هيثم الغيتاوي يكتب فائدة البكاء على العمر المسكوب

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

عندما يتعلق الأمر بماضٍ يظنونه لطيفا ومُشرّفا يُغنون مع عبد الحليم حافظ (دايما هنبُص لقدّامنا.. والماضي مش راح ننساه.. الماضي كتب مُستقبلنا بالدم.. وآدي احنا بنقراه)، وإذا كانت المناسبة استحضارا لذكرى أليمة بغرض إعادة تشريحها والاستفادة منها على أي مستوى، فإنهم يكتفون بصوت أم كلثوم في غير مكانِه: (تفيد بإيه يا ندم؟ وتعمل إيه يا عتاب؟)، مُتلبّسين ثوب الحكمة وكأنهم أدركوا فجأة أنه "لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب".

طيب.. وماذا لو كان المسكوب دمًا؟

وإن كانت لا فائدة من البكاء على شهداء الوطن، أليس من فائدة أيضًا لـ"الفحص والدرس" بغرض إدراك كيف أُديرَت - وتُدار- الأمور في بلدنا، ولماذا تصل بنا إلى هذه النتائج؟ أم أننا نُقِر بقيمة "الفحص والدرس" فقط في لحظات الانتصار؟

تنطلق مدَافع المُزايدات الصِبيانية في وجه كل من يُفكّر أن ينشر مقالًا في ذكرى 5 يونيو -فما ظنّك بمن ينشر كتابا يتناول القضية ورجالها في الذكرى الخمسين للنكسة- لتجد تعليقات وأسئلة مُعلّبة من نوعية: لماذا لا تكتب عن نصر أكتوبر بدلًا من هزيمة يونيو؟ ببساطة، لأن التاريخ لا يدفن بعضه بعضًا، ألم يقل عبدالناصر في ثاني خطاباته بعد يونيو: (قدرنا نفوق من الصدمة والجهد النفسي، بعد أن كان الواحد يشعر أنه عايش في كابوس، ولا يُصدق أن ما حدث قد حدث.. لكن استيعاب الصدمة لا يعني أن الصِلة بعدها انقطعت بكل ما كان قبلها أو خلالها، لا بُد أن نُدِرك أن هناك رواسب)؟

عبد الناصر "أعقل" من الناصريين

ولماذا تكتب فقط عن سلبيات عبد الناصر؟ لأن عبد الناصر نفسه تحدّث عن "سلبياته" هذه، حتى أنه قال بعد الهزيمة: (سَقَط نظامنا في 9 يونيو)، استيعابا واعترافا منه بجلال الحدث وعُمق أثره ومحوريته باعتباره كاشفا لما هو أشمل وأعقد من الفشل على جبهة عسكرية. كان الرجل أكثر إدراكا للصدمة واستمرار أثرها ممن يدّعون الدفاع عنه اليوم حقا وباطلا، إذ قال يومًا إن (العلاج النفسي ضرورة لكل هذه الظواهر، لأن ما حدث في ٥ يونيو لا يمكن أن تزول آثاره بسرعة.. الجزء الأصعب من هذه المشاكل فات، لكنّي أعرف أن آثاره ستبقى معنا زمنًا.. خلال هذه الشهور حدث تحول بعيد المدى، عميق الأثر، سوف يفرض نفسه أكثر وأكثر على المستقبل).. وها نحن نتحدّث في المستقبل الذي تحدّث عنه الرئيس عبد الناصر.

لا تنقطع هذه المُزايدات في زمن "فيسبوك" البائس، بينما في زمن الهزيمة نفسها لم يُزايد أحدهم على وزير الحربية الفريق أول محمد فوزي حين قرّر ألّا يتجاهل أول ذكرى لهزيمة يونيو ويُصدِر "أمر يومي" في الثاني من يونيو 1968 - نشرته "الأهرام" في اليوم التالي- مؤكدا أنه "لا بُد لنا أن نقف وقفة نسترجع فيها الذكرى الأليمة للمعركة، وفي نفس الوقت نذكر ونُسجل الجهود المخلِصة الهادفة التي بُذلت في سبيل إعادة بناء قواتنا المسلحة".

فإن كانت "المعنويات والمشاعر المُرهَفة" لا تتحمل الآن استدعاء ذكرى الهزيمة بعد 50 سنة على سبيل النقد والتحليل، فقد كان أولى بمثل هذه المزايدات مَن واجهوا ماضيهم القريب بشجاعة في قلب الهزيمة، واستعرضوا أسبابها وسُبل الخروج منها، بينما لا تفصلهم عن جرحها النازف سوى 365 يومًا فقط. أكثر من 20 ألفًا بلعتهم رمال صحراء الجبهة لا يستحقون منّا أن نعتبر مُجرد البحث في أسباب ما جرى لهم ولنا عارًا وسُبّة نتهرّب من مجرد الحديث عنها في ذكرى سنوية.

