في الذكرى العاشرة لرحيله..كامل شياع.. وجامعة لوفان والفلسفة

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

د. حسين الهنداوي
في لندن وفي مطلع عقد التسعينيات الماضي وعشية انهيار الدولة الشمولية السوفيتية، جرى تعرّف أحدنا على الآخر، الشهيد كامل شياع وأنا، وكنا تلميذي فلسفة قادمين الى عاصمة الضباب هو من بلجيكا وأنا من فرنسا، سعياً الى فرصة عمل في صحيفة عربية أو أخرى، وكانت حرب "تحرير الكويت" قد وضعت أوزارها للتو، مع مشهد آلاف الجنود العراقيين المحترقين على ظهر عرباتهم بالنووي الاميركي المنضب ينشر الفزع في كل مكان فيما نظام الدكتاتور القروي التكشيرة صدام حسين ينجو بجلده كالذبابة الخبيثة الزرقاء.
وفي وسط من أصدقاء عابرين جمعهم الانتماء السابق الى تجربة أحزاب يسارية خائبة، وخاض بعضهم فوضى التدريس في الجزائر، بدا كامل أحد أكثرهم ثقافة فلسفية ورقةً وتواضعاً، وهذا قرب بيننا أكثر ربما بل سرعان ما انصرف القوم عنا ضجرين من انهماكنا في نقاش جاد عن الفلسفة وتياراتها في الغرب وكان غارقا للتو في حبه للحكمة. كان طالباً في جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا آنئذ ويتردد على لندن حيث صحيفة "الحياة" التي نشرت له عدة مقالات واعدة أثار اهتمامي فيها أفقها المتجاوز لمحيطه الرتيب. كنت أنشر حينها في نفس الصحيفة، بشكل أكثر انتظاما، مقالات فكرية وسياسية أيضاً تحمل نكهة هيغل وفولتير. وقد عزز صداقتنا غير التهريجية والحذرة تلك، توافقنا على منح الفلسفة أولوية مطلقة على الايديولوجيا بما فيها الماركسية ذاتها التي ألهمتنا الكثير. فقد صارت بيننا عدة رسائل الكترونية مركزة حملت إحداها ملاحظة إطراء منه لدراسة لي فلسفية مطولة عن فوكوياما وهذياناته عن النظام العالمي الجديد، وهي التفاتة غير معتاد ورودها من الحزبيين الاقحاح لا سيما في ذلك الوضع الملبد بالظنون. بعد سنوات شاركنا معاً بمداخلات فكرية في ندوة حول "اشكالية السلطة في الفكر العربي الإسلامي" أقيمت في معهد الدراسات الشرقية والافريقية بلندن بمبادرة من الدكتور عبد جاسم رئيس جمعية الثقافة العربية وقدم كامل شياع محاضرة مهمة بعنوان (النص، السلطة والإيديولوجيا) فيما تناولت من جانبي "نقد نظريات الاستبداد الشرقي"، وكان المقرر أن تكون لأستاذنا الجليل الراحل حسام الدين الألوسي محاضرة حول "تاريخية السلطة والجذور الأسطورية للوعي الاجتماعي" لولا تعذر سفره.ومرة تحدثنا مليّاً عن عدد مهم بالفرنسية من مجلة "لوفان" الفلسفية الفصلية الصادرة عن المعهد العالي للفلسفة في جامعة "لوفان" والتي تعتبر من بين أهم الدوريات الأوروبية المتخصصة في الفلسفة، كرسته في نهاية صيف 1989 لجملة من الدراسات الجديدة تمحورت حول فكر نخبة من المفكرين المسلمين اشتهروا كفلاسفة من "الخط الثاني" وهم أبو حاتم الرازي وأبو الحسن العامري ومسكويه وفخر الدين الرازي وابن خلدون. إلا أنهم بالمقابل، وعلى خلاف الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد مثلاً، عرفوا كمفكرين كبار في ميادين أخرى اولاً ثم كفلاسفة لا سيما مسكويه وابن خلدون حتى أن مؤرخ الفلسفة المصري الراحل عبد الرحمن بدوي أفتى بانهم "ليسوا فلاسفة بالمعنى الدقيق