«المدبغجية».. غارقون في جحيم الجلود (الحلقة الرابعة)

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

أكوام الجلود متناثرة في كل مكان، ورائحتها تزكم الأنوف، ​وأصوات الماكينات والبراميل في المدبغة لا تتوقف عن الدوران، وتدور معها معاناة العمال، فيعلو ضجيجها أكثر وتزداد رائحتها العطِنة مع الغليان، وينسى العمال الصائمون أوجاعهم في زحمة العمل حتى أدمنوا أصواتها كما اعتادوا من قبل على الرائحة الكريهة المنبعثة من تنظيف «طريحة» الجلود بصورة أفقدت كثيرا منهم حاسة الشم.

كان عامل المدبغة سمير عبد الفتاح، يتصبب عرقًا ويرتدي ملابس خفيفة وحذاء بلاستيكيا أثناء ممارسة عمله اليومي المعتاد على ماكينة دباغة الجلود التي يُطلق عليها اسم «المقلوبة»، ويسحب بيديه الجلدة الثقيلة المجاورة، ويمررها على الماكينة التي أكل الصدأ تروسها، وأكلت جُل أصابع يديه وتركت علاماتها عليه، وطول الوقت يحركها كعجينة طرية يعيد تشكيلها وذلك لـ«حلقها» وتنظيفها من الشعر الزائد والحواشي الناتجة عن عملية السلخ.

«طريحة» الموت

في المدبغة تتراكم أحجار الصمت على جميع العاملين لتُثقِل قلوبهم، وتزداد معاناتهم أكثر بما لا يطيقون تحمل أوجاع المهمة الشاقة أثناء نقل «الطريحة» الثقيلة التي تزيد على 70 جلدة إلى المدبغة وخارجها في نهار رمضان في عز أوقات الصيام وحرارة الجو، للانتهاء من عملية الدباغة وفي الجوار كانت مياه الصرف الصحي تغرق مداخل المكان الذي صار أشبه بالخرابة المهجورة، والمبنى الآيل للسقوط على رؤوس العاملين به.

30 عامًا قضاها العامل الأربعيني سمير عبد الفتاح متنقلًا بين مدابغ مصر القديمة حتى أصبح واحدًا من أبرز «المدبغجية» ذائعي الصيت بين أهل الصنعة في سوق الدباغة كجراح تجميل متمرس يعيد ملامح الجمال من جديد إلى الوجوه المشوهة فتبدو في أبهى حُلة وهيئة يتم تشكيلها في صورة أحذية وأحزمة وحقائب يد ذات جودة عالية تُباع بأسعار باهظة.

روائح مميتة

روائح الجلود التي كانت تُشم من خارج المدبغة كان لها أثر سلبي بالغ السوء على صحة جميع العاملين، خاصة سمير الدباغ الذي يظل واقفًا على قدميه لأكثر من 10 ساعات بين أكوام متراكمة من الجلود ينتهي خلالها من تنظيف 20 جلدة بشعرها خلال الساعة الواحدة، ومع مرور الأيام بدأ يشعر باختناق شديد في صدره دفعه لأن يُقلِع نهائيا عن التدخين.

«السوق نايم والشغل واقف».. يقول سمير الدباغ الذي يتقاضى أجرته بالإنتاج ويبدو حزينًا من تراجع الكميات التي يتم تنظيفها وبعد أن كان ينتهي من 100 جلدة يوميا يتقاضى عليها من 160 إلى 200 جنيه تراجعت كثيرًا اليوم إلى 120 جنيها يحصل عليها بالآجل ولا تكفي قوت يومهم، بسبب الظروف السيئة التي تمرّ بها الصنعة وقرار نقل المدابغ إلى منطقة الروبيكي بالقاهرة الجديدة إلى 70 جلدة فقط خلال الأسبوع.

رحلة الجلود

تأتي الجلود عبر شخص وسيط يُسمى «الجلاد» يبتاع الجلد من الجزار ليبيعه إلى أصحاب المدابغ مقابل 650 جنيها للبقري و600 جنيه للجاموسي وغالبيتها للتصدير، والبتلو (العجل الصغير) بـ200 جنيه، والجملي أو الجلد الشعبي بـ80 جنيها، والأغنام بـ10 جنيهات، ويبلغ طن الجلود نحو 50 قطعة.

