف بالقراءة والكتب

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

شكيب كاظم
إنّ العالم وجد كي يصب في كتاب جميل
الشاعر ستيفان مالارميه
 إذا كان الحبر يسيل من أسلات قلمي مدراراً على ضوء الله ونوره نهارا فإنّه ليكاد يجف، حين يبدأ الليل يسدل سجف ظلامه على الكون، لذا أخصص الليل للقراءة ونهار الله للكتابة، فإنَّ مانغويل يقول (مثل ميكافيلي، أجلس غالباً وسط كتبي في الليل، بينما أفضّل أنْ أكتب في الصباح. في الليل أنعم بالقراءة في الصمت المطلق (...) كل مكتبة هي بمثابة سيرة ذاتية) ص155.
في كتاب (المكتبة في الليل) الممتع والمفيد، الذي خصصه مؤلفه لدنيا الكتب والمكتبات، الذي يقرر وبتواضع العارفين لأقدارهم وإمكاناتهم العالية في الكتابة والبحث، (لا لكي أصنف تأريخاً آخر للمكتبات،  أو أضيف مجلداً آخر للمجموعة الواسعة بشكل مرعب في علم المكتبات، بل كي أسجل فقط وقائع دهشتي) ص10، فإنّه يقدم معلومات وآراء جديرة بالقراءة والاستيعاب والتفهم، مانغويل الكاتب اليهودي المنصف، ما كانت ديانته حائلاً بينه وبين قولة الحق والإنصاف، فلقد كثر اللغط باتهام العرب المسلمين بإحراق مكتبة الإسكندرية التي كان لبطليموس فضل توسيعها وزيادة موجوداتها من الكتب، من خلال إصداره المرسوم الحضاري الأنيق، الذي أوجب وضع الحجز على كل كتاب يدخل ميناء الإسكندرية، مع وعد مقدس بإعادته إلى أصحابه بعد استنساخه. مع هذا يقول مانغويل فإنَّ مكتبة الإسكندرية اختفت من الوجود تماما، وكما لا نعرف شيئاً عن الشكل الذي كانت عليه، فإنّنا لا نعرف شيئاً مؤكداً عن اختفائها، هل حدث فجأة أم بالتدريج؟
وينقل مانغويل رأيا للمؤرخ الإغريقي بلوتارك مفاده أنَّ حريقا كبيراً شبَّ أيام إقامة يوليوس قيصر في الإسكندرية سنة 47 قبل الميلاد، وانتشرت نيرانه من ترسانة الأسلحة لتصل إلى المكتبة، لكن مؤرخين آخرين معاصرين لبلوتارك يؤكدون أنَّ النار أتت على ترسانة الأسلحة، ولم تصل إلى كتب المكتبة، بل إنَّ سبب فقدان الكتب أنها كانت قد هيئت للشحن إلى روما بالسفن فيما يشبه أكبر سرقة للكتب في التأريخ، فصادف أن اشتعلت النيران في ترسانة الأسلحة، فأتت على الكتب المعدة لنقلها إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية، روما، وأرى أنَّ المكتبة تعرضت لعملية سرقة وتهريب نحو روما، وافتعل حادث الحريق الذي لم يعرف فاعله كي تنطوي أسباب الجريمة، لكن بعد سبعة قرون من ذلك يأتي من يتهم العرب المسلمين بحرق المكتبة، وفي موضع ثان من الكتاب يؤكد مانغويل رأيه ببراءة العرب المسلمين من جريمة الإحراق قائلاً: (أشرت سابقاً إلى الخرافة التي تتحدث عن اتهام عمرو بن العاص، بأمر الخليفة عمر بإحراق كتب الإسكندرية) ص102.
إنَّ السبب الذي دفع المصريين لإنشاء مكتبة الإسكندرية، هو جعلها ذاكرة مصر للدنيا، في مواجهة الموت والفناء، فالإنسان باحث دائب عن الخلود، لذا رأينا حضارة المومياءات والتحنيط وبناء الأهرام وإقامة المسلات في العراق القديم، لكن ما درى هؤلاء، والملك بطليموس على رأسهم، أنَّ ذاكرة الورق، لا تقوى على مقاومة صروف الأيّام والليالي السود، فالورق هشّ ضعيف أمام عوامل الطبيعة وسيرورة الزمان، ففي حين ما زالت الأهرام قائمة والمومياءات كذلك، ذهبت مكتبة الإسكندرية التي يراد لها أنْ تكون حافظة لذاكرة الدنيا، مكتبة الإسكندرية وأوراقها ما كانت قادرة على حفظ نفسها بله حفظ ذاكرتها!