لمفهوم الفيلسوف" بينما اعتبر نفسه فيلسوفاً بهذا المعنى. لقد كان شغف كامل شياع بالفلسفة عميقاً وتعلقياً اذا جاز القول وجديداً وعابراً في ذات الوقت. لم يكن قد درس الفلسفة من قبل ولم يمر على تحديداتها الاكاديمية ومصطلحاتها المهنية بل جاء إليها من السياسة أو الإيديولوجيا على الأرجح لكن بعاطفة صادقة وحماس ورغبة عارمة رغم ضغوط سياسية وحزبية لا تحصى، فيما كانت لغته العربية تجمع بين الجزالة والحداثة وحب الدقة مستفيداً من أفضل النماذج العربية في الكتابة الفكرية آنئذ الى جانب مهارات اسلوبية شخصية محضة. علمت إنه حصل لاحقاً على شهادة الماجستير في الفلسفة من جامعة لوفان الكاثوليكية عن بحث بعنوان مثير أيضاً هو "اليوتوبيا معياراً نقدياً" ذكرتني على الفور بشهيد الفكر الكبير توماس مور برغم اختلاف الأحوال، عرض فيها كامل شياع فهمه الخاص لظاهرة اليوتوبيا كخطاب اجتماعي وفكري مستقل بذاته عبر مختلف المراحل التاريخية مختلفة منذ عصر النهضة حتى وقتنا الراهن.حواراتنا النادرة اللاحقة تموضعت قبل عام 2000 إجمالاً، أكدت لي إن هذا الباحث المتطلع الى الجمع بين الإيديولوجيا والفلسفة يواصل التقدم نحو الأخيرة متحرراً من الاولى بشكل ملموس. بيد إنه ظل في إطار العمل البحثي رغم تمرده هنا وهناك. مقالاته النقدية في صحيفة "الحياة" اللندنية حملت بالمقابل صورة وافية نسبياً عن مدى استفادة كامل شياع من دراسة الفلسفة في الجامعة. ميله الواضح نحو الفكر النقدي تعزز بل غدا احد العلامات البارزة في جهده الصحفي والكتابي بوجه عام. فقد شغله مثلاً السجال بين المفكر الفلسفي السوري جورج طرابيشي ضد المفكر المغربي محمد عابد الجابري فكتب عنه مقالاً مهماً في 1997 كان واضح الميل فيه الى جانب طرابيشي ضد الجابري. ثم ناقش في مقال في نفس العام نزعة الأنسنة في الفكر العربي والاسلامي الكلاسيكي عبر عرض نقدي لكتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي" للمفكّر الجزائري الراحل محمد أركون الذي، وهذا ما ابرزه كامل شياع، سلّط الضوء على طبيعة الممارسة الفكرية لدى مسكويه وسواه من فلاسفة زمانه "العلمانيين" اذا جاز القول. إذ يتناول الكتاب المسيرة الفكريّة لمسكويه المتوفى عام 421 هجرية، كمؤشر على ظاهرة ثقافية مبكرة في تراثنا، تمحورت حول الانسان واتخذته "نقطة وصول ونقطة انطلاق في آن معاً". هذا الجانب الانسانوي في مسكويه الذي قضى شطراً كبيراً من حياته في بلاط بني بويه خازناً للكتب وكاتباً وفيلسوفاً اخلاقياً، جذبنا جميعا الى الاعجاب بهذا "المفكر اليساري" لا سيما إن أهم ما اقترن باسم هذا المفكّر انجاز معترف به لتأسيس نظرية في الأخلاق الانسانية، تتوسّل العقل والحكمة المكتسبة معياراً للأفعال والمقاصد والغايات. وكان يمكن لهذه النظريّة برأي أركون، والملاحظة لكامل شياع، أن تفضي نظرياً وعملياً إلى نوع من العلمنة والحداثة، لولا انكفاؤها السريع الذي يصف أركون بأنه قدر تراجيدي يتولاه في ثنايا الكتاب باستقصاء تاريخي متعمّق. وبالطبع، فان الكلام على الأنسنة يعيد إلى الاذهان مباشرة الحركة الانسانية التي مثلت ثقافة عصر النهضة الاوروبي، ابتداءً من القرن الرابع عشر الميلادي، وتميزت بالتفاؤل بالانسان وبروح البحث والاكتشاف والابتعاد عن التقاليد "السكولائية" القروسطية. وثمة من هذه الناحية، تشابه غير عارض بين هذه وبين نزعة الأنسنة في الفكر العربي التي سبقتها بأربعة قرون، وهيأت لانفتاح على "العلوم الوافدة" ولعقلنة التفكير الديني ولتشجيع المعرفة العلمية وقيم الاخلاق والجمال.