وطن بـ"ذاكرة سمكة"

كان محمد حسنين هيكل يرى أن "التاريخ ليس الماضي وإنما هو ثلاثية الزمان: الأزل، واللحظة الراهنة، وإلى الأبد، أي الماضي والحاضر والمستقبل.. لا انفصال بينها جميعًا بطبيعة الحياة وباستمرارها"، لذلك فلنا كل العُذر إن رأينا أن بعض الأسباب والظروف المؤدية إلى النكسة لم تُصبح ماضيًا بعيدًا لا فائدة من الحديث عنه، إنما هي جزء من مكونات حاضرنا، ليس في مصر وحدها، بل على كثير من الجبهات العربية المشتعلة حاليا، لهذا فنحن بالحديث عن النكسة، لا نتناول تاريخًا مُنقطِع الصِلة عن الحاضر.

ولأن "شجرة النكسة"، أصلها ثابت في كواليس مايو 1967، وفروعها مُمتدة عسكريا وسياسيا واجتماعيا وإداريا على مدار الخمسين سنة التالية، أرى أن الأهم من دراسة أسلوب إدارة النظام لمعركة يونيو، دراسة كيفية إدارة عبدالناصر ورجاله لتصاعد الأزمة في الشهر السابق على النكسة.. السِر في مايو، وليس يونيو وحده، لأنه الشهر الذي كشف عوراتنا في عدة مجالات، منها أسلوب صُنع القرار و"تفويض الرئيس" واستخدام الإعلام وأسطورة "الأشقاء" العرب ومدى احترامنا للتدريب والكفاءة في مقابل لعنة "تسديد الخانات" و"كله تمام يا فندم" إلى آخر هذه المظاهر التي تستعرضها فصول الكتاب، لتوضيح: كيف هزمنا أنفسنا قبل أن يهزمنا مُرتزقة العدو؟، وقد لا تشعر مع هذه الفصول بالغُربة عن تفاصيل الأحداث التي تتناولها، وربما ستجد نفسك - بدرجة أو بأخرى- تقول إن كذا يُشبه كذا، أو كذا يُذكّرنا بكذا، وعندها يكون السؤال نفسه مردودًا على مُدّعي أو أنصار "السَرد الحيادي" المزعوم أو "تاريخ الفاترينات" كما أحب أن أسميه: كيف تريد فكاكًا من أسرِ السياسة وأنت تنظر للتاريخ بعين الحاضر؟

يصدر كتاب "ميراث النكسة" في زمن سِمَته الغالبة المُزايدة والتشكيك في النوايا من جانب "المكارثيين" المُتطوعين، لذلك فهو في كل فصوله يلعن المُزايدات وأهلها، دينيا وسياسيا وفكريا، يستوي في ذلك "دراويش" عبدالناصر و"ببغاوات" خصومه من "الإخوان" و"أرامل" العهود الملكية والخديوية، فلا عَجب إن وجدت كلمة المزايدة حاضرة بمختلف تصريفاتها لأكثر من 90 مرة بين 120 ألف كلمة في "ميراث النكسة".

"التبرير خسّرنا كتير"

بمجرّد أن تحاول رؤية المشهد من زاوية أكثر موضوعية تستند إلى المصادر الناصرية ذاتها إلى جانب مراجع أخرى، فأنت مُتهم بكراهية عبدالناصر لأنك "إخواني" أو لأنك "عايش دور جدّك الباشا"، حتى وإن كنت تنتقد "الإخوان" في سياقات أخرى، وتفخر بأنك فلّاح ابن فلّاحين امتلكوا الأرض وتعلّموا في زمن عبد الناصر.

أي رصد مُركّب للسياسة والتاريخ – بين التأييد والرفض- لا يُعجب أحدًا، إمّا معي تماما أو ضدي تماما، هكذا يريدون صبغ الكتابات كلها بلونين فقط، مُعادلات صِفرية تزيدنا إصرارا على البحث عن كتابة لا تخضع لابتزاز هؤلاء أو استرضاء أولئك، كتابة ضدهم جميعًا طالما أوصلتنا أفكارهم وقراراتهم في النهاية إلى ما نحن فيه.

و"هؤلاء وأولئك" تشمل أيضًا كتائب "المطبلاتية" الذين يُعلّقون فَشَل "الفَشَلة الجُدد" - في كل مرحلة- على شمّاعة النكسة والحروب التي خاضتها مصر، رغم أن الهزيمة وقعت قبل 50 سنة، وحرب أكتوبر التي سمّاها السادات "آخر الحروب" وقعت قبل 44 سنة، فأين كان "الفاشلون" خلال كل هذه السنوات التي كانت كافية لإعادة بناء دول أخرى من الصِفر بعد حروب أكثر دمارا من حرب يونيو؟

لماذا توقّف خيالهم الفقير عن محاولة ابتكار أساليب مختلفة للإدارة سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا؟ صحيح أن النكسة تركت آثارها على جسم الوطن، وهذه مسؤولية عبدالناصر، لكن لماذا لم يَحمل "الورثة" نصيبهم من المسؤولية على مدار العقود الخمسة التالية؟

شارك الخبر على