كتب ملعونة..انذر حياتك للحقيقة، فإن عالماً جديداً يبدأ

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

ثلاثية الجنس.. الدين .. السياسة
 علــي حســين
|   3   |
في منتصف ليلة من ليالي  شهر حزيران من عام  1762 حاصرت قوة من الشرطة قصر إحدى الأميرات، التي سارعت الى إيقاظ ضيفها تطلب منه الرحيل من الباب الخلفي، قبل أن تدهم القوة العسكرية القصر، فخرج متخفياً بلباس أحد الطهاة، كان البرلمان الفرنسي قد أصدر مرسوماً بتاريخ 9 حزيران عام 1762 بالقبض على جان جاك روسو بتهمة الإلحاد وتخريب عقول الفرنسيين، وفي الحادي عشر من حزيران صدر قرار باحراق كتاب روسو"أميل أو التربية"أمام بناية العدل في باريس،وبعد أيام قررت مدينة جنيف السويسرية إحراق الكتاب نفسه ومطاردة مؤلفه،
ولم ينته الأمر عند هذا الحد، ففي الثامن والعشرين من حزيران عام 1762 نشر رئيس أساقفة باريس بياناً يبين فيه الى العامة من الناس خطورة هذا الرجل وضرورة حرقه مع كتبه، فقرر سكان مدينة مونبليه أن يحاصروا البيت الذي يسكنه هذا المارق، ليرموه بالحجارة، فهرب متخفياً الى جزيرة سان بيير، وهناك طاردته لعنة كتابه"أميل"حيث صدر بعد شهرين قرار بطرده، يتوجه بعدها الى ستراسبورغ  ليمكث فيها أشهراً قليلة  انتهى فيها من كتابه الشهير"في العقد الاجتماعي"الذي رأى فيه إن الحرية والمساواة هما معاً المبدآن الجديران بأن يكونا أهم مكونات أي نظام سياسي، وفي العقد الاجتماعي يؤكد روسو إن الدولة يمكن أن تكون أداة للحرية إذا كانت لرعاياها جميعاً السيادة نفسها، لأنه حينئذ يمكن القول بأن الناس يحكمون أنفسهم حقاً، ولاحظ روسو إنه فقط عندما يشارك كل المواطنين في العملية التشريعية، يستطيعون معاً منع استخدام السلطة التي قد يسعى البعض إلى استغلالها، وقد أثار الفصل الأخير من العقد الاجتماعي الذي تناول الدين، حفيظة الكنيسة ضده، ذلك أن إدانته للمسيحية التي وصفها بانها تناسب الحكومات المستبدة، جعل حياته في خطر، فاضطر بعد الإنتهاء من الكتاب أن يغادر الى انكلترا، فقد كانت عيون السلطات تطارده ولم يستطع أن يعيش في سلام، فقبل دعوة صديقة الفيلسوف الانكليزي  دافيد هيوم، لقضاء بعض الوقت عنده، وهناك يتفرغ لكتابة مذكراته"اعترافات".لم يسجل تاريخ الفكر الانساني حياة أكثر غرابة وتناقضاً من حياة جان جاك روسو الذي ترك لنا سيرة حياة مليئة بالأحزان والمآسي، والهزيمة والانتصار، وقد قدر لهذه الحياة أن تترك انطباعات عميقة على نموه الفكري والثقافي.