​​ «​المكنجي».. عامل الرخام ​الذي يحمل روحه على كفه (الحلقة الثالثة)

ما يقرب من ٦ سنوات فى التحرير

غيرّت حرارة الشمس ملامح وجهه واختفت ابتسامته، وتهالكت ملابسه واكتست بغبار أبيض، توغل داخل صدره وأصابه بالأمراض الصدرية، التى يسكنها ببخاخ «الكورتيزون» وأفنى العامل المنياوى الشاب أحمد فتحى، جسده النحيل خلال رحلة عمل شاقة فى مهنة لم يكن يحلم بها فى يوم من الأيام زادته سنوات أكثر على عمره الثلاثينى، كالعقاب الذى يُجبر من يزاوله على الاغتراب عن أسرته وموطنه من أجل المائة جنيه «يومية» لم تعد تُغنى أو تُسمن من جوع.

هناك على طريق الأوتوستراد الصحراوي كانت الحرارة عالية والزحام يحكم قبضته على المكان، وعربات نقل الحجارة والجرانيت لا تتوقف عن الحركة وتنتظر عند المدخل لتسديد رسوم الدخول للمصانع فى «شق الثعبان» بالقرب من سجن طرة، وفى الجوار كان يتنقل العمال على قدم وساق بين «بلوكات» الحجارة التى تمتلئ بها أرجاء المكان.

وفى نهاية الممر الطويل كان يرفع العامل المنياوى أحمد فتحى بقايا كسر الرخام المتبقية من الحجر الكبير الذى يجرى تقطيعه عبر ماكينة النشر التى يعمل صنايعى عليها ليضع فضلات الرخام فى صندوق كبير يبتاعه بعد ذلك أصحاب الكسارات وورش الرخام.

نهار رمضانى طويل، وحرارة الجو تلهب ظهر «المكنجي» المنياوى الذى تحول شعره إلى اللون الأبيض بسبب الأتربة وتسلل الغبار إلى داخل عينيه وفى فمه حتى جف الحلق من شدة العطش، وضعفت قوته من أثر الصيام وبدى على وجهه أثار التعب وأصابه الشحوب والإعياء، ورغم ذلك يصر ابن الصعيد على استكمال صيامه، ويمضى الوقت الطويل، وهو على هذه الحال القاسية فى انتظار مدفع الإفطار بفارغ الصبر، يتحمل صعوبات العمل ويعمل ويصبر ويتعايش وينسى بعد حين، وفى أحيان كثيرة يصمت حتى لا يكون عُرضة للطرد والتشريد ومن ثم فقد مصدر رزقه الوحيد.

أول ما يلفت انتباهك عندما تقترب من زحمة المكان هى حالة العشوائية، والفوضى التى تسيطر على العقول والطرق الصحراوية المسكونة بالمطبات والحفر والأتربة التى صارت شهيقا وزفيرا لجموع العاملين هناك وسط غياب تام لأجهزة الأمن ووسائل السلامة والأمان داخل الورش والمصانع المتلاصقة فى «الشق» حتى لم يعد هناك من يحمى العمال من المرض والإصابات الطارئة أو حتى الموت المفاجئ.

كحفار متمرس يستخرج فصوص الألماس من باطن الجبل يهوى الصنايعى المنياوى مهمة نشر الجرانيت، وتقطيع الحجر الصوان عبر ماكينة النشر الإيطالية التى يعمل عليها ويديرها منذ أكثر من 12 عامًا حتى صارت أقرب إليه من ولده، بل وصل به الأمر لأن يصفها بأمه التى ربته، وأنهم أبناؤها ويطلق عليها «البقرة الحلوب» التى يأكلون من خيرها جميعًا (العامل والصنايعى والمحاسب وصاحب المصنع). 

قبل 14 عامًا بدأ فتحى عمله فى منطقة شق الثعبان الصناعية بمنطقة طرة كعامل نظافة يقوم بتنظيف كسر الرخام، ويجمع ما تبقى منه ويرميه فى الجبل، وكان يحصل على يومية متدنية للغاية قدرها 18 جنيهًا، زادت إلى 40 جنيها على مدى عامين عمل وتعلم ومشقة وتنقل بين ورش ومصانع الرخام المنتشرة فى المنطقة.

