قراءة أولية في انتخابات ٢٠١٨

أكثر من ٦ سنوات فى المدى

 د. لاهاي عبد الحسين
يُعدّ المسح الاجتماعي أحد الطرق الشائعة واسعة الانتشار في مجال البحث الاجتماعي الميداني للتعرف على آراء الأفراد وتوجهاتهم في مجالات يحددها الباحث. وتقوم طريقة المسح الاجتماعي على استقراء آراء أو مواقف مجموعة واسعة من الأشخاص من خلال سؤال أو مجموعة من الأسئلة ضمن محور معين مدروس نظرياً ومشبّع فكرياً ممن ينبغي ألا تقل نسبتهم العددية عن 5% من المجموع الكُلي لحجم مجتمع الدراسة لكي تعتبر النتائج موضوعية ومقبولة وقابلة للتعميم. وعليه فإنّ التأمل في النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات النيابية العامة التي جرت في العراق مؤخراً تقدم فرصة مغرية للباحثين الاجتماعيين للتأمل في الهوى السياسي للمجتمع يمكن أنْ تعطي تصوراً أولياً وأساسياً لآراء وتوجهات المواطنين العراقيين ممن بلغت نسبة مشاركتهم في هذه الانتخابات حدود الـ 44% من مجموع المواطنين الذين يحق لهم المشاركة. وهذه نسبة كافية لأغراض القراءة العلمية الأولية. أضف إلى ذلك أنّ الانتخابات جرت في كل المحافظات بما فيها محافظات إقليم كردستان العراق مما يدعم مشروعية النظر فيها وعدّها قابلة للتعميم بغض النظر عن الزوبعة والصخب الذي يثيره المعترضون الخاسرون وبخاصة من قبل النواب المرشحين ممن لم يتورعوا حتى اللحظة من استخدام نفوذهم حتى وإنْ تعارض مع القواعد القانونية التي نظمت في ضوئها العملية الانتخابية. لعلّ أحد أهم ما تمخض عن انتخابات 2018 تراجع الكتلتين الرئيستين اللتين برزتا بعد انتخابات 2014 وهما كتلة السيد إياد علاوي ذات الأغلبية السنية (91) مقعداً وكتلة السيد نوري المالكي ذات الأغلبية الشيعية (89) مقعداً إلى (21) و(25) مقعداً لكليهما على التوالي في الانتخابات الحالية. معلوم أنّ تلكما الكتلتان لم تحسما الأمر آنذاك مما اضطر كتلة دولة القانون إلى عقد تحالفات مضنية للحصول على أغلبية نيابية تركت البلاد في حالة هياج سياسي وعدم استقرار وفتحت المجال لتدخلات خارجية مقلقة وفائضة عن الحاجة. أما اليوم فقد أظهرت نتائج الانتخابات الحالية انقساماً أشدّ مما حصل آنذاك، حيث توزعت أصوات الناخبين بطريقة تجعل من المستحيل على أيّ منها تشكيل حكومة بدون توسيع إطار التحالفات الاضطرارية التي بدأت تلوح بالأفق. معلوم أنّ الجماعات الرئيسة، حصلت على المقاعد بحسب النتائج الأولية المعلنة حتى اللحظة كما يلي: سائرون (54)؛ الفتح (49)؛ النصر (42)؛ دولة القانون (25)؛ الوطنية (21)؛ الحكمة (19)؛ بيارق الخير (13)؛ وكتلة القرار العراقي (7). من جانب آخر مع أنّ كتلة النصر التي يقودها السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي حلّت ثالثة في تسلسلات الفوز المرتبك والمنقسم بشدة إلا أنّها الوحيدة التي كسبت مقاعد في المحافظات المتضررة نتيجة الحرب ضد داعش وهي نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك. وهذا ما يعطي كتلة النصر زخماً نوعياً ليس من الحكمة الاستهانة به. وهناك خاصية أخرى مهمة حظيت بها انتخابات عام 2018 وهي خروج عدد من النواب السابقين المعروفين من حلبة المنافسة أمثال حنان الفتلاوي (من أكثر من 90 ألفاً عام 2014 إلى أقل من 5 آلاف عام 2018) وسروة عبد الواحد وعبد الكريم عبطان وشروق العبايجي وسليم الجبوري وأسامة النجيفي وميسون الدملوجي وغيرهم. كان طبيعياً ألا يرضى هؤلاء بنتائج الانتخابات ليسارعوا إلى الطعن بها في مؤتمرات صحفية ظهروا فيها بعلامات حزن واضحة. ولم تكتف كتلة"خاسرون"العابرة للطوائف والجماعات اذا صح التعبير بالإعلان عن عدم الرضا والطعن بنتائج الانتخابات بل وطالبت بعقد جلسة استثنائية وافق عليها السيد رئيس مجلس النواب العراقي وهو أبرز الخاسرين بسرعة البرق لتعقد السبت الموافق 19 أيار الجاري، جلسة طارئة لاستجواب أعضاء المفوضية عن الأسباب. يذكر في هذا المجال أنّ الخبير القانوني والقضائي السيد عبد الستار النداوي، أوضح في صفحته على الفيسبوك، أنّ دعوة مجلس النواب العراقي لعقد جلسة طارئة لمساءلة أعضاء المفوضية العليا للانتخابات حول النتائج غير المرغوب بها من قبل الخاسرين فيها حصراً، يعتبر غير قانوني أولاً وغير منتج ثانياً. فقد رسم القانون والدستور الطريقة القانونية والقضائية للاعتراض على آلية الانتخابات ونتائجها. وعليه فإنّ على المعترضين أفراداً وجماعات، أنْ يسلكوا الطريق الذي نصّ عليه قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهو إما أنْ يتقدموا بشكاوى أو طعن إلى مجلس المفوضين ومن ثم الهيئة القضائية في محكمة التمييز الاتحادية. وخلاف ذلك يُعد لغواً وخارج السياق القانوني. وأضاف السيد النداوي، أنّ مجلس النواب العراقي لا يملك صلاحية إلغاء النتائج أو إبطالها وإنّما يملك فقط صلاحية الاستيضاح والاستجواب.