وهي عقلنة ونزعة انسانية لا نشك أن كامل شياع كان قد وضعها في خططه أو على الأقل طموحاته وهو يعود طوعاً الى بلاده التي حطمها القمع البعثي والحصار والاحتلال الاميركي للاسهام في بناء حركة ثقافية جديدة وفق روئ علمانية متفتحة. وهو هدف يكتسب الآن أولوية أكثر من أي وقت مضى في رأينا ومن هنا أهمية إعادة الاطلاع على ذلك العرض الذي قدمه لكتاب اركون اعلاه الذي يشير أيضاً إلى أن نزعة الأنسنة والعقلنة ظهرت في بغداد وإن صعودها في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري تزامن "مع حكم البويهيين الذين أداروا الشؤون العامة وفق اعتبارات أقرب إلى السياسة منها إلى الدين". ويشير كامل شياع أيضاً الى ان أركون يبني هذا التشخيص على ملاحظة أن ذلك العصر شهد "إضعاف هيبة الخلافة"، وازدياد "أهمية الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات المتكررة الحاصلة بين الطوائف والمذاهب والعقائد والتراثات العرقية - الثقافية". ومع سقوط حكم البويهيين في منتصف القرن الخامس الهجري، على يد طُغرل بك السلجوقي، خفت بريق تلك النزعة الانسانية الأدبية والفلسفية الواعدة. ويشدّد أركون هنا، كما لاحظ كامل شياع، على أن ضمور هذه النزعة ما كان ليحدث فقط بسبب ردّ الفعل الأشعري بل بتضافر عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية. وهذا الكاتب الشهيد لا يخفي اعجابه بالمنهج الخاص لمحمد أركون والقائم على اسناد أطروحته الاساسية عن تبلوّر نظرة انسانية في القرن الرابع الهجري، مقابل النظرة اللاهوتية السائدة، بمنهج تاريخي متطور سمح بانضاج قراءة غنية لفصل مهم من فصول تراثنا وتاريخنا، مبينا إن تلك القراءة لم تقف عند حدود موضعة أفكار مسكويه في سياقها الملموس، وتبيان جوانب القوة والضعف فيها، بل أسهمت - وإن بدرجة أقل - في اجلاء ملامح جيل من المثقفين الذين عاصروه. وفي تأكيد أن "لهم فضل تغيير مفهوم الكتابة الأدبية ليستوعب ابعاداً اجتماعية دنيوية واجناساً معرفية ونظرية" مشيدا بالاجتهادات المحفزة على التفكير التي توصل اليها محمد اركون لإبراز أثر دخول الفلسفة على الثقافة النقلية التقليدية، وترابط لغتي البرهان والبيان في تشكيل خصوصية التفكير الفلسفي آنذاك، موظفاً مقاربته لنزعة الأنسنة الكلاسيكية عند مسكويه وسواه من الفلاسفة المسلمين لتطوير مسعى معاصر لتجديد فكر ينتمي إلى مشروع إنساني مستقبلي.بيد إن الفلسفة لم تكن الوطن الذي اختاره كامل شياع على الدوام بل الايديولوجيا وتالياً السياسة اي العراق بالمعنى المباشر الذي سحبه سحباً الى أحضانه في نهاية المطاف ضمن سيرورة طويلة نسبياً وتدريجية مع ذلك. وهكذا، فكلما ابتعد عن جامعة لوفان كلما ابتعد أكثر عن الفلسفة. لكن حبه للفلسفة، وللوفان أيضاً، ظل قوياً في الحالتين وحتى الرمق الأخير رغم خسارتهما المعركة نهائياً وتحولهما إلى مجرد ذكرى.

شارك الخبر على