البحث عن وظيفة

من أقصى صعيد مصر جاء فتحى بخطى متسارعة إلى القاهرة، قاطعا كل هذه المسافات الطويلة، باحثًا عن فرصة عمل يقتات من ورائها وسبعة أفراد آخرين هم كل أسرته بعد أن ضاقت به السبل فى موطنه البعيد بالمنيا وأُغلقت أمامه الأبواب، وملّ من ساعات الجلوس الطويلة فى البيت وعلى المقهى، منتظرا الوظيفة الحكومية المناسبة التى قدم عليها منذ سنوات وتتوافق مع مؤهله الجامعى.

على مدى سنوات تنقل خلالها بين أكثر من مهنة ووظيفة ومن مصنع إلى شركة إلى عامل متجول فى الشارع، حتى وجد نفسه فى نهاية المطاف أمام ماكينة نشر الرخام فى «شق الثعبان» ليعمل «مكنجي» على ماكينة إيطالية الصنع لـ«تقطيع الرخام»، ونشر البلوكات إلى طاولة وطرود، مغتربًا عن أهله وولده ومحل إقامته لما يقرب من شهرين من أجل «لقمة العيش».

50 جنيهًا «يومية»

كان أول راتب يحصل عليه العامل المنياوى بعد أن تولى مهمته الجديدة فى عام 2006 ارتفعت اليوم إلى 100 جنيه لم تعد كافية لمتطلبات الحياة الغالية.

يبدأ فتحى يومه باكرًا، ويواصل عمله لأكثر من 12 ساعة واقفًا على قدميه تحت ماكينة نشر الرخام، ولا يغيب ذهنه لحظة واحدة عن الماكينات التى تستمر فى الدوران قرابة 10 أو 12 ساعة مع كل «بلوك جرانيت»، حسب قوة سلاح القطع المستخدم، ويستمر فى متابعتها وتزويدها من حين لآخر حتى تنتهى عملية النشر.

أسوأ ما يتعرض له عامل الرخام أو القائم على الماكينات هو أن يكتشف أن يكون هناك دمار أو عروق فى «بلوك الرخام» الذى يتم نشره وبالتالى يهدد جودة البلوك بالكامل، فيفاجأ «المكنجي» أن الماكينة تسحب منه، وينام البلوك على جنبه ويوشك أن ينكسر، فيتسبب فى تلفيات وخسائر مالية لا تقل عن 30 ألف جنيه.

«إحنا ولادها»

من شدة تعلقه بالماكينات صار يراها جزءا منه، يفكر بها طول الوقت حتى أدمن ضجيجها وأحب صوتها الصاخب يرتوى بالمياه المتناثرة منها ويتعلق بها حتى فى فترات نومه، يشعر بها ويدور معها حيثما دارت، ويتوقف عن العمل فى اللحظة التى يدوس فيها على زر الإيقاف، ويحسب لها ألف حساب لأنها حين تتوقف عن الدوران والنشر يقف حال الجميع ويتحولون إلى صفر على الشمال،  قائلًا: «الشغل مع الماكينة حساس جدًا وله معاملة خاصة ولازم تكون حاسسها».

دورة مياه مغلقة

«المونوفيرو» جهاز كهربائى مزود بسلك «wire» لمسح الجرانيت أو بلوك الرخام على المقاس المطلوب من الأمام والخلف «شغلانة لازم تتم على المتر والسنتميتر»، ثم يتم نقله بعد ذلك عبر الونش إلى الميناء ومنه للمعدية التى تسحبه داخل ماكينات النشر تمهيدًا لقطعه إلى أجزاء ثم يبدأ «المكنجي» بفتح المياه على البلوك، لكى يلين الحجر، ويتم تشغيل الماكينة فتمر المياه فى دائرة مغلقة عبر مواسير متصلة بخزان كبير للمياه يتم تكريره بعد كل دورة عمل عبر إضافة مادة أشبه بـ «الملح أو الشبه» التى تعزل المياه عن «السحالة» كل ثمان ساعات، ويستمر التشغيل من جديد.

