عمار الشريعي.. كفيف غير مسار الموسيقى العربية

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

عمار الشريعي.. ابن صعيد مصر الذي ترك علامات وبصمات في الموسيقى الآلية والغنائية المصرية، بالإضافة إلى الموسيقى التصويرية للكثير من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية وذلك رغم أنه كفيف، موسيقاه لا تستشرف لآفاقها حدًا، فلا صراع مفتعل بين الموسيقى الشرقية والغربية يوقفه عن مزجهما باقتدار، ولا شعر معقّد يعجز عن اجتياحه بالنغم، ولا حالة إنسانية إلا ولها من موسيقاه نصيب، خالقًا بموسيقاه الوسيط الروحي بين الكلمات ومتلقيها، واستطاع النفاذ إلى جوهرها وعوالمها بسلاسة وعمق.

أنا مش أعمى ياهوه..

يا خلق يا عميانين..

دانا قلب ما في أخوه..

لكن زماني ضنين..

أنا لا أنا عاجز ضرير..

ولا كل من شاف بصير..

ولله يا عمي القلوب..

لا أخط بإيدي المصير..

النشأة

هو عمار علي محمد إبراهيم علي الشريعي، ولد مكفوفًا في 16 إبريل 1948، بمحافظة المنيا، من أصول عائلة هوارة بالصعيد، نشأ محبا للموسيقى وبدأ يتعلم العزف على آلة البيانو وعمره ثلاث سنوات، وكانت ابنة عمه تعلمه العزف عن طريق تسمية النغمات بأسماء الأصابع، وجاء إلى القاهرة وعمره خمس سنوات، والتحق بمدرسة "هادلي سكول" الأمريكية لتعليم المكفوفين، وبدأ في تعلم التدوين الموسيقي وعمره سبع سنوات، وتأسس تأسيسًا قويًا سواء في التحصيل العلمي لعلوم الموسيقى، أو الممارسة العملية من خلال عزفه على الأكورديون، ثم دراسته لآلة البيانو 8 سنوات، وكان في التاسعة من عمره حين قام بتلحين أول عمل فني وهو أغنية "أمي"، أهداها لوالدته.

بداية المشوار

عندما بلغ من العمر 14 سنة، عزف على آلة العود التي من خلالها عرف أسرار الموسيقى العربية ومقاماتها وكل فنونها، وبدأ يطور نفسه بنفسه، ومن شدة إعجابه بفريد الأطرش كان يريد أن يعزف موسيقى "توتة"، فتدرب عليها بعصبية شديدة تسببت له بتمزق في كتفه، ولكن اتجاه الشريعي لاحتراف عزف الموسيقى، عرّضه لغضب أهله عليه، وتوقفهم عن إمداده بالمال الذي كان يدبر به أمور حياته في القاهرة، وعندما علِم الأطرش أن أحد أفراد عائلة الشريعي يحترف العزف، وأن العائلة لا ترغب في ذلك، وكان صديقًا للعائلة، قام بتنظيم حفلة في منزله على شرف عمار ودعا أعمامه للحفلة ووصفه بأنه "موسيقار كبير"، وعزف الشاب حينها على آلتي الأكورديون والعود.

الشريعي تخرج في آداب عين شمس عام 1970، وبدأ سلمه من أسفل درجة، عازف أكورديون في الملاهي الليلية، ثم عازفاً في "الفرقة الذهبية"، واتجه فيما بعد إلى التلحين والتأليف الموسيقى، حيث كان أول ألحانه في عالم الفن "امسكوا الخشب" للفنانة مها صبري في حفل عيد ميلاد إذاعة صوت العرب في الرابع من يوليو 1974، ثم تحول إلى الأورج حيث بزغ نجمه فيها كأحد أبرع عازفي جيله، واعتبر نموذجًا جديدًا في تحدي الإعاقة، نظرا لصعوبة وتعقيد هذه الآلة واعتمادها بدرجة كبيرة على الإبصار.