الأمريكيون الجنوبيّون اللاتينيون، محبون للعرب والمسلمين، وأرى أنَّ ذلك ناتج عن كون بلدانهم من المستعمرات الإسبانية والبرتغالية، وغير خاف على الدارسين مكوث العرب في ربوع إسبانية أكثر من سبعة قرون، تركوا فيها حضارة شاخصة ما زالت، لذا نقل الإسبان وهم يتوجهون إلى تلك الأصقاع، ما تأثروا به من إبداعات الحضارة العربية الإسلامية إذ وجدنا هذه الظاهرة، واضحة في كتابات مبدعي أميركا اللاتينية، وألبرتو مانغويل ليس بِدْعاً في هذه الظاهرة، وإذ رأيناه ينزه العرب من جريمة إحراق مكتبة الإسكندرية فإنّه يذكر العديد من منجزات هذا الفكر قديما وحديثاً، واقفاً عند كتاب الفهرست لابن النديم محمد بن إسحق (ت 380 هـ) واصفا عمله بأنه أفضل موجز نملكه من عالم المعرفة العربية في القرون الوسطى، فهو يجمع في مجلد واحد (الذاكرة والبيانات المفصلة) وهو (مكتبة قائمة بذاتها) تراجع الصفحة 52.
كما يذكر ابن سينا وابن خِلَّكان والقَلْقَشَندي، ونجيب محفوظ من المحدثين لكن الذي أودّ تأكيده أنَّ المترجم كان ينقل أسماء المؤلفات، كما دونها المؤلف بلغته، والدقة توجب العودة إلى الأصل العربي، وتدوينه كما ورد، مثال ذلك ما جاء على الصفحة 48 قوله: (قبل ذلك بخمسة قرون، في العراق ألّف القاضي الشهير أحمد بن محمد بن خلكان، مرآة للعالم مماثلة، دعاها (سيراً لمشاهير وأخبار أنباء عصرهم) وليس لابن خلكان المتوفى سنة 681 هـ مؤلف بهذا العنوان بل عنوانه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) وأفضل تحقيقات هذا الكتاب المهم، هو تحقيق الأستاذ الدكتور إحسان عباس – رحمه الله –
كما أنَّه يترجم الكتاب الشهير (صبحُ الأعشى في صناعة الإنشا) لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي الفزاري (756 – 821 هـ) إلى (فجر ليلة ظلماء) وليست هذه من أساليب الكتابة في تلك القرون الخاليات!! بل هو ما دونته آنفاً وهو من كتبه ذائعة الصيت. وإذْ ينزه تأريخ العرب والمسلمين من جريمة إحراق مكتبة الإسكندرية، فإنّه يقف طويلاً عند عمليات حرق الكتب التي بدأها الألمان النازيون، منذ أنْ صعد أدولف هتلر إلى رأس الرايخ الألماني الثالث بفوزه بانتخابات سنة 1933، إذْ بدأوا بحرق مكتبات اليهود الألمان، بل حولوا مكتبات عدة إلى مواد أولية لصناعة الورق، إلى عجينة ورقية ومنع الدكتور جوزيف غوبلز وزير الدعاية لحكومة الرايخ وأمر بإحراق مؤلفات: هاينريش مان، وستيفان زفايغ الذي اضطر للهجرة إلى أمريكة اللاتينية وانتحر في ساعة يأس مع زوجته في مغتربهما سنة 1942، وفرويد، وإميل زولا، ومارسيل بروست، وأندريه جيد، واج. جي ولز، وهيلين كيلر، لأنَّ حرق هذه الكتب كما يقول غوبلز يتيح لروح الشعب الألماني أنْ تعبر عن نفسها من جديد، هذا اللهب لن يضيء نهاية عصر قديم فحسب بل بداية عصر جديد أيضاً!!
