رهانات وليد جنبلاط فاشلة وليس العهد فاشل (بقلم جورج عبيد)

ما يقرب من ٦ سنوات فى تيار

إصرار وليد جنبلاط على نعت العهد أو بعض من العهد بالضعيف، في قصر بعبدا، وإن جاء ردًّا على سؤال استفزازيّ من مراسلة تلفزيونيّة تحبّ بثّ الشغب والانشقاق في أسئلتها، لم يكن موفّقًا ولا موضوعيًّا، بل مستهجن عند عدد كبير من اللبنانيين الذين سمعوه، إذ هو نابع ممّا يحمله في نفسه من قراءة خاصّة به، مليئة ببعض الرهانات ومعطوبة بخسائر ما كانت متوقّعة في فلسفته السياسيّة، وفي قبضه على الناصية السياسية لبعض من جبل لبنان.
وبرأي متابعين لموقف جنبلاط، فإنه جاء من فلسفة سياسية عزّز بها منطق الخصوصيّات القابضة والمقبوض عليها في آن، القابضة بآحادية مطلقة والمقبوض عليها من زعيم ماهى بفلسفته وأدبياته ما بين انتمائه الطائفيّ واستهلاك مقولة الانتماء لللاستواء على عرش الطائفيّة بقوّة زعامته، وصهر الطائفة به من ضمن الشخصانيّة المعتمدة في الفولكلور اللبنانيّ، حتّى إذا استطاعت بلوغ الذروة بآفاقها الواسعة باستنادها إلى دعم عربيّ من هنا وإقليميّ من هناك، أستولدت الكيانات الطائفيّة الأخرى من رحمها، وأسرتها بموقفها وحصرتها في دائرتها وحاصرتها في تطلعاتها وحجبت عنها إمكانية البلوغ إلى حريتها والتعبير عن ذاتيتها.
 
حين كان جنبلاط يتكلّم على الخصوصيّة الدرزيّة في الجبل، كان يتكلّم على نظام أبطل قوّة التنوّع في المناطق التي سيطر عليها خلال حرب الجبل واستمرّ بالسيطرة عينها بعد نهاية الحرب وتطبيق اتفاق الطائف. لم يسيطر جنبلاط بقوّته الذاتيّة، بل سيطر حينذاك بقوّة الدعم السوريّ المعطاة له، وبقيت السيطرة على حالها وبلغت أوجها في مرحلة الوصاية السورية، وقد كان جنبلاط جزءًا من رؤيتهم السياسيّة الخاطئة تجاه لبنان. مشكلته الكبرى والمعقّدة أنّه كثير الرهانات، وجعل أنظومة حياة ومدى ترف لاستبقاء زعامته على طائفة كريمة فيها الكثير من البهاء الفكريّ والإنسانيّ، وكسر التنوّع الذي بإمكانه، أن يجعل من هذه الطائفة متحرّرة من تقوقعها القبليّ ومن نظام المعتقلات الطائفيّة، كما كان يقول المفكر حسن حمادة.
وفي سنة 2000 ظنّ وليد جنبلاط أن ثمّة رياحًا تغييريّة، تقتضي منه أن يعمل على إدراج ذاته في منطق السيادة فدعا الجيش السوريّ إلى الخروج من لبنان. وفي سنة 2004 انطلق الوليد في "نضال" على ضوء محاولة اغتيال مروان حماده ضد الوجود السوريّ في لبنان، وبعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في الرابع عشر من آذار من سنة 2005، انكبّ على اتهام نظام بشار الأسد بعملية الاعتيال، فكانت الذروة في خطابه في الرابع عشر، حيث وجّه كلمات لم يقلها مالك في الخمر بوجه بشار الأسد، وقد بشّر غير مرّة بأنّ دم رفيق الحريري حرّر لبنان من الجيش السوريّ. وعند بعضهم بدا التبشير ملتبسًا بحدود كبيرة وواسعة، وقد عظم التسآل أكثر من مرّة، كيف حرّر دم رفيق الحريري لبنان بحسب منطق جنبلاط، هل السوريون ينحرون أنفسهم بهذا الفعل، فيؤول الفعل إلى خروجهم من لبنان وإنهاء وجودهم فيه؟  ولا ينسى عدد كبير من اللبنانيين المواجهة الصاخبة والمحرجة له مع المحامي المصريّ ياسر الحسن خلال إدلائه بشهادته في المحكمة الدوليّة، حين ردّ على أسئلته المحرجة للغاية بأنّ اتهامه لبشار الأسد بقتل رفيق الحريري سياسيّ خالٍ من الأدلّة والبراهين، فما كان من المحامي سوى مواجهته بأنّ الاتهام السياسيّ المعطوف على الخطاب التجريضي يعتبر تهديدًا بالقتل، واعترف جنبلاط بعد ذلك، بأنّ سوريا تضررت من قتل الحريري. 
 