تشير النتائج وردود الفعل المعبّر عنها على الصعيدين الرسمي والشعبي، إلى أنّ العملية الانتخابية الديموقراطية في العراق ستبقى رهن التحالفات والتهديدات والطعن والتشكيك ما دام المتنافسون فيها لا يحترمون أول وأبسط قواعدها المتمثلة بقبول النتائج. يلاحظ أنّ هؤلاء الخاسرين أفراداً وجماعات كانوا من ذوي التمويل المالي الكبير والمحظين بدعم اعتباري ومعنوي عال، بدليل المعروفية التي تمتعوا بها إسماً والتي مكّنتهم من إطلاق حملات إعلامية مكثّفة ومكلفة واستأجروا مقاراً عديدة بثّوا المشتغلين فيها لصالحهم وأستولوا على مواقع مهمة لنشر لافتاتهم الضوئية وغير الضوئية وفي محافظات كثيرة. إلا إنّ ما فات هؤلاء أنّ الترويج الإعلامي الواسع والمعروفية التي ظنوا أنّهم يتمتعون بها استندت إلى عامل عزل المرشح المشارك لنفسه عن القاعدة الشعبية التي ادعى تمثيلها في الدورة النيابية السابقة والاكتفاء بقراءة المزاج الاجتماعي بطريقة فوقية من خلال المخبرين المنحازين والمتزلفين وغير المخلصين لمهامهم والاعتماد على مستشارين اكتفوا بلعب دور المهرج وليس المراقب الحيادي والنقدي المبصر، مما قاد إلى فشل محتم بالضرورة. وهناك حقيقة مهمة أخرى، فات هؤلاء الخاسرون التفكر فيها وهي أنّ المال مهم ولكنّه لا يعمل بذاته من حيث أنّه لا يملك ذاتاً البتة. فالمال لا يشتري الثقة والمحبة والاحترام من جمهور الناخبين الذين راكموا مشاعر الاغتراب عن ممثليهم المفترضين. ثم إنّ بذل الجهد مع الرؤوس من أمثال الشيوخ ورؤساء العشائر والوجهاء لم يعد ليقدم ضمانات مؤكدة في زمن صار فيه المواطن رقماً صعباً وبخاصة اذا ما استخدم صوته بصورة واعية ليعبّر من خلاله عن قناعته الحقيقية. بالنهاية فإنّ إرادة المواطن لا تخطأ وبخاصة اذا ما أخذت مجتمعة. بالتأكيد كان للمرجعية الدينية دور مهم في سير مجرى الانتخابات كما يقر بذلك كثير من المواطنين ممن أخذوا بما أملته عليهم في البيان الصادر عنها والذي أعلنه الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة الجمعة التي سبقت إجراء الانتخابات بثمانية أيام في الرابع من أيار الجاري. ولعل أكثر ما حظي بالاهتمام الفقرة التي تتعلق بـ"حق الفرد للمشاركة في الانتخابات وأنّ قرار المشاركة من عدمه متروك له وحده". كما دعت المرجعية الدينية إلى إهتمام الناخبين بأصواتهم لاختيار من لم يسهم بإخفاقات الماضي ولم يسئ استغلال السلطة ويسهم في نشر الفساد وهدر المال العام والفشل في أداء الواجبات تجاه المواطنين. كان لمثل هذه التدخلات المسؤولة من قبل المرجعية الدينية أنْ تشجع المواطنين الذين اشتركوا في الانتخابات للتعبير عن خيارات عزلوا فيها الفاشلين والمخيبين للآمال.تبقى ملاحظة ألا يستبد طرف على طرف ضمن الحلقة المغلقة للكتل والجماعات الفائزة بالنسب المشتتة المعلن عنها. وقد يكون في تحالف سائرون مثل جيد، حيث تحمّل الشيوعيون الكثير من قبل أوساطهم المباشرة وجمهور أصدقائهم بسبب التحالف مع كتلة ذات توجهات دينية معروفة تمثلت في حزب الاستقامة الممثل للتيار الصدري. لقد استفاد الصدريون من الغطاء الذي منحهم إياه الشيوعيون كونهم يحظون بتحالف المثقفين المتسامحين والمعبئين بإرادة وطنية لا جدال حولها. بالمقابل، كسب الشيوعيون من التحالف مع الصدريين أنْ أمنوا جانبهم من حيث التجاوز والاعتداء والاستفزاز، وإنْ كان على مستوى حالات فردية. لعل الامتحان الأكبر سيكون بتقديم شخصيات مؤهلة لقيادة الحكومة على أساس التعاون النوعي وليس المحاصصاتي بحسب الأصوات ووزن الكتلة أو الحزب. فالتحالف الناجح هو الذي يقدم الشخصيات المؤهلة للعمل من حيث المستوى العلمي والخبرة والكفاءة الإدارية الكافية وليس الشخصية التي حصدت عدداً كبيراً من الأصوات بدعم الحزب وتعبئة أنصاره للتصويت إليه.

شارك الخبر على