ومن الصور المضحكة المبكية، شكوى أحد أصحاب المكتبات في العاصمة الأفغانية كابل، فحواها أنَّ الشيوعيين أيّام حكمهم لبلاده، أحرقوا مكتبته، حتى إذا استولت طالبان على مقاليد الأمور سنة 1996، عادت فأحرقتها ثانية حتى لكأن بين النار، وورق الكتب تحديدا ثأراً قديماً!
لقد قرأنا هذه الحكاية القديمة، وسمعناها مراراً، التي تأتي في مجال الحث على قراءة ما تمكّن قراءته، وإنَّ من المحال الإحاطة بجوانب المعرفة كلها، حتى في ذلك الزمان السحيق في القدم، بسبب كثرة المعارف، وقِصَر العمر الإنساني، الحكاية تقول إنَّ ملكاً أراد أنْ يقرأ كلّ كتب الدنيا، فأرسل رسله إلى الآفاق لجلب الكتب، وظلّ طوال سنوات ينتظر، حتى إذا جاءوا بالأعمال أعمال الكتب وجدها كثيرة جداً، فطلب من النُسَّاخ اختصارها فانهمك أولاء باختصارها، ومضت سنوات أخرى، والملك المتبطل لا يقرأ شيئاً انتظاراً لاختصارها، لكنه وقد اكتهل وضعف، وجد أنَّ صحته ما عادت تسعفه لقراءة هذه المختصرات، فأمر بالاختصار الشديد، فجاءته أحمال ثلاثة من الإبل، لكن الملك كان يجود بأنفاسه الأخيرة، فخرج من الدنيا من غير أنْ يقرأ شيئاً، فلو قارنا هذا الحال، بحال ذلك الملك الآشوري الذي يسرد علينا مانغويل حكايته، الذي نظر إلى مكتبة آشور بانيبال وكانت زاخرة بالكتب مما ليس باستطاعة شخص واحد مهما كان شغوفاً بالقراءة قراءتها كلها، فجند الملك عيونا وسواعد أخرى لدراسة الألواح الطينية وإيجاز محتواها، بحيث أصبح بقراءة هذه الملخصات يفخر بأنّه ملمّ بكل محتويات المكتبة!
الفارق بين ذلك الملك وبين الملك الآشوري، الرغبة في القراءة، فذاك أمضى العمر متبطلاً بانتظار الآتي المجهول ربما، في حين كان الملك الآشوري عاكفا على القراءة وما تصله من مختصرات، وهذا الأمر يذكرني بصديق، كان يقرأ كتبا يزوده بها مسؤول مثقف وكاتب، ولأنَّ مشاغله لا تسعفه بقراءة الكتب، ولعشقه للقراءة والكتاب، فقد كلّفه بقراءة الكتب التي يزوده بها وتقديم ملخص بها اليه لقاء راتب شهري، فكانت الفائدة لصديقي مزدوجة مادية ومعنوية!!
في كلّ بلدان العالم، هناك قرار الإيداع، الذي يوجب على كلّ مؤلف أو دار نشر إيداع عدة نسخ من كل كتاب يطبع في المكتبة الوطنية للبلد. مانغويل يقدم لنا معلومة أنَّ هذه الشِرعة تعود إلى سنة 1537 حيث صدر المرسوم الملكي القاضي بإيداع نسختين من كل كتاب يطبع في فرنسة، وبعد قرون حَذَت بريطانية حذو فرنسة، إذْ صدرت سنة 1842 الإرادة الملكية بالإيداع.
قلت إنّ ألبرتو مانغويل من الشغوفين بالكتب واقتنائها مع أنّه واثق أنَّ العمر الإنسانيّ القصير لن يسعفه بقراءة كل كتبه، لكن هو الإنسان ورغباته، مع أنَّ هناك من الكُتاب من لا يرغب في اقتناء كتب كثيرة، معولاً ليس على القراءة فقط، بل على المشاهدات والسفر إلى إنحاء الدنيا، والاطلاع على عادات الشعوب وثقافاتها، لكن مانغويل عاشق الكتب، ما جعل غرفة من غرف منزله مكتبة، بل تحول المنزل إلى مكتبة، الأمر الذي دفع بأبنائه إلى المزاح والتندر من أنَّ عليهم استحصال بطاقة الدخول إلى المكتبة قبل التفكير بالتوجه إلى منزلهم!
