أزمة التأليف جوهرها ضمان عدم اتجاه لبنان نحو قيام علاقة موضوعية مع سوريا (جورج عبيد)

ما يقرب من ٦ سنوات فى تيار

لماذا يراد للبنان واللبنانيين انتظار المسارات الإقليميّة والخليجيّة والدوليّة وتقاطع مصالحها حتى تتألّف الحكومة اللبنانيّة؟ الإيغال في هذه المسألة الدقيقة عسير في بعض جوانبه ولكنه واضح في تكوين أسسه. ذلك أن لبنان غير معصوم عن الإملاءات والتأثيرات، ولمّا يزل قيد انسكابها بقوالب محدّدة وانسيابها بإيحاءات وإلهامات منزلة.
تشير أوساط كثيرة وجديّة، بأنّ رئيس الحكومة سعد الحريري يعمد على استنباط ما في جوهر الإشارات المشرقة خلف ضباب أزمة المنطقة ليس لتحديد وضعيّة التأليف بالأشخاص المدعوّين للمشاركة في الحكومة، بل لتحديد الرؤية الممكنة والمتاحة أمامه، ليتموضع فيما بعد ضمن دائرتها ويتمدّد في مساحتها مستفيدًا من انبلاجها في لحظة قد تعيد الاعتبار وإن بعض الشيء إلى وضعه ودوره.
ممّا لا شكّ فيه، وكما رأى المراقبون، بأنّ سعدًا هو الحلقة الأضعف في المدى السياسيّ اللبنانيّ، وفي الوقت عينه، إنّه الأضعف في لعبة خطيرة تتمدّد شيئًا فشيئًا نحو لبنان، وتستهلك موقعه كمحاولة لتطبيع الموقع بوظيفة اللعبة ومعانيها ومراميها. ليس سعد الحريري وحده في موقع الضعف، ولكنّ الكيانات الطائفيّة بمعظمها في لبنان تعيش أزمة وجود سياسيّ، ولن تجد لها حلاًّ سريعًا أو قريبًا وإن تمّ تأليف الحكومة حلال أسبوع أو شهر. القضيّة المحوريّة والجوهريّة، أن لبنان في وسط تراكم صراعات تستبدّ به وبالمنطقة بشكل عام، ولا يزال كما سوريا سواء بمنسوب أعلى أو خفيض ملعبًا لها، والصراعات هي التالية:
1-الحرب الباردة بين روسيا وأميركا، وتلك حرب لها إيجابياتها الكثيرة بأنّها لا تأسر العالم ضمن آحادية دولية تقرّر عنه بمنطق القوّة والفرض والرفض، بل تجعله ضمن ثنائيّة تفرز في جوفه تحالفات بين دول من هنا وأخرى من هناك فيعيش العالم منطق التنوّع. أما سلبياتها فهي في الصراعات الجانبية المتولدة منها أو التي تدور في فلكها، وترخي بظلالها وثقلها على الدول الصغرة ومنها لبنان.
2-الصراع الأميركيّ-الإيرانيّ، وهو صراع ممدود من الخليج إلى دول المشرق العربيّ. لقد خدم دونالد ترامب إسرائيل والسعودية بهذا الصراع مع إبطاله المعاهدة الدوليّة-الإيرانية من جانبه، ولا يخفى على أحد بأنّ لبنان في هذه المرحلة الدقيقة يعيش تداعيات الصراع في عناوين أساسيّة منها تأليف الحكومة ومنها أيضًا مسألة النازحين السوريين، ومنها استهداف حزب الله كمنظومة لبنانية عربيّة إسلاميّة، ووضعه على لائحة الإرهاب، إنطلاقًا من استهداف إيران أميركيًّا.
3-الصراع الإيرانيّ-السعوديّ، وقد اتخذ اليمن والبحرين والعراق وسوريا منصات له ويتخذ من أزمة التأليف الحكوميّ في لبنان مدى للتفاعل السلبيّ، علمًا بأن الاستقرار اللبنانيّ ولد من تفاهم أميركيّ-إيرانيّ بضرورة أن يبقى لبنان هادئًا ومستقرًّا، لكنّ السؤال المطروح هنا وثمّة، لماذا الانفجار في المحيط المشرقيّ والخليجيّ والاستقرار في لبنان، هل يصمد الاستقرار أمام لهيب الانفجار في المنطقة؟ ولعلّ ما يحدث في البقاع الشمالي بعض من هذا الصراع وقد ينذر بتمزّق التفاهم الحصريّ في لبنان، علمًا بأن الجيش اللبنانيّ بدأ بالانتشار في البقاع الشماليّ.
كلّ ذلك يقود إلى استنتاج بأنّ سعد الحريري وبعكس رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس المجلس النيابيّ نبيه برّي وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ينتظر بعض الإشارات من خلفيات ما يحدث في فلك الصراعات والتفاهمات لترجيح كفّة على أخرى. وقد فاته وبحسب مصادر سياسية بأنّ الغلبة في سوريا أمست لمن ناوءهم ولا يزال، ومن ناوءهم لم يناصبوه العداء في لبنان، ولم يضعوا فيتو في التسوية الأولى على ترؤسه الحكومة، بمن فيهم الرئيس السوريّ بشّار الأسد، وفي أزمته مع السعوديّة ومع وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان حرصوا على عودته معافى كريمًا وسيّدًا، وهم عينهم من وافقوا على ترؤسه من جديد الحكومة ويرون في هذا الفعل استكمالاً لبنود التسوية اللبنانية وهي تحميها من الانزلاق نحو فتنة مذهبيّة غير محجوبة على الإطلاق.
من المفيد في هذا المقام الإشارة إلى أنّ الرئيس سعد الحريري ليس سلبيًّا بالمطلق، فهو على تلاق مع الجميع بصورة مباشرة أو من خلال الوزير غطاس خوري، الذي يتلاقى بدوره مع معظم الأطراف من دون استثناء. الرئيس الحريري يعرف بأن منطق العزل والانعزاليّة أوصل الحالة اللبنانية إلى كوارث هائلة وعدميّة، وتمزّق رهيب. والرئيس الحريري يتلاقى مع حزب الله بضرورة أن يشترك الجميع في الحكومة وأن يأتي التمثيل في الحكومة متوازنًا، وهذا أمر مسلّم به عند معظم الأطراف. ما هو غير مسلّم به وباعتقاد كثيرين، ولن يمرّ، بأن تملى الشروط بفعل تداخل خليجيّ على الرغم من محاولة الحزب التقدميّ الاشتراكيّ عن طريق وائل بو فاعور بتمويه الرؤية السعوديّة، ولو فرضنا بأن السعوديين وكما تفضل بو فاعور وقال، يريدون للبنانيين أن يقفوا ضمن مساحة مشتركة أو فضاء مشترك، فلماذا خدش النائب والوزير السابق وليد جنبلاط الاستقرار السياسيّ بالتطاول على العهد واعتباره ضعيفًا هزيلاً، واستهلك مسألة النازحين السوريين في الهجوم على العهد، بعيد مجيئه من المملكة، ومعظم المراقبين السياسيين الملمين بالشأن اللبنانيّ يعرفون بأنّ علاقة جنبلاط بالمملكة وسواها تكسبيّة وليست كيانيّة أو جدليّة، إذ لا شيء جوهريًّا يربطه بالمملكة سوى حدود تلك العلاقة. يبيعها موقفًا من هنا وهناك فيكسب مالاً واستثمارًا لأحد من نوابه.
يطلب رئيس الجمهورية العماد عون في النهاية، أن تولد الحكومة من رحم التوازن الموضوعيّ والمطلوب للبنان. وفي كلّ الأحوال إن أزمة التأليف غير محصورة بأحجام الكتل والأحزاب بل بإحجام بعضها عن إبداء مرونة حقيقيّة والتسليم بعدد من النتائج المحقّقة. رفع السقوف عند بعض الأحزاب السياسيّة مرتبط بعدد من الملفات الدقيقة السياسية والاجتماعية والاقتصاديّة، وعلى رأسها ملفّ النازحين السوريين في لبنان. ومرتبط بصورة أساسيّة وجذريّة بمنظومة العلاقات اللبنانيّة-السوريّة، حيث لبنان مطالَب بإعادة الاعتبار لنوعيّة العلاقة مع سوريا، لتقوم على أسس من الاحترام والأخوّة المتبادلَين. وفي هذا العنوان، يتكثّف الضغط على لبنان من جهات عديدة، حتى لا يتم التعاون مع سوريا في مسائل عديدة وجوهريّة ومنها مسألة النازحين السوريين. إنّ عرقلة تأليف الحكومة منوط بتلك الضغوطات المعيشة، بل هي أحد الأسباب لضمان عدم توجّه لبنان والحكومة اللبنانية نحو هذا المسّار. مسألة النازحين السوريين في لبنان لا تزال مدى لاستثمار مذهبيّ مقيت في الداخل اللبنانيّ ومن الداخل اللبنانيّ نحو الداخل السوريّ.
 
