انهيار حائط الروح

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

الى محمد خضير ولؤي حمزة عباس
طالب عبد العزيز
أن تصبحَ الاغنيةُ والقصيدةُ والصورةُ ملاذاً نهائياً، ذلك مما لم أدركه بعد، ولأنني ابن ماء ونخل وأشرعة، فقد بت أستعين ببعضها، وحيداً أو قرب نخلة محترقة، في غرفة مضاءة بالنيون أو في كوخ قرب موقد، هنالك أغانٍ تتحدث عن النساء اللواتي يرتدين الأحمر واللائي لم تصل مراكب أزواجهن بعد، أو إنها غرقت في لجة من الليل، أجدني قريباً من زنجي، هو بقيا مما ترك علي ابن محمد، من جيشه بجيكور، ذاك الذي ظلَّ موغلاً في الغابة حتى ساعة هلاكه، في حادث سير على الطريق، التي ظلت تتلوى الى أبي الخصيب. مات الزنجي وهو يمسك بقرن فيله، الذي أتى به أسلافُه من زنجبار، وظلت صورة المركب، الذي قيدوا أجداده فيه ماثلة على جدار منزلهم الى اليوم، هناك بين أفراد الاسرة من يفكر، يقفل عائداً، فالغابة مكان لم يغادره بعضهم بسهولة. في الفجر، الذي تفرده الشمس على النخل كل يوم، ينهض النجّارون، خفافاً، ينشرون ثيابهم على حبلٍ ممسودٍ من قنّب وليف، وعلى الجسر الذي يفصل نهر خوز عن أبي مغيرة يسألون بعضهم عن مواعيد المدِّ والجّزر. لا يستطيع أحدٌ أن يدون موعداً محدداً للماء، وفي استراحة ما قبل الظهيرة، حين يهدّهم التعب يلقون مطارقهم ويأخذون الخشب درابك ينقرون عليها، كلَّ يوم بنقر وطور جديد، للنخل نقر وللماء نقر ولرفع براميل الزيت عن الأرض نقر وطور، وهكذا. لا يكمل بناء المركب على محاملهم الخشب إلا بعد أن يتمّوا نقرهم، ولطالما اهتدى النجارون الجدد الى نقر مفارق، ففي الألم والغربة والفراق جحورٌ لما يهتد اليها أحدٌ بعد. ومنذ أن سيّر أهل زنجبار في شط العرب أول مركب لهم كانوا لا يستسيغون لغيرهم نقراً. كان صبري أفندي أميناً على صندوق مال البصرة، فهو الذي أودع حامد البازي(المؤرخ) بعض أوراقه. يقول البازيّ بانَّ الكتبةَ والحفّاظ والمتذكرين بخلوا عليه بما في قراطيسهم وألسنتهم من تاريخ البصرة، ولأنَّ قواهر الأزمنة لم تترك لنا شيئاً مما مكث طويلاً في سككها، فقد نصحنا محمد خضير بان نلجأ الى الصور، يقول: هي كفايتنا مما خسرناه. لم يسمّها خسارة، إنما هي المآل التقليدي لكل حقيقية فيزيائية، تختفي الشجرة فنعلق صورتها على الحائط، و نردم الأنهار فنستعين بما في البومات صورنا منها، وهكذا سنجدد آلية التدوين والحفظ، نجمع اوهامنا لتكون حقيقة. ليس محمد خضير وحده من دعانا لذلك، كان لؤي حمزة عباس، بعزمه الذي لا يلين، قد دعانا الى مقارعة الراهن بقوة اليأس، فهو حلمنا وضالتنا في التغيير. أقفُ عند حائط وحيد ببيت أبي، بناه بالطين وسقّفه بالجذوع، نهاية القرن قبل الماضي جدّنا الأول عبد العزيز، هو بقيا من دارة كبيرة، كان كوّفها بالطين سنوات سبع وبالعسف سنة واحدة، قبل أن يتوقف زورق الخشب في شريعة العجم، ويحمل ابي الطابوق منه، ليجدد البناء بما فيه النخلة والسدرة وشجيرة الرازقي، ثم ليلبي حاجة البيت من الابقار والدجاج والبلابل، ولأنه مولع بأكل اللحم مقلوبا بالرز فقد اكثر من صحون الخزف الصيني. حتى، أمس القريب، كنت أبصر صور الملك الأول والثاني والزعيم وفريق كرة الطائرة، صور زنوج وقفوا برماحهم، عند بوابات البيوت، صور أشجار تثمر حيثما قلبت الصحون، صور نجارين بمطارق من ذهب. الآن، اتلمس طريقي الى الخزانة، حيث تقبع مئات القطع من الصحون تلك.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على