النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود ١٠.. لماذا وقعت مذبحة دير ياسين؟

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

تاريخ المواجهة الدامى ربما يرجع إلى ما قبل تلك الأيام بسبعين عاما تقريبا؛ فالذاكرة الفلسطينية والإسرائيلية تسجل أن تاريخ الصدام الأول يرجع إلى العام 1886.

ينتهى المجلد الأول من كتاب المؤرخ عارف العارف "النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود"؛ المكون من ثلاثة مجلدات، بتسجيل وقائع الأيام الخمسة التى انقضت بين الرابع عشر من شهر مايو 1948، وهو اليوم الذى رحل فيه الإنجليز عن البلاد، والثامن عشر وهو اليوم الذى دخل فيه الجيش العربى، ففى اليوم التالى لخروج الإنجليز أعلن زعماء الصهاينة فى فلسطين تأسيس دولة "إسرائيل"؛ استنادا لقرار التقسيم (رقم 181) الذى أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة (فى 27 نوفمبر 1947)، ويصف العارف، تلك الأيام الخمسة بأنها "كانت أكثر الأيام هولا وأعظمها أثرا فى مصير القدس ويسميها المقدسيون: "الأيام الحمراء"، إذ ما كاد الفوج الأخير من الأفواج الإنجليزية يغادر المدينة فى اليوم الرابع عشر حتى وقف الفريقان العرب واليهود، وجها لوجه، واشتعلت نيران القتال فى جميع أنحاء المدينة واشتدت الفوضى".

لكن تاريخ المواجهة الدامى ربما يرجع إلى ما قبل تلك الأيام بسبعين عاما تقريبا؛ فالذاكرة الفلسطينية- والإسرائيلية تسجل أن تاريخ الصدام الأول يرجع إلى العام 1886؛ حيث وقع صدام مسلح بين فلاحي الخضيرة الفلسطينيين- قرية فلسطينية تقع بين تل أبيب وحيفا- ومستوطني "بتاح تكفاه" المستعمرة (الصهيونية) الناشئة بجوارهم على خلفية خسارتهم عملهم في الأرض التي بيعت للصهاينة.

ودون الخروج من سياق كتاب العارف يمكن اعتبار مواجهة الخضيرة- بتاح تكفاه الممتدة عبر الزمن مؤشرا على الحضور الفاعل والقوى فى الذاكرة لكل الوقائع التى جرت وتفاعلاتها، فإذا كانت البداية ناتجة عن هجرة لمجموعة من اليهود الروس إلى هذه البقعة من الأراضى الفلسطينية، ثم نجاح بعضهم فى شراء قطعة أرض وإقامة مستوطنة عليها ما نتج عنه مصادمات مع المواطنين الفلسطينيين طوال النصف الثانى مع العقد التاسع من القرن التاسع عشر، فإن هذه المنطقة شهدت عشرات المواجهات الدامية، فبينما تم تفريغ المنطقة تقريبا من الوجود الفلسطينى؛ عبر الإرهاب والتهجير والطرد والمصادرة التى كانت سياسة متعمدة للدولة الصهيونية منذ تأسيسها، فإن المقاومة الفلسطينية المسلحة قد رأت أن تكون أولى عملياتها العسكرية فى هذه البقعة.

 فينقل لنا الفريق محمد فوزى فى كتابه "حرب الثلاث سنوات (1967- 1970)" أن "قوات المقاومة الفلسطينية قامت بعمليات جريئة بعد هزيمة 1967 منطلقة من الجبهة الأردنية، ففى شهر ديسمبر 1967 هاجمت مستعمرة "بتاح تكفاه" قرب تل أبيب، ونسفت خط الحديد بين تل أبيب والقدس، وهاجمت قطار السكة الحديد بين تل أبيب وبئر سبع، ثم بعد قفزة ليست قصيرة فى الزمن وقعت فى نفس المكان عملية سميت "عملية الخضيرة"، ففى يوم 26 أكتوبر 2005، وعند مدخل سوق الفاكهة والخضار الرئيسي في الخضيرة فجر شاب نفسه عبر حزام ناسف ليوقع سبعة إسرائيليين قتلى، وجرح 55 آخرين، وأعلنت حركة الجهاد الإسلامي مسئوليتها عن العملية، وقالت إن شابا فلسطينيا يبلغ من العمر 20 عاما يدعى حسن أبو زيد وينحدر من بلدة قباطية في الضفة الغربية، هو من قام بها.

نعود إلى العارف، الذى يدلنا على أن دخول الدول العربية السبع الأعضاء فى الجامعة العربية وقتها الحرب فى مواجهة اليهود بات أمرا مؤكدا بمرور الوقت، وتحت عنوان "قوة العرب واليهود" ينقل لنا التقدير العسكرى الرسمى، ففى 23 مارس 1948 رفع إسماعيل صفوة باشا، بوصفه القائد العام، إلى رئيس لجنة فلسطين تقريرا سريا، أكد فيه أن مجموع القوات اليهودية (هاجانا وأرجون وشترن) لا يقل عن خمسين ألف مقاتل، وأن للهاجانا قوة ضاربة مجموع رجالها خمسة آلاف مقاتل وهى تدعى (البالماخ) بمثابة المغاوير أو ما يسمونه بالكوماندو، هذا بالإضافة إلى قوات الدفاع المحلية فى المستعمرات ومجموعها عشرون ألفا، نصفهم فتيات، وليس للعرب فى يومنا هذا سوى 7700 مسلح منهم 5200 متطوعون، تدربوا على القتال فى معسكر قطنا (سوريا)، و2500 مجاهد فلسطينى، وليس لدى المتطوعين سوى 14 مدفع هاون و8 مدافع ميدان خفيفة بينما لليهود مئة دبابة ومئة وخمسون مدرعة وواحد وعشرون طائرة". وختم الباشا تقريره بقوله: "على الجيوش العربية أن تنزل إلى الميدان وأن تشترك فى القتال بكل ما تملك من أسلحة ورجال، وأن تسرع هذه الجيوش فى استكمال نواقصها ونواقصها كثيرة، وإلا فلن تكون قادرة على العمل عند انتهاء الانتداب إذا بقيت على ما هى عليه...وسيسبقنا الزمن كما سبقنا من قبل".

