عودوا إلى الطاقة النووية

ما يقرب من ٦ سنوات فى الشبيبة

ويد أليسونفي مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في باريس، بدا قادة العالم أخيراً وكأنهم يدركون حقيقة تغير المناخ. لكن الاستجابة التي يلاحقونها معيبة بشكل جوهري، وذلك نظرا لاعتمادها على «مصادر الطاقة المتجددة» ــ مثل الطاقة الشمسية، والطاقة المائية، وطاقة الرياح، فضلا عن الوقود الحيوي ــ التي تلحق الضرر بالطبيعة في حقيقة الأمر. من عجيب المفارقات أن أفضل رهان للعالَم لتحقيق أهداف اتفاقية باريس هو الاعتماد على مصدر الطاقة الذي يوصم غالبا بصفات شيطانية: الطاقة النووية.الواقع أن طاقة المياه والرياح والطاقة الشمسية من غير الممكن أن توفر القدر الذي يمكن التعويل عليه من الطاقة على النطاق المطلوب لاقتصاد حديث. من المعروف أن كيلوجراما واحدا من الماء خلف سد بارتفاع مائة متر يزودنا بما لا يتجاوز 1/‏3600 كيلوواط ساعة من الطاقة. وعلى النقيض من هذا، يزودنا كيلوجرام واحد من الفحم بحوالي 7 كيلوواط ساعة من الطاقة ــ نحو 20 ألف ضعف.وبالتالي، يجب أن يكون مخطط الطاقة الكهرومائية هائلا لتوليد نفس مقدار الطاقة التي يولدها المعادل الذي يعمل بإحراق الفحم، مما يعني ضمنا تكاليف بيئية وبشرية عالية. فلبناء أكبر مشروع للطاقة الكهرومائية على الإطلاق ــ خزان الخوانق الثلاثة على نهر يانجتسي، والذي يمتد بطول 600 كيلومتر ــ أعيد توطين 1.3 مليون شخص، لأن المياه غمرت 13 مدينة، و140 بلدة، و1350 قرية.وكثافة الطاقة التي تولدها الرياح مماثلة. فحتى برغم توربيناتها الضخمة المزعجة، تنتج مزارع الرياح البحرية في الذروة ما لا يتجاوز تسعة ميجاواط لكل كيلومتر مربع. وتتطلب مضاهاة محطة تنتج واحد جيجاواط بإحراق الفحم استخدام عِدة مئات من التوربينات. ويصدق الأمر نفسه على مزارع الطاقة الشمسية: فلكي تتمكن من المنافسة، يجب أن تكون بالغة الضخامة، فتغطي مساحات شاسعة من التلال والمروج.ومع ذلك، حتى إذا جرى تركيب هذه الهياكل الضخمة الضارة بيئيا، فإنها لن تكون قادرة على إنتاج القدر الكافي من الطاقة على نحو يمكن التعويل عليه. وغالبا تفشل المقالات التي تروج لتوليد أقصى قدر من طاقة الرياح والطاقة الشمسية في ذِكر حقيقة مفادها أنها لفترات ربما تدوم عدة أيام في بعض الأحيان قد لا تقدم إلا القليل أو لا شيء من الطاقة. وإذا كان بوسعنا تخزين الطاقة الزائدة بكفاءة، فربما يمكننا تغطية الفترات العجاف؛ لكن التحسن الطارئ على تكنولوجيا البطاريات محدود بفِعل قوانين الكيمياء.وقد جرى تفنيد ادعاء ظهر مؤخرا بأن مصادر الطاقة المتجددة وحدها قادرة على توفير كل احتياجات الولايات المتحدة من الطاقة. فلتجنب انقطاع التيار الكهربائي، لابد من بناء مصادر طاقة احتياطية يمكن التعويل عليها بالكامل، والإبقاء عليها في حالة الاستعداد دائما بتكلفة تضاف إلى تكلفة مصادر الطاقة المتجددة المتقلبة.يزعم بعض الخبراء أن الإجابة تكمن في الوقود الحيوي، مثل الإيثانول والديزل الحيوي، والذي يستفيد من إعانات الدعم في بعض الأماكن. ولكن بين خيارات الطاقة المتجددة، يخلف الوقود الحيوي الأثر البيئي الأعظم على الإطلاق، لأنه يتطلب تخصيص مساحات ضخمة من الأراضي الزراعية والغابات، لكنه يفشل رغم ذلك في الاحتفاظ بثاني أكسيد الكربون الذي تحتجزه الطبيعة بكفاءة.