حين تصل «الطريحة» إلى المخزن يتم نقلها إلى براميل كبيرة تتسع لأكثر من مئتي قطعة ويتم ملؤها بالمياه من أجل الانتهاء من عملية التشطيب وإزالة الشعر عبر إضافة مواد كيماوية، ولكن الرائحة العطِنة المنبعثة من الجلود لا تُطاق، وتتسبب في وقوع حالات إغماء عديدة بين عمال المدبغة وتدفع الصنايعي للهروب إلى الخارج حتى تخف الرائحة.

كما أن الماكينات التي تدبغ الجلود تحتوي على أسلحة قاطعة تزيد على 16 فردة تترك جميعها علامات على أصابع يد «المدبغجي» الذي طالما يتعرض لإصابات أثناء العمل يتحمل فواتير علاجها وحده.

«إحنا بنموت»

يحكي عم سمير عن عاملين عدّة كانوا يقفون في نفس مكانه على ماكينة «المقلوبة»، ولكن صدورهم لم تعد تتحمل تلك الروائح وتركوا العمل وساروا في المدابغ يطلبون السؤال، و«لما باشوفهم بأحزن على نفسي» وينقل جزءًا من مسلسل المعاناة المعروضة حلقاته يوميا بالقرب من مستشفى 57357 لعلاج سرطان الأطفال، قائلًا: «لو هنتكلم على الريحة يبقى إحنا عاوزين مستشفى خاص لكل مدبغة، وكل صنايعي عاوز دكتور يتابعه» ثم يتساءل بحسرة وحزن يسكن بين عينيه عن حقوقهم الضائعة في تلك المهنة: «فين حقنا إحنا بنموت، وبنجازف بحياتنا في الشغلانة دي عشان اللي ورانا ياكلوا».

«طالما تتعايش مع الأشياء المتاحة، فأنت في المكان الخطأ».. هذا هو لسان حال جموع العاملين بمدابغ «مجرى العيون» بمصر القديمة بعد قرار نقلهم إلى منطقة الروبيكي بالقاهرة الجديدة على مساحة 1629 فدانا للحد من أزمة التلوث والتكدّس الناجم عن وجودها في منطقة مصر القديمة، لكن صعوبة المواصلات وعدم توفير سكن للعمالة.

كل ذلك يُشكل عبئًا جديدًا على جموع العمال، بحسب «المدبغجية» الذين أكدوا أن المعاملة هناك غير جيدة، والمياه لا تصلح للشرب وتصيب العاملين بالأمراض القاتلة، فضلًا عن بُعد المسافة وعدم توفير السكن المناسب وسط غلاء الأسعار.

في منطقة الروبيكي بالقاهرة الجديدة «صاحب العمل هناك هيشغلك على كيفه، وانت مجبر إنك تشتغل أو تقعد في البيت».. يقول عم سمير الذي يطالب بأن يكون لهم كيان أو نقابة تحفظ لهم حقوقهم أو مكتب شكاوى يلجأون إليه حال تعرض أحدهم للفصل أو الطرد من قبل صاحب العمل.

تعب وشقاء

يوزع عمال المدبغة العمل بينهم طوال اليوم إلى فريقين، أحدهما يتولى مهمة الخدمة عبر نقل وتحميل الجلود و«تعتيقها» والعمل على الأحواض والبراميل التي تغلي الجلود وينتهي من تفريغ 5 أو 6 أحواض يوميا، والفريق الثاني صنايعي يقف على ماكينة «المقلوبة» ويتم نشر «الطريحة» قبل إدخالها على الماكينة التي يُعسكِر عليها «مدبغجي» محترف طوال 12 ساعة كاملة.

