الإنتهازي النبيل وحراك الصدر السياسي

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

سليم سوزه
أتفهم تلك الأسباب التي تدفع بالمثقف العراقي نحو العزلة والإبتعاد عن التورط في الشأن السياسي، وفي أي حال من الأحوال ليست ثمّة ضمانة للنظرية الثقافية أن تنجح وسط بلد ناشئ تشكّل الفوضى الميزة الأكثر وضوحاً لسياساته الداخلية والخارجية.
منذ قديم الأزمنة، شكّل المثقف والسياسي ضدين متناقضين في النظرية والممارسة. لعل المرة الوحيدة التي تطابقت فيها رؤى النخبة الثقافية مع النخبة السياسية كانت في فترة الثورة الروسية قبل أن تطيح "الواقعية الإشتراكية" بهذا التحالف على يد ستالين ومفوّضه الثقافي زدانوف.مع ذلك، يبقى الجدل قائماً هل ثمّة نظرية ثقافية خالصة وصلبة موجودة في مكانٍ ما يمكنها تقديم نظرية سياسية متماسكة؟ أم أن النظرية الثقافية متغيّر فكري تشترك في صناعته ظروف البلد السوسيو - سياسية وطبيعة صراعات السلطة فيها؟أنا أجادل، ومعي آخرون، بعدم وجود نظرية ثقافية، وأنما ثقافة نظرية تتشكل وتتغير بإستمرار. ثقافة تصنع مساراتها عدة عوامل، منها حدة التداخل بين المثقف والسياسي ليس كما يفهمه بعض المثقفين على انه تورط سياسي للمثقف وانما رغبة في الحفاظ على فاعلية الثقافة وقدرتها على المراقبة والتصحيح والتنقيح.تداخل الثقافة والسياسة حاصل بصورة أو بأخرى، وحتى فكرة "الثقافة من أجل الثقافة" تنطلق بالنهاية من موقف سياسي.لا نتحدث هنا عن تورط المثقف في مواقف سياسية مخجلة شبيهة بمواقف تي أس أليوت وتورطه في معاداته للسامية وتحقيره اليهود او تأييد عزرا باوند للفاشية الايطالية وجنون موسوليني، أو حتى مواقف سلفادور دالي الداعمة لدكتاتور اسبانيا فرانسيسكو فرانكو. اذا كانت هذه المواقف العنصرية اليمينية تُدان وتُوصَف بالرجعية، فأننا حتماً لا نريد تورطاً سياسياً "تقدمياً" يدعم جنون اليسار المتشدد على الضفة الأخرى كما حصل مع فناني ومثقفي الثورة الروسية الذين تجاهلوا مجازر ستالين واعتبروها "تقدمية" ضرورية لمواجهة تلك "الرجعية" المدانة. ثمّة "حياد إيجابي" يمكن للمثقف العراقي من خلاله قياس صلاحية ومصداقية الخيارات السياسية المطروحة ويصطف مع الأقرب منها للقيم الانسانية في مواجهة تلك التي توصف بالأكثر تشدداً وحماقة.الجدل الذي أثارته انتخابات العراق الاخيرة صنعت شرخاً واضحاً في مواقف الأنتلجنسيا العراقية. فجماعة ترى إن حال العراق لا ينصلح الى بتغيير راديكالي يطيح بهرم العملية الطائفية من الأعلى واستبدالها بمعادلة صفرية جديدة، وأخرى تعتقد إن تغييرات هشة وبطيئة كالتي حصلت في الانتخابات الأخيرة كفيلة بخلخلة أساسات البناء الطائفي ولو بعد فترة. كلا الموقفين يقعان في خانة الآراء العمومية التي يمكن لأحدنا الاتفاق او الاختلاف معها، لكن ما يثير حساسية بعض المثقفين ذلك الرأي الصريح والمباشر الذي يعلن تأييده لهذا المسار السياسي او ذاك. هنا تصبح المشكلة أكثر تعقيداً طالما ستدخل فيها اتهامات وتقوّلات تصل حد الطعن بالضمائر أو الاتهام ببيع المواقف وما شابه.تأييد المثقف لهذا المسار السياسي أو ذاك لا يعني التورط في دعم غير مشروط له، وأنما إصطفاف ضرورة يُخضِع شعارات السياسي الى مختبر القيم الإنسانية، ومتى إبتعد السياسي عن تلك القيم، ينتهي ذلك التأييد ويتلاشى. هذا ما أسمّيه بالحياد الإيجابي؛ الحياد الذي يكون فيه المثقف غير محايد فيما يتعلق بالقيم الثقافية/الإنسانية التي يحرسها، ومادام السياسي مع تلك القيم فأنه يستحق الدعم والتأييد. شيء أشبه بالإنتهازية النبيلة هنا.المثقف إنتهازي نبيل يصطاد أكثر اللحظات مرونةً ليصنع منها مساراً حكيماً وسط مسارات الخراب والإنحطاط. هذه وظيفته التي لا يتقاضى عليها شيئاً سوى محاولة الحصول على فضاء آمن ومستقر يعيش فيه خياراته الحرّة. المثقف هنا كيان متغير هو الآخر وليس منتجاً جامداً لنظرية ثقافية دوغمائية لا تفاوض الواقع ولا تتساهل مع لحظاته الأقل شروراً.مواقف السيد مقتدى الصدر الأخيرة من هجومه على المحاصصة الطائفية ورغبته في تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة ومعاداته للتدخلات الأجنبية ومحاولاته لمحاربة الفساد وتقديم الفاسدين الى المحاكم، إضافة الى نَفَسه العراقوي الذي يبحث فيه عن اعادة انتاج الهوية العراقية وجعلها فوق الهويات الفرعية الأخرى، وقبلها التحالف مع الحزب الشيوعي في قائمة إنتخابية واحدة، وهو تمرد صريح على الأدبيات الدينية التي كانت ترى الشيوعيين كفرة وملحدين حتى الماضي القريب جداً، كلها مواقف سياسية محترمة تمشي جنباً الى جنب الموقف الثقافي الذي تحمله النخب المثقفة في العراق. وهذا ما يجعل مهمتهم في الوقوف معه مهمة أخلاقية بحتة وليست تورطاً سياسياً كما قد يفهمه بعضهم الآخر.باعتقادي، لا مصلحة في معاداة مسار الصدر السياسي الحالي من خلال ما يفعله بعضنا من إستذكار لمواقف الرجل السابقة بقصد إدانتها او التذكير "بتقلباته" السياسية السابقة او حتى الاستهزاء بتغريداته والسخرية من أتباعه. تشجيع الرجل وتأييده على مواقفه المرنة وتحولاته الايجابية مهمة المثقف "المحايد" الذي يفترض به أن يدعم مواقف لا أشخاص. لو تغيّر الصدر أو نكل بوعوده، حينها ممكن لذلك المثقف إيضاح موقفه وتبيان رأيه. أما اليوم، فالصدر هو المحور العاقل أمام محاور الجنون التي تحيط بنا من كل الجهات.

شارك الخبر على