تُعَد الطاقة النووية مصدر الطاقة الوحيد الخالي من الكربون والذي لا ينطوي على هذه الجوانب البيئية السلبية. الواقع أن الوقود النووي يحتوي على ما يعادل مائة ألف ضعف من كثافة الطاقة في الفحم، ولهذا فإن محطة نووية تنتج واحد جيجا وات تحتاج إلى 15 هكتارا من الأرض فقط. ومن الممكن أن تمتزج وحدات أصغر لتوليد الطاقة النووية بشكل غير ظاهر في المشهد العام. وعلاوة على ذلك، تنتشر الخامات النووية على نطاق واسع جغرافيا، والوقود سهل النقل والتخزين. ومحطة الطاقة النووية ــ التي يمكن أن تعمل لمدة ستين عاما ــ أكثر قدرة على الصمود في ظروف الطقس القاسية مقارنة بمزارع الرياح أو الطاقة الشمسية.وعلى الرغم من هذه المزايا، ترفض الدول في مختلف أنحاء العالَم الاستثمار في محطات نووية جديدة، بل إنها تغلق تلك القائمة بالفعل. ويكمن السبب في الافتقار إلى فهم الكيفية التي نتعرض بها للإشعاع الناتج عن العمليات النووية ــ وهي جزء لا يتجزأ من الطبيعة ــ كل يوم.على مدى ثلاثة مليارات عام، تطورت الحياة دون أن تتأثر سلبا بالإشعاع الطبيعي من الصخور والفضاء. وقبل قرن واحد من الزمن، حصلت ماري كوري على اثنتين من جوائز نوبل لأنها فسرت العمليات الفيزيائية والكيميائية للفيزياء النووية والإشعاع، قبل أن تحمل لواء الريادة في استخدام جرعات عالية من الإشعاع لعلاج السرطان.ولكن برغم أن الجميع تقريبا لديهم قريب أو صديق استفاد من العلاج الإشعاعي، فإن المواقف العامة إزاء الطاقة النووية والإشعاع لم تتعاف قط من صدمة القنابل النووية التي أسقطت على هيروشيما وناجازاكي في العام 1945. لكن تأثيرات الإشعاع الطويلة الأجل التي أطلقتها هذه القنابل كانت موضع مبالغة شديدة.صحيح أن نحو 200 ألف شخص ماتوا نتيجة للتفجيرات وتأثيراتها المباشرة، لكن هذا كان في الأساس بسبب الانفجار والعاصفة النارية التي نتجت عنه. ولم يمت بالسرطان إلا قِلة. بل إن السجلات الطبية للناجين تشير إلى وفيات إضافية بالسرطان تتراوح بين 550 إلى 850 حالة فقط على مدار خمسين عاما.لم يكن من المفيد خلال الحرب الباردة أن يستغل الساسة ووسائل الإعلام الخوف من الإشعاع. وجرى استنان قوانين سلامة صارمة في خمسينيات القرن العشرين، ليس لأن الأدلة كانت تتطلب ذلك، بل لاسترضاء الجمهور القلق الذي تفاقمت مخاوفه بسبب سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.في عام 1986، بدا الأمر وكأن الحادث النووي في تشرنوبيل يؤكد هذه المخاوف، برغم أن عدد الموتى بسبب الإشعاع في ذلك الحدث كان 43 شخصا فقط. على نحو مماثل، وبرغم أن أحدا لم يمت بسبب الإشعاع الناتج عن حادث محطة دابيشي في فوكوشيما في اليابان في العام 2011، فإن ذلك الحدث اعتُبِر على نطاق واسع دليلا على أن دول العالَم ينبغي لها أن تتخلى عن الطاقة النووية. كان الأثر السلبي المتخلف عن حادثة فوكوشيما ــ بما في ذلك 1600 وفاة وأضرار اقتصادية وبيئية حادة ــ ناجما عن إجراءات التنظيم والإخلاء السيئة. وكان سبب الحادث في المقام الأول الجيولوجيا، وليس السعي وراء الطاقة النووية.يتعين على العالَم أن يتخطى رهاب الإشعاع وأن يتقبل ضوابط تنظيمية أكثر استرخاء وقائمة على الأدلة لمرافق توليد الطاقة النووية. (إن الامتثال للضوابط التنظيمية المفرطة هو الذي يجعل الطاقة النووية مكلفة بوضوح). والمطلوب في المقام الأول هو الإرادة السياسية لتحدي الوضع الراهن، باسم خيارات ذكية وأكثر تطلعا إلى المستقبل في إدارة السياسات، فضلا عن تثقيف عامة الناس بشكل أفضل (بدءا بأطفال المدارس وزيادة الاستثمار في التعليم).قد لا تكون الطاقة النووية شائعة اليوم، ولكن لابد أن تكون كذلك في الغد القريب. فهي أفضل اختيار لمستقبلنا الجمعي. وينبغي لنا أن نحتضنها.أستاذ الفيزياء الفخري، وزميلكيبل كوليدج في جامعة أكسفورد

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على