مجانين في السلطة

ما يقرب من ٦ سنوات فى الشبيبة

هارولد جيمسفي كتابه بعنوان «النظرية العامة في تشغيل القوى العاملة، والفائدة، والنقود»، أعلن جون ماينارد كينز تخوفه من أن «المجانين في السلطة، الذين يسمعون أصواتا في الهواء، يستخلصون جنونهم من بعض الكتابات الأكاديمية التافهة التي ظهرت قبل بضع سنوات».ولكن حتى من دون نظريات تأسيسية، ربما يكون ادعاء «الجنون» أو الخبل استراتيجية تفاوضية معقولة وقوية ومعدية نوعا ما. ففي أوائل سبعينيات القرن العشرين، تبنى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون هذا التكتيك لإقناع قادة فيتنام الشمالية بأنه يضع إصبعه على «الزر النووي»، وأنهم من الأفضل لهم أن يتفاوضوا على اتفاق لإنهاء الحرب ــ وإلا... وفي العام 1986، التقى الرئيس رونالد ريجان بميخائيل جورباتشوف في ريكيافيك وفاجأه باقتراح أن تقوم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بتدمير كل أسلحتهما النووية.وسواء كانت الأزمة في تصاعد أو انحسار، يبدو أن فعالية استراتيجية الرجل المجنون تعتمد على مدى غموض «جنون» القائد السياسي ــ إلى الحد الذي يجعل حتى المؤرخين عاجزين عن تحديد النقطة التي ينبغي لهم عندها أن يرسموا الخط بين الصدق والخداع.وفي ظل نهج الرئيس دونالد ترامب المتذبذب في التعامل مع القمة النووية مع كوريا الشمالية، إلى جانب تهديده ووعيده بشأن فرض عقوبات جديدة ضد إيران، يبدو أن استراتيجية الرجل المجنون عادت إلى الظهور بصورة درامية. فالآن يتبناها عدد كبير من القادة الآخرين، وهي تنتشر بسرعة إلى مجالات جديدة، بما في ذلك المناقشات الدائرة حول إصلاح النظام النقدي والسياسي الأوروبي.كان تخوف المستثمرين من اندلاع أزمة ديون أخرى في منطقة اليورو في تزايد منذ فشلت حركة النجوم الخمسة الشعبوية وحزب الرابطة اليميني المتطرف في تشكيل حكومة بعد أشهر من الجمود في أعقاب الانتخابات. ومن الواضح أن ائتلاف حركة النجوم الخمسة-حزب الرابطة، الذي فاز بأغلبية برلمانية مجمعة في انتخابات الرابع من مارس يحاكي نهج ترامب، على أمل استخدام ديون إيطاليا لاستخلاص تنازلات من الاتحاد الأوروبي.تُرى هل يصادف هذا النهج النجاح؟ يتلخص العنصر الأول والأكثر أهمية في استراتيجية الرجل المجنون في القدرة على تقديم مستوى من عدم اليقين كاف بإلحاق الضرر بدول أخرى.وإذا افترضنا أن دولة ما كبيرة بالقدر الكافي لتعكير صفو الأسواق العالمية (كما يتضح من حالة إيطاليا)، فإن هناك ثلاثة عوامل أخرى تحدد مدى نجاح استراتيجية الرجل المجنون. بادئ ذي بدء، يتعين على حكومتها أن تكون قادرة على إقناع الآخرين بأنها مدفوعة نحو تصرفات «جنونية» من قِبَل الناخبين. والفكرة هنا هي أنه من غير المنطقي ولا العقلاني في حقيقة الأمر أن تتصرف الحكومات المنتخبة ديمقراطياً بحذر إذا كان القيام بذلك يعني استدعاء العقاب من الناخبين الملتزمين بمواقف قصيرة النظر ولكنها محسوسة بعمق. وفي حالة إيطاليا، استغل الشعبويون استياء الناخبين من حزب يسار الوسط الذي فشل موقفه المؤيد لأوروبا في تحقيق أي نتائج.