درسٌ من الأردن...

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

 د. لاهاي عبد الحسين
لا يتحدث الأردنيون بمخاض الانتقال إلى النظام الديموقراطي ولكنّهم يتصرفون وفقه. إنّهم يعيشون ضمن نظام ملكي دستوري لا يبدو أنّهم يريدون التمرد عليه. يتابع العراقيون منذ أيام خروج نصف مليون أردني أو ما يقدر بـ 10% من المجموع الكلّي للسكان البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة للمطالبة بسحب مشروع تعديل قانوني يهدف إلى زيادة الاستقطاعات الضريبية على الدخل. وتبيّن أنّ هذه التظاهرات كما صرح نائب رئيس الوزراء الأردني المستقيل السيد هاني الملقي جاءت بدعوة من نقابة المحامين الأردنيين للمساعدة على سحب مشروع التعديل القانوني المقترح. ولأن الأردن بلد يساس بملك يتولى حماية الأمة والدستور فقد استجاب للمطالبة الجماهيرية التي حملتها نقابة المحامين الأردنيين وأعلنتها على الملأ. استقالت الحكومة وكلّف السيد عمر الرزاز بتشكيل حكومة جديدة. وكان أول ما صرح به رئيس الوزراء المكلف التعهد بسحب مشروع التعديل القانوني المشار إليه. اجتمع الملك مع الحكومة وأنحى باللائمة في تدهور الأوضاع المعيشية والغلاء والبطالة والركود الاقتصادي على أزمة اللاجئين السوريين وعدم قدرة الأردن على تقديم الخدمات لما يزيد على مليون سوري إلى جانب اتخاذ إجراءات حكومية ساهمت بالحد من السياحة إلى الأردن وطلب المعونة الصحية في المستشفيات الأردنية بسبب المشاركة الدولية في الحد ومحاربة الإرهاب. على الفور تحركت وكالة اللاجئين في الأمم المتحدة للتعاون مع الأردن لمعالجة القضية. مع ذلك، لم تنته المشكلة ولم تتوقف التظاهرات. استمر المتظاهرون بالتظاهر رافعين شعار"تغيير النهج وليس تغيير الأشخاص"، في إشارة واضحة إلى عدم قناعتهم باستقالة رئيس الحكومة والحكومة واستبدالها بأخرى. اشتركت أحزاب وقوى وطنية أردنية متعددة في هذه التظاهرات. فيما بعد عندما استجابت نقابة المحامين الأردنيين إلى الضغوط والمناشدات الحكومية لوقف التظاهرات معلنة ذلك ظهر ما يشير إلى وجود حوار من نوع ما بين النقابة والمتظاهرين. أصر المتظاهرون على التظاهر مما أدى بالنقابة إلى التراجع عن اقتراح وقف التظاهرات والوقوف مع المتظاهرين لتكون صوتهم بالحجة والدليل الدستوري والقانوني. مشهد سياسي واجتماعي مؤثر يدل على التنامي المسؤول للممارسة والبناء الديموقراطي في مجتمع لا يختلف جوهرياً عن المجتمع العراقي وبخاصة من حيث البنية العشائرية والثقافة الإسلامية السائدة فيه. كما إنّ المجتمع الأردني لا يعتبر مجتمعاً متجانساً تماماً إذا ما أخذنا بالحسبان وجود جماعات دينية متنوعة بأحجام مهمة مثل المسيحيين الذين يشكّلون 10% من مجموع السكان إلى جانب جماعات دينية أخرى مثل الشركس والأرمن. وهناك الانقسام الحاد بين الأردنيين والفلسطينيين ممن يتشاركون في مصادر السلطة السياسية والاقتصادية. بالمقابل، رفع العراقيون شعار بناء الديموقراطية وشارك ما يقدر بـ 44% ممن يحق لهم التصويت في الانتخابات النيابية العامة التي جرت في البلاد في الثاني عشر من أيار الماضي. أديرت الانتخابات من قبل مفوضية عليا"مستقلة"خاض مجلس النواب الحالي المنقضية ولايته في الثلاثين من حزيران الجاري نزالات حامية لتثبيت العضوية فيها لتكون منسجمة مع بنيته الدينية والمذهبية والعرقية. أعلنت النتائج وخسر أكثر من مائة عضو حالي مقعده في مجلس النواب لزميل له/لها من نفس الكتلة أو الحزب. أي أنّ نتائج الانتخابات المعلنة لم تحقق حراكاً بنيوياً ملموساً على مستوى التشكيلة السياسية للمجلس وإنّما اكتفت برجرجة ثلث المقاعد المتربعة تحت قبة مجلس النواب. تغيير في الوجوه والأسماء ليس إلا. فقد تصدرت المرتبة الأولى ثلاث كتل رئيسة كان يتوقع لأي منها الفوز وهي سائرون والفتح والنصر تلتها كتلة دولة القانون واتحاد القوى الوطنية. لم يعبر المجلس الحالي بثلث أعضائه الخاسرين عن التحلي بأبسط وأول قواعد المنافسة الديموقراطية بقبول النتائج والتسليم بها بل انتهز فرصة أنّه لا يزال يملك بعض الوقت حتى نهاية الشهر الجاري فكان أنْ دعا إلى عقد جلسة استثنائية لإعادة ترتيب نتائج الانتخابات أقر فيها ثلاثة تعديلات