رجل هذا شأنه مع الكتاب، سيكون موقفه سلبياً إزاء الكتاب الإلكتروني، إنّه يشعر بحميمية الورقة، وإنَّ مولد تكنولوجيا جديدة، لا يعني موت سابقاتها، اختراع التصوير لم يلغ الرسم، ظهور الراديو ما ألغى الكرامفون والمسجلات الصوتية، كما تعايش التلفزيون مع السينما، إنَّ القراءة – غالبا – تقتضي البطء والتأمل، وإنَّ الإلكترونيات تدفع إلى السرعة والثقافة الهشّة فضلاً على اضطراب المعلومة، الناتجة عن تلقيم الإنسان بها بالمعلومات. كتب صديق لي مقالة ضاجة. بالأغلاط التأريخية، والأخطاء المعلوماتية، فلما هاتفته أجابني أنْ ليس له شأن في هذه المعلومات، فلقد استقاها من الشبكة الإلكترونية لذلك أنا آسف على الذين يعولون عليها في استقاء المعلومات من غير الاستعانة بالكتاب.
يقول مانغويل بما أنها دائمة التغير، فغالبا ما يكون من المحال استرداد ما كان يوما مخزونا في المستودعات التي ألغيت، وإنَّ تصفح كتاب، والتجول بين الرفوف، هما جزء حميمي من القراءة، ولا يمكن استبداله بتقليب شاشة، فالأمر سيشبه استبدال السفر بدليل رحلات مصور، وأضيف أنا أو مشاهدة فيلم سياحي أو مطالعة مسرحية ما، عوض مشاهدة المسرحية تؤدى حية على المسرح، أو الاستعاضة بقراءة سيناريو فيلم عن مشاهدة الفيلم. فلكل أمر متعته، ومتعة قراءة الكتاب الورقي، في أخذه بمودة وحميمية من مكانه في رفّ المكتبة وتقليب صفحاته، مع كتابة التعليقات والحواشي، التي تَعِنُّ عليك خلال القراءة، وتلك الورقة التي تشير إلى الصفحة التي توقفت عندها، غير خائف من فيروس يأتي على كل المخزون، ثم هذه الألفة مع الكتاب الذي يبادلك ودًّا بود، حتى إذا فرغت منه ودعته، معيداً إياه إلى مكانه الأثير في رف المكتبة، حتى إذا احتجت إليه ثانية، عدت إليه لوصل ما انفصل. مع الورق تشعر بالأمن والألفة.
كثيرون يكتبون، قبل أنْ تكتمل عدة الكتابة، يصدعون بها رؤوس القراء، هؤلاء ما أجدرنا أنْ نطبق عليهم قانون ليون، الذي أصدر في القرن الأول الميلادي، الذي يوجب على الخاسرين في المسابقات الأدبية، محو كتاباتهم الشعرية بألسنتهم كي لا تظل كتابات من الدرجة الثانية!
هناك كتب عاثرة الحظ، والحظ يسدل جلبابه على كل أمور الدنيا، يقرر مسؤولو مكتبة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، وبسبب عدم قدرة رفوف المكتبة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الكتب الوافدة إليها، تقرر التخلص من هذه الكتب، قليلة التداول، ولا تستعار إلا قليلاً، هنا يبادر عشاق الكتب – ولأنهم علموا بالمآل الذي ستؤول إليه – بادروا بحملة لإنقاذها من خلال تنظيم عمليات استعارة جماعية لها وختمها لها بأختام الاستعارة فأنجوها من الحرق، وعادت الكتب مزهوة لمكانها الأثير ..  رفّ المكتبة!

وكما بدأت حديثي بمقولة للشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، فإنّي أختمه بقولة سامويل جونسون: ليس هناك مكان يمنح اليقين الراسخ بتفاهة الآمال البشرية أكثر من مكتبة عامة. 

شارك الخبر على