النكتة.. وسيلة المكبوتين لقهر القهر! (٢ – ٣)

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

تحليل سيكوسوسيولوجي
د.قاسم حسين صالح
يمهّد القسم الأول من هذه الدراسة الى التعريف بتعدد مفاهيم النكتة واستعراض نشوئها تاريخياً عبر الحضارات واختلاف صيغها ودلالاتها بين الشعوب وتبيان وظائف النكتة وأهدافها،ويستعرض القسم الثاني تفسير فلاسفة وسيكولوجيين للنكتة واصنافها وأهداف كل صنف منها،فيما يركز القسم على النكت السياسية والجنسية في العالم العربي واستطلاع رأي العراقيين بدلالاتها..في تحليل سيكوسوسيولوجي للباحث.تفسير النكتة يفسر كانت وشبنهاور النكتة بـ(نظرية التنافر) في قولهما إن الفكاهة أو المزحة أو الدعابة..تنشأ حين يمتزج ما هو راقٍ ومنطقي ومعقول بشكل مفاجئ بما هو وضيع وعبثي ولامعقول..فيما يطرح عدد من الفلاسفة (نظرية الترويح ) في تفسير النكتة ويرون أن النكتة القوية تحرر المتلقي من القلق والأفكارالسلبية حيث يعمل الضحك على غسل ما في داخل الفرد من انفعالات سلبية وتشاؤم،وإن النكتة الجيدة هي تلك التي تحمل قيمة جمالية(Aesthetic Value) وتحدث تأثيراً جسمياً مرافقاً للأحساس بالجمال،ويستدلون على ذلك بقولهم إن الضحك الذي تحدثه النكتة هو رد فعل جسمي يحرك أربع عشرة عضلة في الوجه وتمد الجسم بالدم المشبع بالأوكسجين..فيتورد الوجه وترتخي العضلات وتقوى المناعة وتقل هرمونات التوتر بحسب رأي علماء النفس..مع تحذير بأن الزيادة فيها قد تؤدي الى الوفاة على طريقة (ومن الضحك ما قتل!).ولا تستغرب..فأطباء ضغط الدم يؤكدون إن الأستغراق في ضحك قوي يؤدي في حالات الى السكتة القلبية! و في كتابه "الضحك عند العرب" يرى الكاتب أنيس فريحة أن الفكاهة "هي محاولة لتحويلالألم والكبت إلى نوع من التعبير الذي يخفّف من وطأة البؤس"،فيما يرى الدكتور طلال عتريسي ،استاذ علم النفس الاجتماعي بالجامعة اللبنانية ،أن النكتة هي "سرد مبالغ لفكرة أو ظاهرة، ومعبّر عن تناقضات أو أحداث غير متوقّعة، بحيث ينطلق هذا السرد من الواقع ويحلّق نحو مكان غير مألوف، بصيغته المضخمة".غير أن النكتة العربية كانت مظهراً من مظاهر البذخ والترف في القصور والديوانيات الأنيقة،واعتبرها ظرفاء العرب دليلاً على النضج والميل الى السلام والتفاهم العقلاني. ويرى ابن خلدون إن للمناخ أثراً في وصف شعب ما بـ«صاحب نكتة»، كما هي حال المناخ الحار في مصر والسودان،معللاً ذلك بأن المرح سمة شعوب البلاد الحارة والمسالمة عموماً، حيث يشغل الظرف جزءاً من الثقافة.وفي كتابه (تفسير الأحلام) يرى فرويد ثمة علاقة بين النكتة والحلم من حيث إن منبع كليهما هو اللاوعي،وكليهما يحملان معاني مكثفة مستبدلة وإنهما يظهران فجأة وينسيان بسرعة،والفرق الوحيد بينهما هو أن النكتة تحمل معنى واضحاً ومفهوماً فيما يكون الحلم غامضاً وقد يكون له أكثر من معنى وبعضها يصعب تحليله حتى على محلل نفسي،إلا ما كان يتضمن ميولاً عدوانية صريحة أو ضمنية.ومن جانبنا،نرى أن أجمل وصف للنكتة إنها جملة مصاغة بخفة دم ومكر عميق وكوميديا سوداء تجعلك تضحك وتستلقي على ظهرك..ثم تتركك تفكر بعمق!.أصناف النكتة النكت على اصناف ،صنف نظيف مريح يحمل سخرية محببة على موقف أو شخص ،أو نقد لظاهرة اجتماعية أو سياسية أو دينية..سلبية أو متخلفة بهدف تقويمها، وصنف آخر يتضمن دوافع عدوانية من قبيل التشفي والشماتة وتحقير الآخر والسخرية أو الاستهزاء بدين أو معتقدات طائفة أو مكون اجتماعي،بل يصل الأمر حتى على أساس مناطقي.وصنف خاص بالرجال وآخر خاص بالنساء لاسيما تلك التي يتداولنها في الحمامات!..وقس على ذلك الأطباء والطلبة والفلاحين والقصابين وأصحاب المهن الأخرى.وأنجح أنواع النكت تلك التي تتكون من جملة قصيرة تتضمن قصة محبوكة درامياً،محملة بمعنى مكثف يتضمن مفارقة أو غرابة أو سخرية تثير لدى سامعها ضحكة تلقائية.ومع تنوعها فأنها تبدأ في الغالب هكذا:( في واحد..) كما هو متداول في بريطانيا (في واحد اسكتلندي..)،أو في مصر ( في واحد صعيدي)،و (أكو واحد) كما في العراق:(اكو واحد مصلاوي، اكو واحد دليمي، اكو واحد عمارتلي..) عن البخل والفطارة وقلّة الذوق..تهدف سيكولوجياً الى النيل من الآخر وأعلاء شأن( أنا )الفرد او (نحن ) الجماعة. وهنالك نكات تهدف الى تقويم الاعوجاج ونشر الفضيلة ومتعة الضحك وتخفيف الحقد والعداء ،وأخرى تسيء الى قيم أخلاقية ودينية ،وبعضها عنصرية تسخر من شعب أو قومية. وبعض النكات تعتمد المبالغة والتهويل،وأخرى تميل الى التبسيط والتسطيح،وأخرى تكون ساذجة و(بايخه)،وأحياناً يكون جمال النكتة في مفارقة سخافتها!. ومع ذلك أصبحت النكتة الآن وسيلة فعالة وشائعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لاسيما الفيسبوك وتويتر،بل هنالك صفحات ومواقع خاصة بالنكتة لاسيما السياسية والجنسية. ومع تعدد أصنافها فان النكتة تشكّل دالّة عن العقل الجمعي لشعب أو لمجتمع بكامله أو لمكّون اجتماعي فيه ،بها تستطيع أن تعرف مكبوتاته،همومه،أمنياته،ثقافته،وأخلاقه بوصفها المنشور غير المدون الذي يحكي ما جرى له في حياته وما سيقع له من أحداث. ومع إن العرب يشتركون في دالة النكتة عن العقل الجمعي لديهم ،فأن العراقيين ينفردون في تاريخهم الحديث بمفارقات وتناقضات وفواجع حروب كارثية وقساوة حياة اقتصادية ما حصلت لأي مجتمع آخر في المنطقة أدت الى ارتفاع وتيرة النكت الساخرة اللاذعة و(الحسجة العراقية) بين الجماهير المسحوقة بشكل خاص في محاولة لأعادة التوازن النفسي والتنفيس عن المكبوت لقهر القهر.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على