ولد جان جاك روسو في الثامن والعشرين من حزيران  عام 1713  في جنيف من أبوين فقيرين، فَقد أمّه بعد  ولادته. يكتب في اعترافاته:"ولدت سقيماً عليلاً، وقد كلفت أمي حياتها، فكانت ولادتي فاتحة مصائبي وشقائي". كان والده يعمل في النهار مُصلحاً للساعات وفي الليل معلماً للرقص، تخلى عن ابنه روسو عندما كان في الثامنة من عمره وتركه في بيت خاله الذي حاول أن يُدخِله ديراً ليصبح كاهناً، لم تمضِ أيامه في الدير هادئة، فقد اتهم بسرقة إحدى السيدات، ليطرد من الدير، ويعود الى خاله الذي سيرسله، هذه المرة، للعمل عند أحد الكتَبة العموميين، فيطرده بعد يومين، فيذهب به خاله إلى صاحب ورشة شديد القسوة غليظ القلب، ما دفع روسو إلى تعلم الغش والكذب والسرقة، إلى درجة إنه بدأ يتمرد، ويخرج مع أصدقائه إلى خارج المدينة للبحث عن الحرية، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، فيشبعه صاحب الورشة ضرباً.كان التشرد والحرمان واليُتم طابع حياة روسو، ما عمق أحاسيسه، وجعله يشعر بالظلم :"لقد علمتني ذكرى التبدل الذي أصابني في حياتي، الفرق بين تبعية الابن للأسرة وبين الخضوع الذليل للآخرين".إلا أن لحظات من السعادة كان يشعر بها، وهو يتفرغ لقراءة الكتب التي كانت تحتفظ بها أمه، ففي السابعة من عمره حاول والده أن يمرنه على المطالعة، فكان يطلب منه أن يقرأ بصوت عالٍ قصصاً كانت والدته قد قرأتها، يكتب في الاعترافات :"والدي يقول لي بخجل، وقد سمع أصوات السنونو تحيي الصباح : لنذهب الآن الى النوم، إني طفل أكثر منك"، وحينما انتهيا من قراءة جميع القصص الموجودة في البيت، أخذ يقرأ ما بمكتبة جده حيث عثر على كتاب مسخ الكائنات لأوفيد، وبعض مسرحيات مولير، إلا أن الكتب التي سحرته كانت مؤلفات المؤرخ بلوتارك :"عندما كنت في السادسة من عمري وقع في يدي بلوتارك، فحفظته عن ظهر قلبي، وكنت قد قرأت كل رواية فيه فكبدني ذلك ذرف سيل من دموعي قبل أن أبلغ السن التي يُقبل فيها القلب على مثل هذه الكتب، ونشأ فيّ تذوق لظواهر البطولة ونزوات العاطفة وأخذ ينمو ويشتد منذ ذلك الحين، حتى أدى بي في النهاية الى النفور من كل شيء لا يلائم تخيلاتي"، إن الطفل روسو الذي فقد أمّه، وهجره أبوه، وجد لنفسه ملاذاً من الحياة في الكتب :"وجدت نفسي أقدر على التعامل مع الكائنات الخيالية التي أحاطتني بها الكتب، من التعامل مع أولئك الذين أراهم في العالم"..عاش جان جاك روسو 65 عاماً، وصفها رومان رولان في كتابه"اراء روسو الحية"بالشعور بالغربة عن العالم :"كان يرى نفسه غريباً بين الناس وإنه لم يكن يشعر بأنه  على ما يرام في قلب  الأسرة الانسانية، ولم يكن يرى أقرانه  مخلوقين على شاكلته، لذلك كان في وسعه أن يفهم معنى الشعور بالغربة والضياع الذي يحس به إنسان غريب آخر في المجتمع هو الطفل". والغريب إن الحياة تصالحه بعد سنوات من العداء والقطيعة، فيبتسم له الحظ  خلال الشهور الأخيرة من حياته، حيث استقر به المقام عام 1778 في الريف الفرنسي، فالرجل التعس الذي ظن أن الحياة ستنتصر عليه، لم يعلم إنه قد قهر الحاضر والمستقبل، ففي السنوات الأخيرة من حياته  ظهرت ست طبعات من مجموعة مؤلفاته  وعشر طبعات من روايته"هيلويز