ولابد أن يحدث أيضاً تقسيم واضح بين «الصقور» و»الحمائم» داخل حكومة الرجل المجنون. ففي أي تفاوض، تقدم الأطراف الأخرى تنازلات لتقوية الحمائم، مع إدراك كامل بأن الفشل في القيام بهذا من شأنه أن يثير غضب الصقور، الذين سيمضون على إثر ذلك قدماً في تنفيذ خطط الهلاك. في حالة ترامب، تتجلى هذه الديناميكية في إطار شخصية منفردة ميالة إلى التقلبات العنيفة وغير المتوقعة بين الانفتاح والغضب. لكنها موجودة أيضا داخل حكومة ترامب، حيث يقوم جون بولتون، مستشار الأمن القومي المتشدد، بلعب دور الصقر.في حالة ائتلاف حركة النجوم الخمسة/‏حزب الرابطة، كان الصقر مطلوبا كثِقَل موازن لرئيس إيطاليا المولي للاتحاد الأوروبي سيرجيو ماتاريلا. ولهذا السبب وقع اختيار الشعبويين لوزير الاقتصاد والمالية على باولو سافونا، رجل الاقتصاد البالغ من العمر 81 عاماً والذي وصفه وزير الاقتصاد الإيطالي السابق فينشينزو فيسكو بأنه «معاد لألمانيا بشكل جذري». وعندما رفض ماتاريلا الترشيح، انسحب الائتلاف من المحادثات، مما عجل باندلاع الأزمة الحالية.وأخيرا، لتحقيق النجاح، تحتاج حكومة الرجل المجنون إلى خطة حرب معقولة لإحداث خلل عام. على سبيل المثال، اقترح ائتلاف الحركة والرابطة أنه ربما يصدر عملة موازية، وهو ما أضفى قدرا أكبر من المصداقية على تهديدها بملاحقة التوسع المالي في تحد لقواعد الاتحاد الأوروبي.مع تزايد عدد الحكومات والأحزاب والقادة الذين يحاكون استراتيجية الرجل المجنون، سوف يضيق نطاق الاتفاق في أي تفاوض. الواقع أن خبراء الاقتصاد الألمان المتشددين استجابوا بالفعل لأزمة إيطاليا السياسية بتوزيع التماسات لعرقلة أي إصلاح في منطقة اليورو يمكن اعتباره تنازلا.لكن الكشف عن مخاطر استراتيجية الرجل المجنون لن يكون كافيا لإلحاق الهزيمة بها. لابد أيضا من إقناع الناخبين بأن البدائل الأفضل متاحة، وأن التكامل الأوروبي لا يزال قادرا على حماية مصالحهم. وفي الأشهر التي تسبق الانتخابات التالية في إيطاليا وانتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي في مايو 2019، سوف يحظى قادة الاتحاد الأوروبي ببعض الوقت لإثبات أن التكامل الأوروبي ليس مجرد شلل سياسي وركود اقتصادي.خلافا لذلك، ربما نكتشف قريبا الجانب القاتم من استراتيجية الرجل المجنون. قبل تنازله عن العرش في العام 1918، لم يكن القيصر الألماني فيلهلم الثاني في احتياج إلى التظاهر بأنه غير مستقر ذهنيا؛ لأنه كان كذلك بالفعل. ومع ميله إلى إلقاء الخطب العدوانية وإجراء المقابلات الصحافية الشنيعة، فإنه يشترك في ذلك مع كبير المغردين الأمريكيين دونالد ترامب.في تناظر تاريخي آخر، كان القيصر الألماني يتباهى غالبا بقدرته على التوصل إلى اتفاقيات مع الملكين الروسي والبريطاني، اللذين كانت تربطهما به صلة قرابة. ومع تصاعد الأزمة الدبلوماسية في يوليو من العام 1914، أعلن فجأة عن مبادرة سلام كبرى جديدة. ولكن بعد فوات الأوان. فقد انتشرت لعبة «من يجبن أولا»، واندفعت القوى العالمية معا إلى الكارثة.أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ لدى معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا.

شارك الخبر على