لن يفيد التسويف في هذا المجال، والمماطلة قد تقود نحو لبنان نحو انفجار الأزمات في أزمة واحدة. فالأزمات هي:
1-أزمة ميثاقية لا تزال قائمة على الرغم من التخفيف من حدتها بعض الشيء.
2-أزمة العلاقة ما بين الطوائف والأحزاب السياسية والخارج الراعي والوصيّ، والذي يستهلكها في سبيل استبقاء لبنان أرضًا للأزمات والمساومات، ومختبرًا لكلّ تفاعل سلبيّ أو إيجابيّ، في ظلّ استمرار التوتّر في المنطقة بأسرها.
3-أزمة العلاقة بين القوى الأمنيّة والمقاومة، وأزمة العلاقة ضمن البيئة والواحدة، وقد تمّ تفسير مؤتمر النائب جميل السيّد الصحافيّ بأنّه مجموعة رسائل موجهة من المقاومة إلى القوى الأمنية ومنها الجيش وقوى الأمن الداخليّ بصورة علنيّة، وإلى حركة أمل بصورة ضمنيّة، سيّما حين قال بأنّ التصوير يظهر بأنّ المجرمين هم من حزب الله.
4-الأزمة الاقتصاديّة والماليّة، فعلى الرغم من الصيف الواعد، إلاّ أن الحالة لا تزال مترديّة بفعل عدم البلوغ نحو بناء لبنان الدولة واشتداد حركة المطالب عند الناس.
الرئيس الحريري مدعوّ للحزم والحسم. ومن وجد نفسه مغبونًا فليتجه نحو المعارضة الموضوعيّة. حيويّة النظام السياسيّ اللبناني تقوم على العلاقة الجدلية والنقديّة والديمقراطيّة بين السلطة والمعارضة، فلنسلك هذا السلوك البنّاء وهذا كاف لتقدمنا نحو كل بناء.
 
 

شارك الخبر على