«محدش فى الشغلانة دى حاببها بس مكملين فيها عشان مافيش غيرها».. يقول علاء جمال، صنايعى على ماكينة المونوفيرو مثل غيره يعمل فى مهنة لا يفصل بينها وبين الموت سوى خطوة واحدة، حيث يعمل على جهاز «wire» كهربائى من الممكن أن يقطع يده فى أى لحظة والعمل فى الرخام والجرانيت أثر بشكل كبير على نظره بسبب غبار السليكا المنبعث من قطع الحجارة.

بلوكات مميتة

رغم مُضى أكثر من 10 سنوات على الواقعة المريرة، لم ينس عمال الرخام بالمصنع إصابة عم جلال «صنايعى وناش» كان يرفع بلوكات الرخام على الونش كما اعتاد كل يوم، فوقع الطرد عليه ومات فى الحال، وكذلك واقعة عم محمد السباك الذى أصيب بغيبوبة السكر أثناء عمله بالمصنع، فوقع غريقًا داخل أحد أحواض المياه ولم يره أحد من العمال فمات غرقًا وغيرهم.

تاركًا أكوام الرخام المتناثرة من ماكينات النشر، بدا العامل الخمسينى عم جمال غاضبًا إثر تذكره واقعة ثالثة حدثت له قبل رمضان بأسبوع منذ عامين حين تعرض للموت مرتين أثناء عمله داخل مصانع «شق التعبان» نتيجة شدة الحرارة التى رفعت من ضغط الدم عنده، فأصيب باختناق قطع عنه النفس ونقلوه إلى مستشفى الريان القريبة بالمعادى.

وبعد إجراء الإسعافات الأولية اللازمة له تم حجزه بغرفة العناية المركزة لمدة 9 أيام كاملة بعد تعرضه لجلطة فى القلب اضطر بعدها أن يركب قسطرتين ودعامة فى القلب، تكاليف الجراحة كاملة والتى تزيد على 30 ألف جنيه تحملها عامل الرخام من جيبه ولم يتحمل عنه صاحب المصنع جنيهًا واحدًا سوى أجرة السيارة التى نقلته إلى المستشفى.

«اللى يموت مالوش دية»

انتقد عدد كبير من العمال الذين التقيناهم أثناء وردية العمل حظهم من العمل فى الرخام عند تجار وأصحاب مصانع لا يقدرونهم أو يؤمنون عليهم أو يعوضونهم عن مهنتهم الشاقة، يقول أحدهم: «لو عامل هنا مات صاحب المصنع هيرميه برا ولو اتعور ممكن يسيبه يوم اتنين أسبوع بعد كده يدور على غيره»، وهى عبارة تلخص أوضاع ما يقرب من 5 ملايين عامل داخل منطقة «شق التعبان» الصناعية.

اليوم صار مصير جميع العاملين بالرخام على المحك بعد محاولات التطوير والتقنين التى طرحتها الحكومة مؤخرًا، وأعطت أصحاب المصانع مهلة حتى 30 يونيو القادم لتوفيق أوضاعهم مقابل 1300 و1800 جنيه للمتر أو سحب الأرض منهم وتشريد العمال.

«اللى يموت فى مصانع الرخام مالوش دية».. بنبرة حزينة وتعبيرات غاضبة ووجه يحمل كل أوجاع الزمن ينقل «المكنجي» فتحى حزنه الشديد من غزو الصينيين لصناعة الرخام فى مصر، قائلًأ: «الشق اتسكن بالصينيين والعامل منهم عمره ما هيكون زى المصرى وماكيناتهم أرخص 100 مرة من دي»، ويتذكر واقعة بينه وبينهم حين وقع عطل فنى بماكينة النشر واستقدم صاحب المصنع أحد الفنيين الصينيين لإصلاحها فعدل فتحى عليه ووصل به الحال إلى أن يتحداه «لو طلع ورايا خطأ هالبس طرحة وأقعد جنب مراتي».

الصينيون يغزون صناعة الرخام

عبر طريق جبلى طويل يقع عدد من مصانع الرخام علي جانبيه، تبدو من الخارج أنها مختلفة عن باقى المصانع الأخرى المنتشرة فى المكان، حيث تعلوها يافطات مكتوبة بعبارات صينية وأخرى مصرية وتتقدمها ناقلات «تريلات» محملة بالحجارة الجيرية الكبيرة، وعدد كبير من بلوكات الرخام المتناثرة فى طرقات المدخل لتغلق الطريق على كل من يتجول بالداخل.