الجديدة"، وفي سنة 1871 نشر الجزء الأول من"الاعترافات"، الا ان هذه السعادة لم تدم طويلا  ففي صباح الخميس، الثاني من تموز عام 1778، خرج كعادته لجمع النباتات، لكنه شعر بضيق في صدره فسقط على الأرض، فأصيب بجرح في رأسه وليموت بعدها بساعات، وقد شخص الأطباء حالته بأنها انفجار في شرايين المخ. وبعد وفاته زار قبره الملايين من الفرنسيين بينهم الملكة وجميع الأمراء، ووجد قادة الثورة الفرنسية في كتبه دليلا للحكم وفي إحدى الخطب الثورية يعلن روبسبير :"هذه الثورة كان رائدها شخص واحد اسمه جان جاك روسو، وستظل مدينة له مدى الحياة".******إنني أبحث عن إنسانعندما وصف أرسطو العمل الفلسفي بأنه أفضل أشكال المعارضة، فلربما كان يفكر بما حصل لسقراط، وبالظروف الصعبة التي رافقت حياة أفلاطون الذي ينتسب لأسرة ارستقراطية وكان رجلاً غنياً، هوايته شراء النصوص الفلسفية النادرة، حتى إنه كان يدفع أموالاً طائلة، وهو الأمر الذي أثار عليه نقمة السلطات التي وجدت في هذه الهواية خطراً، لأن أصحابها يحاولون الحفاظ على كتب ممنوعة خربت عقول الشباب.كان أرسطو نفسه يمتلك مخطوطات نادرة، لكن تجميع هذه الكتب يعد فقط المظهر الخارجي للعمل الفلسفي. فالفلاسفة اعتبروا منذ البداية"محرضوا أفكار"، حتى القراءة هذا النشاط القديم للفلاسفة، اعتبرته السلطات لوناً من ألوان التحريض. أي إعادة ترتيب أفكار الناس، وبسبب هذا النشاط سقط الكثير من الفلاسفة، فطُردوا أو نفوا أو تم اعدامهم بسبب الإتهام بالزندقة. يكتب هيغل إن الفلسفة منذ بداياتها كانت شكلاً من أشكال الاستفزاز، فسقراط مثلا كان بمثابة استفزاز علني للجميع، السلطة والمجتمع ورجال الدين، وحين اتهم بالتجديف وحكم عليه لم يدافع عن نفسه متذللاً، ولكنه اتهم المحكمة بعدم الكفاءة، واستطاع تلميذه ديوجين أن يحول الفلسفة السقراطية الى بيان أحتجاجي، لم يكن لديوجين بيت، وإنما كان ينام كيفما اتفق، مرة هنا وأخرى هناك، وتقول الروايات إنه عاش فترة طويلة في برميل، ويقال إنه  كان يمسك في يده"فانوس"ويخرج به في ضوء النهار، وعندما يسأله المارة  وهم يضحكون ويسخرون: عن أي شيء تبحث؟كان جوابه: إنني أبحث عن إنسان!ولد ديوجين الكلبي  سنة 413 قبل الميلاد، في مدينة سينوب التركية،  وعندما سُئل لماذا يحب تسميته كلباً، أجاب:"، فأنا أصرخ على أولئك الذين يخافون، وأضع أسناني في الأوغاد". يعتقد ديوجين إن البشر يعيشون بشكل مصطنع ومنافٍ للطبيعة  بينما الكلب  يعيش في الحاضر دون قلق، وأن الكلاب تعرف غريزيًّا من هو الصديق ومن هو العدو، على عكس البشر الذين يخدعون الآخرين أو يُخدعون، إن :"الكلاب تعض أعداءها، أما أنا فأقوم بلدغ الناس لإنقاذهم من أوهامهم".