عن التخصص والتكامل الثقافي

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

ياسين طه حافظ
مرتان أو ثلاث كتبت عن مسألة تخص النقد الأدبي قدر ما تخص النص. تلك هي الاهتمام السائد من نقاد الأدب عندنا بفحوى النص الاجتماعي أو الأخلاقي أو الفكري، ؟أكثر من الاهتمام بفن الكتابة : لُغةً ، أسلوباً و تقنيات. وهذه ظاهرة واضحة، إنْ لم تكن نقصاً في الثقافة النقدية، فهي إهمال يسيء الى "الإبداع الأدبي"، أي الى العمل الادبي فناً. وهذا واضح في نقد الشعر اليوم كما في نقد الراوية.
 
ويبدو أن هذه الظاهرة، أو هذا الخلل، له ما يماثله فيما يسود من نقد، ولاسيما الصحفي و عروض الكتب. هذا في العالم أيضاً، فنقرأ في الصفحات الأولى من كتاب الاستاذ تيري ايغلتون "كيف نقرأ الادب" تنبيهاً للمسألة، فيقول بوضوح وبنوع من الدرس الأدبي (لأنه يشير الى الظاهرة في مناقشة "الطلاب" لإحدى الروايات. ومناقشة الطلاب تعني أن نقد المشابه هو قريب الشبه لنقد الطلبة لإحدى الروايات). وهذا قوله:
" ... غير إنه يصعب أحياناً ايجاد الفرق بين ما يقوله نقاد الأدب عن القصائد والروايات من جهة والحديث عن الحياة اليومية من جهة أخرى. وليس في هذا جناية كبرى لكن قد ينطبق القول في يومنا هذا على أزمنة أخرى. وأكثر الأخطاء التي يقترفها طلاب الأدب شيوعاً يتمثل في السعي الى معرفة ما تعبر عنه القصيدة أو الرواية، غاضين النظر عن الأسلوب والفن اللذين تعبر بهما . إن مثل هذه القراءة تعني إهمال الطابع الأدبي للعمل، بمعنى إنه قصيدة أو مسرحية أو رواية وليس تقريراً عن حادثة مثل تآكل التربة في ولاية نبراسكا. إن الأعمال الأدبية قطع بلاغية وتقارير أيضاً. وتتطلب نمطاً من القراءة على درجة بالغة من اليقظة: نمطاً كتابياً منتبهاً لما فيه من نبرة ومزاج وسلاسة وانتباه لنحو اللغة والتركيب اللغوي والنسيج اللفظي والإيقاع وبنية السرد وعلامات التنقيط والإيهام ولكل ما ينطوي عليه الشكل ..." .
النوع الأول من القراءة، الذي أدانه استاذنا، هو ما يجعل التشابه واضحاً فيما يكتبه بعض من نقادنا سواءٌ كتبه عن قصيدة أو رواية أو مسرحية. عدم وضوح الثقافة الفنية لكل من هذه الفنون والاهتمام بالشأن الاجتماعي والفكري، هو وراء الظاهرة التي أشرنا لها مرات من قبل. نعلم جميعاً إن العكس من هذا كان سائداً في النقد العربي القديم حيث كان الاهتمام باللغة والأسلوب والايقاع والشأن الاجتماعي والافكار يأتيان في الدرجة الثانية، إن كان لهما أي حضور .. النقد الحديث، والقراءة المتمكنّة، قراءة التخصص، لا تسمح بخسارة أي من الطرفين او الثقافتين. علماً بأن الثقافة الفنية، أو الجوانب الفنية في أي نص، هي التي تحيل الكتابة الى نص أدبي. والا فيمكن أن تعبر عن أي تجربة أو حادثة، مقالةٌ صحفية، سياسية أو نفسية، أو أي حديث في الأفكار. والتقرير الصحفي يمكن أن يؤدي المهمة بدقة أكثر وقد توافرت اليوم  أجهزة التسجيل والتصوير ويمكن لتقرير عن "تآكل التربة في نبراسكا" كما يقول ايغيلتون، أن يكتب باسلوب أدبي. لكنه لن يكون نصاً ابداعياً.
تكامل الثقافة مطلوب في التخصص، في أي موضوع كان، نقداً أدبياً، شعراً، كتابة رواية أو استخراج النفط أو صناعة فخارية... قد تكون اللغة إخبارية، أي مجموعة جمل خبرية. وهذه هي لغة الصحف ورسميات الدوائر والتقارير عن حال أو حدث. لكن اللغة الادبية بحسب ايغلتون مؤسِّسة لواقع التجربة وليست وسيلة نقل لها. من هنا الاهتمام بالاستعارية وبنظام الجملة والتركيب اللغوي بما يتضمن من ضمائر مستترة أو تقديم وتأخير واختيار اللفظة بحسب مديات معناها. استكمال الكاتب لثقافته واستكمال أو تكامل ثقافة الناقد والشاعر والرسام والطبيب أمر مطلوب. وتعبير "طبيب متكامل" مصطلح معروف بين الأطباء .. عموماً التكامل ليس إشارة لمنقصة ولكنه تأكيد لفضيلة وامتياز، مادمنا نتحدث حديث ثقافة ومثقفين .. لعل كتابَي السيد بلاشير المهمين "شعريات المكان، والتي ترجمها الراحل غالب هلسا "جماليات المكان" وكتابه الثاني "أحلام اليقظة" وقد ترجم الى العربية أيضاً، هما من نمط الكتابة النقدية لما وراء الخبرية. أي الى ما يصنعه ويستدعيه الفن الأدبي. ويكفينا أن نعرف إن كتابات "اليوت" النقدية، بكل الثقافة التي وراءها، هي أصلاً عروض كتب! ولكنها عروض تسامت بالتكامل الثقافي للكاتب حتى أصبحت في أحيان كثيرة مراجع لكتابات نقدية مهمة. ما ينزل بأي كاتب، ناقداً، شاعراً ، باحثاً، هو شعوره بالتفوق وإنه اكتمل فلا حاجة لمزيد. دائماً يبقى نقص في ثقافتنا مادام العالم يتقدم والفنون تتقدم والثقافة تتلقى كل يوم جديداً ...

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على