فى الجوار يوجد فنيون ومهندسون صينيون يضعون على رؤوسهم غطاءً للرأس، ويتحركون باستمرار، وينتشرون فى المكان كخلية نحل لا تتوقف عن الطنين، وعدد آخر قليل من العمال المصريين الذين يشاركونهم فى بعض أعمال النقل و«العتالة» قبل مرحلة «النشر» و«التقطيع» والتصدير بعد ذلك إلى الصين.

يصل إجمالى المصانع التى استأجرها الصينيون داخل منطقة شق الثعبان إلى نحو 50% و75% من الورش المنتشرة هناك، بعد أن توقف أصحاب المصانع عن الاستمرار فى الصنعة بسبب ارتفاع مستلزمات التشغيل، وهو ما يعنى أنهم يسيطرون على نحو 120 مصنعا لإنتاج الرخام و250 ورشة للتصنيع، الأمر الذى يهدد العمالة المصرية داخل المكان.

مؤخرًا تم الاستغناء عن 300 عامل مصرى كانوا يعملون فى تلك المصانع واستبدالهم بآخرين صينيين حتى تحول الجبل إلى مايشبه مدينة شنغهاى.

الفرق بين الشغل المصرى والصينى أن الأخير متكامل (نشر وتلميع وخط إنتاج كامل جلاية وديسكيهات لنشر الجرانيت أو ما تعرف باسم ماكينات أسطوانات على الفريزة والمقاسات بالملى تسحب على الجرار وتكون جاهزة على التصدير) بخلاف الشغل المصرى الذى يتم نشره فقط «طالع غشيم» يدخل بعد ذلك على ورش بلدى للتلميع.

تهديدات بالإغلاق والتشريد

على بعد خطوات كان صاحب المصنع يراقب جميع العمال فى الجوار من مكتبه المكيف، وهو يحمل بين يديه ورقة وقلم يحسب بها المكسب والخسارة من عملية نشر بلوكات الرخام فى هذا اليوم فى ظل أعمال الصيانة المتكررة لماكينات التشغيل وارتفاع أسعار مستلزمات التشغيل منذ قرار تعويم العملة المحلية، التى رفعت أسعار كل شىء (الكهرباء والمياه ويومية العمال والزيوت والشحوم) حتى اضطر عدد كبير من مصانع «الشق» للإغلاق وتسريح العمال.

يقول (شاهر.م)، صاحب المصنع إنه حزين على حال الصنعة ولم يعد لديه طاقة لتشغيل المصنع بالكفاءة القديمة بعد أن تراجع حجم العمالة من 30 عاملا فى ورديتى عمل إلى 6 عمال فقط فى وردية واحدة بثلث طاقة التشغيل بعد أن ارتفعت أسعار كل شىء من مستلزمات التشغيل وبات وضع العمال سيئا ومصير صنعة الرخام المصرى فى خطر وصار الشغل الصينى يضارب الوطنى حتى لم تتعد نسبة الإنتاج المحلى نسبة 5% من إجمالى إنتاج رخام «شق التعبان».

بلا تأمينات

الأزمة الكبرى التى يعانى منها عامل الرخام أنهم يعملون بلا تأمينات، وصاحب المصنع لا يؤمن على أى عامل لديه إلا بعد مرور 20 عامًا على عملهم الدورى بالمكان حتى لا يلتزم تجاههم بأى حقوق مادية حال مرضهم أو تعرضهم لإصابة عمل تودى بحياتهم.

قبل الرحيل اكتشفنا أن عددا غير قليل من عمال الرخام فى منطقة «شق الثعبان» لم يتناولوا الإفطار حتى الآن فى بيوتهم وسط ذويهم بسبب «لقمة العيش»، وتحملهم آلام الغربة ومشاق العمل القاتلة من أجل شراء «كسوة العيد» وتوفير ملابس العيد لأبنائهم، حتى اختتم الحديث أحدهم، قائلًا: «مضطرين نشتغل وندوس على نفسنا عشان خاطر عيالنا، ولو قعدنا يوم من غير شغل مش هنعرف نأكلهم أو نصرف عليهم».

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على