كان يؤمن أن الحكمة لاتتحقق إلا بالحرية.. كان جريء الفكر، مستقل الرأي، ساخراً من المجتمع، مزدرياً للثروات والمناصب، منادياً بالحياة الطبيعة.. حافي القدمين، لايضع على جسده سوى معطف قديم، وقد اختار أن يسكن في برميل، ويقال إنه شاهد يوماً طفل يشرب الماء من راحة يده، فكسر إنائه وقال :"هذا الطفل يعلمني إنني لازلت احتفظ بما يفيض من حاجتي".. يؤمن أن السعادة تكمن في إشباع الحاجات الأساسية فقط، وفي ضبط النفس لكيلا ترغب في المزيد، ونبذ ما وراء ذلك مثل المال والرفاهية والحياة الأسرية التقليدية، لأنها  لاتجعل الإنسان أفضل من الناحية الأخلاقية، كما كان يصر على  نبذ زخارف الحضارة المقيدة لحرية الإنسان، أما المجتمع المثالي بنظر ديوجين فهو المجتمع الحر،  وإما هدف الفيلسوف في الحياة،هو أن يصدم الناس، لقد أيقن ديوجين أن التفكير الفلسفي يؤدي الى الحياة الصالحة، وقد كانت معظم أفكاره الفلسفية ذات طابع يؤمن بالفردية، وإن الانسان يجب عليه أن يتبع ضميره وليس ما تمليه عليه القوانين، حينما يتعارض ما تفرضه قوانين المدينة مع العدل وتتحدث بعض كتب تاريخ الفلسفة عن أن الإسكندر الاكبر وهو يتجه صوب الشرق في واحدة من غزواته، مر بأثينا،فأثار إنتباهه ديوجين القابع في برميله، إقترب منه، فسأله عما يبحث، فقال ديوجين للإسكندر:"أنا أبحث عن عظام أبيك لكني لا أستطيع التمييز بينها وبين عظام العبيد"ثم سأله الإسكندر: هل تعيش في هذا البرميل فقط لكي تلفت انتباه الناس وإعجابهم بك؟ قال ديوجين: وهل فعلا تريد أنت فتح بلاد فارس وتوحيد كل بلاد الإغريق.. أم تفعل ذلك فقط لتنال الإعجاب؟! أعجب الإسكندر.. بكلام ديوجين، ثم أخبره أن يطلب منه ما يشاء ليلبيه له.. فأجابه ديوجين بهدوء: أريد منك شيئاً واحداً.. إنك الآن تقف أمامي وتحجب عني أشعة الشمس.. لذا لا تحرمني من الشيء الوحيد الذي لا تستطيع منحي إياه.. لا تحجب شمسي بظلك!.كان ديوجين يشعر بأن المهمة الملقاة على عاتقه هي أن يتجول عبر العالم بوصفه"طبيب النفوس"، مستبعداً المعايير الزائفة من التداول عن نقده الشديد لها، ومبدداً أوهام الناس ومعلماً إياهم طريق الفضيلة والحرية والحقيقة.هناك روايات متضاربة عن موت ديوجين. ويزعم بعض مؤرخي الفلسفة أن ديوجين وهو يحتضر  سُئل عن الكيفية التي يرغب بها لدفنه بعد موته  أجاب أن يترك خارج أسوار أثينا حتى تتغذى الحيوانات البرية على جسده. وعندما سُئل هل يدرك فظاعة  ما يقول، قال:"لا على الإطلاق، طالما أنكم  ستزودنني بعصا لمطاردة الحيوانات التي تريد أن تنهش جسدي!"فسخر منه الحاضرون وهم يقولون كيف لك استخدام العصا وأنت ميت؟ أجاب:"إذا كنت لا أستطيع استخدام العصا، فلماذا يجب أن أهتم بما يحدث لي بعد موتي؟"******مؤدب الجنس البشري“ولد الإنسان حراً، وهو يرسف في الأغلال في كل مكان، فكيف حصل هذا التغير؟ أني أجهل ذلك. ما الذي يمكن أن يجعله شرعياً؟ أعتقد أنني أستطيع أن أجيب على هذا السؤال".