قبل ذلك خرج اللبنانيون بمختلف طوائفهم ومذاهبهم إلى ساحة الشهداء، وصرخوا صرخة لبنانيّة واحدة. لم ينتبه أحد بأنّ ثمة إرادة باستغلال هذا التدفّق الاستثنائيّ في التاريخ اللبنانيّ المعاصر والحديث بكثافته غير المتوقّعة، ليسكبه في خانة الانقلاب على بهاء هذا المشهد الفائق اللمعان وتفتيته في كسارات النظام الطائفيّ أو المعتقلات الطائفيّة بالعودة إلى تسمية حسن حمادة، وكان وليد جنبلاط أحد أبطال تلك المعتقلات. لم يكن ما حصل استغلالاً بل إنقلاب على حقيقة سطعت بظاهرة انفجرت، كادت أن تقود لبنان إلى نظام المواطنة بحسب ما اشتهى المغفور له الشهيد سمير قصير وكثيرون معه من أمثال جبران تويني وآخرين. وفي أيار من السنة عينها، حدث التحالف الرباعيّ، وجرت الانتخابات النيابيّة على أساسه، وخاض العماد عون العائد حديثًا من باريس المعركة الانتخابيّة بوجهه بسبب الجور الممارَس على المسيحيين باستبعادهم من أي تحالف، ليحوز على التمثيل المسيحيّ بنسبة 75%. لقد أجهض التحالف الرباعيّ الجامع ما بين تيار المستقبل وحركة أمل وحزب الله والحزب التقدميّ الاشتراكيّ، توق سمير قصير وكلّ من تلاقى في ساحة الشهداء، وأهدى فارس سعيد نصر الرابع عشر من آذار إلى "الزعيم الوطنيّ" وليد جنبلاط، وفي المعنى أهدى الفارس النصر لخصوصيّة استولدت في كنفها مسيحيي الجبل مثلما استولدت السنية السياسيّة والشيعية السياسيّة مسيحيين لبنان من رحمها وقزمتهم في كنفهما.  
قضيّة وليد جنبلاط مع ميشال عون ما قبل الرئاسة هي عينها خلال الرئاسة. وهي تنبع من إحساسه بأن هذا الرجل آت من بعد نفي طويل مورس عليه، لكي يعيد الاعتبار للحضور المسيحيّ، في لبنان وبخاصّة في الجبل، وبالتالي، وفي المشرق العربيّ. الفلسفة الميثاقيّة بعمقها واتساقها، لا تستقيم ولا تستقرّ ولا تترسّخ إلا بالتحرّر من كل استيلاد. ليست المسألة محصورة بالعلاقة مع الدروز أو وليد جنبلاط، بل مع كلّ المكونات اللبنانيّة، بحقوقها استتباعًا لوجودها واستنادًا لدورها التكوينيّ. فقبل الحرب اللبنانيّة، تألف الجبل من توازن مسيحيّ-درزيّ. احترم المسيحيون الخصوصيّة وتعاملوا معها على هذا الأساس من منطلق علاقة كميل شمعون بكمال جنبلاط، على الرغم من بعض الشوائب والنوائب، وعلاقة حزب الكتائب بالأمير مجيد أرسلان. طوال ذلك التاريخ رأى المسيحيون أن الإخوة الموحّدين الدروز شركاء حقيقيين في التكوين اللبنانيّ. كل قضيّة ميشال عون في الأصل أنه يريد إعادة الاعتبار للتكوين المشترك بين كلّ اللبنانيين وليس فقط بين المسيحيين والدروز، ووليد جنبلاط استلذّ غير مرّة استضعاف المسيحيين في الجبل والتعاطي معهم كأجراء وليس كشركاء. وفي المسائل الاستراتيجيّة ليس من تماهي بين العهد وسيده وجنبلاط، لا سيّما في مسألة العلاقة اللبنانية-السوريّة، ومسألة إعادة النازحين إلى سوريا، وقد أظهر غير مرّة بأنّه رافض لعودتهم قبل أن يستتبّ الأمن، واتهم العهد والدولة بأنهما يريدان التضحية بهم على مذبح بشار الأسد.
 
 
قضيّة وليد جنبلاط، تتبلور بإدمانه ثقافة الرهانات الفاشلة، وفي الوقت عينه ثقافة الانتظار على كعب النهر كما قال الدكتور وسيم بزّي في حديث تلفزيونيّ أخير. ومشكلته أنه يريد جرّ لبنان أو يحاول جرّه نحو تلك العبثيّة الحالكة، يختبأ في سجن خياله ولا يقبل ضوءًا جديدًا يتساقط عليه بفعل ما يرى من تطورات. يراهن تكسبيًّا على دور سعوديّ يموضع نفسه في جوفه، فيما الدور أمام الأبعاد الاستراتيجية الكبرى قد يبدو هشًّا، وقد اعترف محمد بن سلمان بأن الأسد باق باق. يظنّ بأنّ العهد سينأى به خارجًا، والعهد ضنين به كما هو ضنين بكلّ اللبنانيين، يظنّ بأنّ التيار الوطنيّ الحرّ يريد أن يظلّ المتحكّم الأول في الخيارات السياسيّة فيما هو يدعو الجميع للمشاركة. يريد أن يحول صراعه مع طلال أرسلان إلى صراع مع الجميع فيما الجميع لا يناقشونه بشيء. وقد فهم من الرئيس بأنّ حصته الوزارية محفوظة من ضمن الحجم التمثيليّ، وفي الوقت نفسه سيكون للأمير طلال أرسلان مقعد في الحكومة.
 
وليد جنبلاط يفتعل قضيّة في الأصل غير موجودة، ويتهم العهد بالفشل وفي القصر يقول بعض العهد، فاين مكامن الفشل؟ أليس تحرير سلسلة جبل لبنان الشرقيّة نصرًا للعهد ولبنان، ألم يكن وليد جنبلاط سببًا من أسباب محاولة إفشال العهد بتحالفه مع الذين حاولوا إجهاض إنجازاته باتهامه بالفساد؟ ويقول بعضهم له، من بيته من زجاج لا يراشق سواه بالحجارة.
 
وتنصح أوساط عديدة بأن يخرج وليد جنبلاط إلى المرحلة الجديدة ويتعاطى معها بمرونة واعتراف بأن سواه موجود كما هو موجود والشراكة مع الجميع مصدر انبعاث وجدة حياة.

شارك الخبر على