أساسية كان آخرها سحب يد أعضاء المفوضية الحالية وتعيين تسعة قضاة للإشراف على عملية إعادة العد والفرز يدوياً وبنسبة 100% في كل أنحاء العراق. أتخذت هذه القرارات على عجل وباكتمال النصاب الأمر الذي أثار ضغينة كثير من المواطنين وبخاصة بالمقارنة مع ما فعله المجلس الحالي لمناقشة أزمة المياه بسبب البدء بملء سد أليسو التركي. حضر جلسة تقييم نتائج الإنتخابات 173 نائباً مقابل 50 نائباً حضروا جلسة مناقشة أزمة المياه. وظهرت صور لعدد من النواب يتضاحكون وهم يعبّرون عن فرحتهم بقرار إعادة العد والفرز فيما عبّرت نائبة مدنية عن فرحتها بالقرار بوصفه"انتصاراً"، والسؤال انتصار لمصلحة منْ وعلى منْ! الغريب أنّه وسط صمت نقابة المحامين العراقيين كجهة مهنية رسمية غير حكومية يفترض أنْ تكون معنية بهذه التطورات السياسية والقانونية المصيرية بالنسبة إلى إقامة النظام الديموقراطي أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى بياناً دعا فيه إلى إتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ قانون التعديل الثالث لقانون الانتخابات لعام 2018 الصادر في 6-6-2018. دعا مجلس القضاء الأعلى في هذا البيان كافة أعضاء المجلس لحضور اجتماع صباح الأحد الموافق 10-6-2018 لتسمية القضاة الذين سينتدبون للقيام بأعمال مجلس المفوضين والإشراف على عملية إعادة العد والفرز اليدوي وتسمية القضاة الذين سيتولون مهمة إدارة مكاتب المفوضية في المحافظات العراقية. وجاء في الفقرة (3) من البيان أنّه يتوقف عمل الهيئة القضائية للانتخابات بصدور قانون تعديل قانون الإنتخابات المختصة بالنظر بالطعون المقدمة على نتائج العد والفرز الألكتروني. يذكر أنّ عدداً من المحامين والخبراء القانونيين نشروا في صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي مقالات مهمة سلطوا فيها الضوء على المخالفات القانونية والدستورية التي ارتكبها مجلس النواب في هذا المجال الأمر الذي لم يأخذه مجلس القضاء الأعلى بالاعتبار. بل وأهمل مجلس القضاء الأعلى ما جاء في بيان المحكمة الإتحادية العليا بشأن آلية تقديم الطعون الذي صدر عن المحكمة في العشرين من أيار الماضي. من جانب آخر يتساءل كثير من العراقيين عن الدور الذي يفترض أنْ يؤديه رئيس الجمهورية الذي يمثل"رمز وحدة الوطن... ويسهر على ضمان الالتزام بالدستور"، حسبما جاء في المادة 67 من دستور جمهورية العراق. لم يحرك السيد رئيس الجمهورية ساكناً في هذه الأزمة كما في غيرها من الأزمات تاركاً لمجلس النواب أنْ يمنح نفسه صلاحيات ينقضّ فيها على ما سبق أنْ شرعه بصيغة تذكّر بإذاعة البيان رقم (1). الحقيقة، فقد حصر السيد رئيس الجمهورية هو نفسه في زاوية ضيقة تمنحه صلاحية المصادقة على المعاهدات والاتفاقات الدولية والقوانين بعد موافقة مجلس النواب. ليس هذا فقط بل إنّ عليه أنْ يقدم استقالته اذا حدث ما يلزم ذلك إلى مجلس النواب حسب المادة (75) من الدستور العراقي النافذ. وهذه إشكالية دستورية جدية تصنع من منصب رئيس الجمهورية"نصباً"وليس وجوداً حيادياً فاعلاً يمارس من خلاله دوره المؤثر لتجسيد"وحدة البلاد"وحمايتها. بالتأكيد هناك ضرورة حقيقية لتعديل الدستور ولكنْ حتى يحدث هذا يبدو من المفيد التذكير في أنّ المناصب تستمد الحياة من شاغليها وليس العكس. يعوّل المواطنون في مجتمع أبوي ذكوري كثيراً على سلطة الأب والتي تتمثل بشخص رئيس الجمهورية. وهذا ما يوجب عليه التحرك لتطمين مشاعرهم في جانب ولتحقيق حضور يفتقد إليه في جانب آخر ليكون حكماً بين المواطن والسلطة التشريعية التي تتحرك بلا ضابط باستثناء أنْ تبتدع ما يعزز سطوتها وهيمنتها وبخاصة في ظل تماهي المؤسسة القضائية التي طالما استشهد بإرثها العلمي والمهني والأخلاقي العريق. صحيح إنّ المجتمع العراقي مجتمع غير ديموقراطي من وجهة النظر العلمية إلا أنّ حقيقة أنّه غير ديموقراطي لا تعني على الإطلاق أنّه لا يمكن أنْ يتحول نحو الديموقراطية اذا ما تقدمته قوى سياسية واجتماعية وقانونية تجعل من الديموقراطية رسالة تبلغها بالسعي المسؤول والمجرد من المنافع الشخصية والجماعاتية والفئوية أياً كانت مرجعيتها.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على