هذه الأسطر المشهورة التي يستهل بها جان جاك روسو كتابه"في العقد الاجتماعي والذي يعد واحداً من أهم الكتب التي السياسية التي صدرت في تاريخ البشرية، وقد كان الكتاب ثمرة عشر سنوات تفرغ فيها روسو لدراسة الشرائع والقوانين التي تحكم البلدان، يكتب في اعترافاته :"إن من بين الكتب المختلفة التي كنت أشتغل في إعدادها، كتاباً كنت أفكر فيه منذ زمن طويل، وأشغل نفسي به في شغف كبير، وكنت أريد أن أقضي في إعداده كل حياتي، كما كنت اعتقد إنه سيتوج شهرتي، ذلك هو كتاب النظم السياسية، لقد راودتني فكرة ذلك الكتاب منذ ثلاثة عشر عاماً". كان روسو قد قرر تأليف كتاب ضخم عن النظم السياسية على غرار كتاب"روح القوانين"لمونتسكيو"يجمع فيه على جانب الدراسات النظرية والفلسفية، مشاهداته وملاحظاته عن نظم الحكم في البلدان التي زارها. غير أن روسو وجد نفسه عام 1761 أمام مشروع كبير قد لاتكفي سنوات حياته الباقية لتحقيقه، ففضل إخراج الجزء الذي كتبه من كتاب النظم السياسية تحت عنوان"في العقد الاجتماعي"عام 1762، :"ولما كنت قد عدلت عن إخراج هذا المؤلف، فقد صممت على اختيار ما يمكن فصله منه، وعلى حرق الأجزاء الباقية، ولما بدأت العمل في هذا الكتاب بنشاط، بدون أن أتوقف عن تأليف كتاب أميل في نفس الوقت، استطعت أن أنتهي من كتاب العقد الاجتماعي في مدة أقل من عامين".لقد كان تفكير روسو منشغلاً في البحث عن أسباب التحوّل في المجتمعات من حالة المساواة والحرية الطبيعية إلى حالة اللامساواة التي يعيشها الإنسان في المجتمع المدني :"أريد أن أبحث فيما إذا كان يمكن أن تكون في النظام المدني قاعدة ما للإرادة شرعية وأكيدة، وذلك بتناول البشر كما هم والقوانين كما يمكنها أن تكون".يؤكد روسو إن الالتزام الاجتماعي لايمكن أن يقوم على أساس القوة، فلا حق للأقوى :"أي حق هو هذا الحق الذي يزول بزوال القوة؟ إذا كان يجب على المرء أن يطيع بالقوة، فلا حاجة لأن يطيع بالواجب"ولا يقوم الواجب الاجتماعي على أساس سلطة الأب الطبيعية، ولا على سلطة لرئيس"طبيعي"مزعوم، مولود لكي يتولى القيادة. فهذه إطروحات نزعة الحاكم المطلق،إن الأساس الشرعي للإلتزام كما يصوره روسو موجود في الاتفاق المعقود بين أعضاء المجتمع.وهو أشبه بالميثاق الاجتماعي الذي لايمكن أن يكون شرعياً إلا إذا كان قائماً على رضى الجميع. وصيغة هذا الميثاق يحددها روسو بالعبارة التالية :"كل واحد منا يضع مع غيره، شخصه وكل قوته تحت القيادة العليا للإدارة العامة، ونلتقي كهيئة. كل عضو كجزء لاينفصل عن الكل".. وهذا يعني إن كل فرد في المجتمع يتخلى كلياً ودون تحفظ عن كل حقوقه للجماعة. كل واحد يلتزم حيال الجميع، وإذ يعطي كل واحد نفسه للجميع، فإنه لايعطيها لأحد. وكل واحد يكتسب حقاً مسوباً لحق الآخر. فكل فرد يربح معادل ما يخسر. وهكذا نرى أن الالتزام كما يراه روسو يستمد وجوده من أن كل فرد يكون مرتبطاً بالمجموع، لكن دون أن يكون راضخاً لأحد، ومن أن كل واحد، يتواجد مع الجميع، ولايرضخ، مع ذلك إلا لنفسه، ويظل حراً كما كان من قبل"، والواقع إن الشرط الأساس في العقد الاجتماعي هو، الشرط نفسه بالنسبة للجميع.