في الجوار كان يحمل محمد أحمد، أحد عمال الخدمة مطرقته الحديدية للطرق على جلد الماشية في أولى مراحل عملية الدباغة، في مهنة كلها تعب وشقاء من أول الجلد حتى المرحلة الأخيرة التي يتم التشحيم فيها ونشره، يتم إزالة الشعر من على الجلد عبر إضافة الجير عليه ومادة كيميائية تعرف باسم «الأجزة» ثم يتم تأسيسه بعد ذلك حتى تتماسك أليافه للدخول إلى ماكينة «المقلوبة» لإزالة كل الشغف من داخله.

الموت قهرًا

ترهقهم الصنعة، وتتعبهم روائحها الكريهة، وتزداد معاناتهم كل ساعة مع دباغة الجلود، تلك المهنة الشاقة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ويعملون بها منذ عقود طويلة ولا يتقنون غيرها، ولكنهم يعملون بمبدأ «صنعة في اليد تغني عن الفقر وإن دامت تطول العمر» وعدد كبير من عمال الخدمة يعانون من المرض نتيجة كثرة التحميل على الأكتاف، ونقل الجلود لمسافات طويلة على ظهورهم.

في ركن جانبي كان يجلس أحد الشيالين المغلوب على أمرهم ويُدعى عم حسن الجيلاني على جانبي سور المدبغة الداخلي، نتيجة الإرهاق الشديد من جراء حمل الجلود طوال اليوم، والذي أصابه بالعديد من الأمراض، حيث يعاني من ضعف في النظر وضيق في شريان القلب لا يملك تكلفة تركيب دعامة بعد أن استنزف الحادث الأليم الذي تعرض له أثناء العمل جُل ما يملكه بسبب تركيب شريحة مسامير في قدمه اليمنى ومع ذلك يتحامل على نفسه من أجل الإنفاق على ذويه.

«عاوزين نعيش»

يقوم عم حسن بنقل الجلود من المخزن للسيارة إلى المدبغة مقابل 70 أو 80 جنيها يوميا، وقرار نقلهم إلى الروبيكي يراه بالسيئ: «أنا شغال ببطني عندك اليوم بيومه لا معاش ولا تأمينات، ومش عارفين نوفر مصاريف بيتنا، ونقلنا للروبيكي كأنه بيخلع روحنا من جسمنا والقرار خراب لبيوتنا».

«عاوزين نعيش».. بنبرة حزينة يقول الجيلاني، العامل الستيني الذي تكتسي ملامح وجهه بالسواد ويغزو الشيب رأسه: إنه يسكن في شقة بالإيجار ويسدد قرابة 1000 جنيه للإيجار والكهرباء والمياه، يساعده نجلاه في العمل بعد أن أصيب أحدهما بالغضروف نتيجة الأحمال الثقيلة التي ينقلها كل يوم.

منطقة المدابغ بمصر القديمة تعاني من مخاطر صحية وبيئية جسيمة جراء عمليات دبغ الجلود بالطرق التقليدية، واستخدام المواد الكيميائية لمعالجة الجلود.

البراءة في المدبغة

أطفال كُثُر في المدبغة يعملون جنبًا إلى جنب مع آبائهم، البعض منهم يحمل الجلود ويذهب بها إلى الصنايعي، والبعض الآخر يقوم بتجهيز مادة «الأجزة» الكيماوية التي تنزع الشعر الزائد عن الجلود، رغم خطورتها على صحتهم حتى تجف ويتم تنظيفها بشكل أسرع ولكن لها رائحة نفاذة أقوى من رائحة السجائر كل من يقترب منها يُصاب بالسعال و«يكُح» باستمرار.

في رسالة أخيرة ينقلها عمال المدابغ بمصر القديمة إلى أصحاب القرار قائلين: «اتقوا الله فينا لأن مالناش مكان هناك والروبيكي مش لأي حد تبع شغل الاحتكار واللي معاه فلوس هيكسب والصغيرين هيموتوا من الجوع».. رغم إن صغار الدباغين حسب تعبيرهم هم الذين يخدمون الغالبية الأكبر من المواطنين عبر توفير جلود الحذاء ذات المئة والمئتي جنيه، ولكن التجار الكبار المتحكمين في سوق الجلود في الروبيكي يُصنعون الأحذية باهظة الثمن التي يتراوح سعرها بين 500 و1000 جنيه.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على