ميزان القوى المختل هذا ظل يفعل فى أرض الواقع بقوة هائلة فى كل مواجهة بين العرب واليهود، ويتتبع، العارف، المعارك الرئيسية خاصة تلك التى جرت على مدن الساحل الفلسطينى الكبرى: يافا، عكا، حيفا، ثم فى مدينة القدس وفى القسم اليهودى منها، ويقدم وصفا تفصيليا لمذبحة دير ياسين، التى يقدم لها تعريفا اقتصاديا واجتماعيا دقيقا فى الهامش، فهى: "قرية عربية من قرى القدس، وعلى بضع مئات من الأمتار منها إلى الغرب. يقطنها 775 نسمة كلهم عرب شوافع (على مذهب الأمام الشافعى)، ينتمون إلى ثلاث حمايل (عائلات): شحادة، حميده، عقل، يملكون 1700 دونما- الدونم حوالى 1000 متر مربع- من الأراضى الزراعية، نصفها لزراعة الحبوب والنصف الآخر للأشجار المثمرة كالعنب والتين والزيتون بعضهم مزارعون والبعض الآخر تجار ومقاولون، ولهم محاجر وكسارات ومطاحن وسيارات، ولهم أملاك فى مدينة القدس، وجلهم- إن لم نقل كلهم- اغنياء يعيشون عيشة تدل على السعة والثراء، فيها مسجدان، ومدرستان؛ واحدة للذكور والآخرى للأناث، وفيها ناد للرياضة".

ثم يشدد، العارف، على أن "هذه القرية العربية الصغيرة التى يحيطها اليهود من كل جهة كانت مطمئنة، وكانت على حد اليقين بأن اليهود لن يعتدوا عليها، إذ كان بينها وبينهم وعد ألا يعتدى أحد الفريقين على الآخر، إنها القرية العربية الوحيدة التى لم تبادر اليهود بقتال، وما كان فى مقدورها وعدد سكانها لا يزيد كما قدمنا- على السبعمئة إلا قليل أن تتحرش بجيران لها ينوف عددهم على مئة وخمسين ألفا".

ثم يصف المذبحة تفصيليا: "بدأ الهجوم فى الساعة الرابعة والربع من صباح يوم الجمعة الموافق 9 أبريل 1948 واشترك فى هذا الهجوم طائرة قذفت القرية بسبع من قنابلها/ ثم تقدم المشاة يحيميهم زهاء خمس عشرة دبابة، فهاجموا دير ياسين من ثلاث جهات...وما كان اليهود فى حاجة لمثل هذا العدد الكبير هناك، إذ لم يكن فى القرية سوى 85 مسلحا، يحملون حوالى ستين بندقية من البنادق الاعتيادية الخفيفة ورشاشين من نوع "برن" وأربعة من طراز "ستن" ولم يكن لديهم من الذخائر ما يكفيهم لأكثر من ساعة أو بضع الساعة".

ثم يقدم العارف، وصفا دراميا بالغ الدلالة على وقائع تلك الأيام: "وقد استغاثوا بالمالحة وعين كارم والقرى المجاورة، إلا أنهم لم يغيثوهم" وفى الهامش يعلق: "كثيرا ما اقترف العرب، ويا للأسف، هذا الخطأ فكانت القرية أو الجبهة الواحدة تحارب العدو وحدها، فلا تأتى القرية المجاورة لنجدتها، أو تقوم الجبهة الأخرى بعمل آخر لتخفيف الضغط عنها".

ويعود ويواصل وصفه الدرامى: "رغم أن فريقا من جيش الإنقاذ كان يرابط يومئذ فى عين كارم، وكان عدد هذا الفريق ينوف على المئة، كلهم من السوريين والعراقيين، فلم يركض هؤلاء أيضا لإغاثة دير ياسين، لا، ولا زودوا المناضلين الفلسطينيين بالذخيرة والعتاد، كما أن الجيش البريطانى ورجال البوليس الفلسطينى الذين وصلهم الخبر لم يركضوا لنجدتهم، لا، ولا الصليب الأحمر".

وأخيرا يقدم تقرير المعركة- المذبحة النهائى حسب ما حدثه به فريق من شيوخ القرية: "اليهود قتلوا فى ذلك اليوم مئة وعشرة أشخاص بينهم سبعة من الشبان المسلحين الذين دافعوا عن القرية وقتلوا فى المعركة، وأما الباقون (103) فقد قتلوهم فى منازلهم، وهم الذين لم يستطيعوا الهرب من القرية وأكثرهم شيوخ ونساء وأطفال.. وبين النساء خمس وعشرون حاملا، رموهن كلهن بالرصاص".

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على