فكل المواطنين يلتزمون بالشروط نفسها ويجب أن يتمتعوا بالحقوق نفسها. وبالتالي فأن  الحاكم لايحق له أبداً أن يحمل أحد الرعايا أكثر من غيره :"إن الدولة بالنسبة إلى أعضائها، هي سيدة على كل ممتلكاتهم بالعقد الاجتماعي، الذي يستخدم في الدولة كقاعدة لكل الحقوق، ولكن الدولة لاتجرد الأفراد مع ذلك، من ممتلكاتهم، بل على النقيض تكفل لهم شرعية حيازتهم لها، الملكية الحقيقية : الملكية – الحق، التي حلت محل الملكية – الواقع في حالة الطبيعة".قد يظن البعض إنها نظرية خيالية، لكن روسو يرى أن العقد الاجتماعي في ذاته وبذاته مقدس، ولعل البعض يسأل كيف ينظر روسو الى الدين يكتب في الجزء الأخير من العقد الاجتماعي :"يجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة، قليلة العدد، مبنية بدقة، بلا شروح  ولا تعليقات. وجود الله القوي، العاقل، المنعم، الإيمان بقداسة العقد الاجتماعي والقوانين، هذه هي العقائد الايجابية، أما العقائد السلبية فإنني أحصرها في عقيدة واحدة، هي عدم التسامح، فهي تدخل في عداد العبادات التي حذفناها".هذه الكلمات ما إن ظهرت الى النور عام 1762 حتى اعتبر روسو خطراً على النظام الملكي الفرنسي، حيث اعتبرته السلطة والكنيسة مجرماً ومحرضاً على الفتنة بسبب إساءته للدين وتعديه على سلطة الملك.بعد أحد عشر عاماً على وفاة جان جاك روسو تندلع الثورة الفرنسية ويقف جميع قادتها  من برناس الى دانتون ومارا ومانون رولاند وروبسبير ليقرأوا مقتطفات من كتاب"في العقد الاجتماعي"على الجماهير التي زحفت على القصر الملكي، لقد أشاد الجميع بتعاليمه وقرروا أن يطلقوا عليه لقب"مؤدب الجنس البشري"وأقيم تمثال لجان جاك روسو وضع في قاعة الجمعية الوطنية. وفي ألمانيا يكتب إيمانويل كانط :"مر عليّ وقت كنت فيه أتصور مفاخراً بأن المعرفة هي فخر الإنسانية فأرمق الجهلة بكثير من الإزدراء. وكان روسو هو الذي أزال الغشاوة عن عيني، فتلاشى ذلك التيه الخادع وتعلمت أن أمجد الإنسان"، في مقابل هذا الإطراء نجد فيلسوفاً مثل برترند رسل  يصف  كتاب في العقد الإجتماعي بأنه"يخدم الديموقراطية من طرف اللسان".ويستشهد رسل بنابليون بونابرت الذي يقال إنه كان يقرأ كل مساء صفحات من كتاب"في العقد الاجتماعي"ويؤكد راسل إن نابليون استطاع أن يستفيد من أفكار روسو عن سيادة الشعب وعن الإرادة العامة، ليقيم حكومته المطلقة بعد أن حصل على تأييد الأمة له فكان استبداده علمياً. لقد أقام حكمه المطلق على أساس أن تلك هي إرادة الأمة وإنه اذا تكلم القانون وجب على الضمير أن يصمت، لأن القانون يعبر عن إرادة الأمة صاحبة السيادة.

شارك الخبر على