أعماله

وبرع في وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية والمسرحيات والتي نال معظمها شهرة كبيرة، ومن المسلسلات "رأفت الهجان، الشهد والدموع، وقال البحر، زيزينيا، الراية البيضا، عصفور النار، ما زال النيل يجري، الأيام، رحلة السيد أبو العلا البشري، النديم، أرابيسك"، وأفلام: "البريء، كتيبة الإعدام، يوم الكرامة، حب في الزنزانة، البداية"، وحصل العديد منها على جوائز على الصعيدين العربي والعالمي، وتجاوز عدد أعماله السينمائية خمسين فيلمًا، وأعماله التليفزيونية 150 مسلسلًا، وما يزيد على عشرين عملًا إذاعيًا، وعشر مسرحيات غنائية استعراضية، وزادت ألحانه على 150 لحنًا لمعظم فناني وفنانات العالم العربي.

الشريعي تعاون مع كبار المطربين أمثال وردة، وشادية، وميادة الحناوي، وعفاف راضي، ومحمد ثروت، ونادية مصطفى، وقام بتلحين أوبريت "سينا جينا زي الريح" الذي أطلق في أول احتفال لتحرير سيناء وغنى فيه علي الحجار وعفاف راضي، وعام 1991 بدأ المشاركة في احتفاليات أكتوبر وكان أول عمل له فيها هو "مصر البنايين"، وقد قام كذلك بتلحين الحفل الموسيقي الضخم الذي أقامته سلطنة عُمان عام 1993 بمناسبة عيدها الوطني وكذلك عيدها الوطني عام 2010، ورغم ظروفه الصحية، أصر عمار الشريعي على الوجود في ميدان التحرير ليشارك الثوار، وكان ضمن لجنة الحكماء التي تشكلت للمطالبة بحقوق الثوار.

فتح الشريعي لأجيال من شعراء العامية المصرية الحديثة، بدءًا من سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وحتى أيمن بهجت قمر، طريقًا واسعًا لتخرج أشعارهم من الدواوين إلى الفضاء الاجتماعي الواسع عبر الأعمال الدرامية، وفي الثمانينيات استطاع أن يدخل على آلة الأورج بعض التعديلات بحيث يدخل إليها إمكانية عزف الربع نغمة أو "السيكا"، والتي تميز كثيرًا المقامات الشرقية والعربية. فأصبحت آلة الأورج بدلًا من آلة تقتصر على النغمة ونصف النغمة، الآن تمتلك ربع النغمة أيضًا. وقام عمار بتسجيل هذه التغيرات وأرسلها لشركات صناعة الأورج العالمية وبالفعل قبلوها وتم حفظ حقه في هذا الاختراع.

قدّم عدد من الأغاني بصوته، ورأى أنه لا يستطيع أحد غناءها أو تقديمها غيره، ومنها: "نفسي أنا، الحب هو الحب"، ولكنه لم يكن من المحبين لأن يكون مطربًا لدرجة أنه لا يسمع نفسه، وحصد جوائز عديدة كان أهمها جائزة مهرجان فالنسيا في إسبانيا عام 1986، وجائزة مهرجان فيفييه في سويسرا عام 1989، والفوز بجائزة السلطان قابوس مرتين، وقدّم برنامجا إذاعيا شهيرا "غواص في بحر النغم"، وآخر تليفزيونيا "سهرة شريعي"، وشارك في تصميم وتنفيذ أول برنامج عالمي لقراءة النوتة بطريقة برايل "GOOD FEEL".

يتحدث عن إعاقته وفنّه: "طرح اسمي لوضع موسيقى تصويرية لفيلم سينمائي، فسخر البعض متسائلين: كيف يضع كفيف موسيقى تصويرية لفيلم مصور؟ ويومها قلت للمخرج: سأتكفل بتسجيل الموسيقى على نفقتي الخاصة، وإذا نجحت أحصل على حقوقي، وإذا فشلت فسوف أتحمل التكاليف وحدي وسألت المخرج عن أحداث الفيلم، ثم وضعت الموسيقى على الحوار، ونجح الفيلم، وقدمت بعد ذلك موسيقى أكثر من 50 فيلمًا".

أغاني الأطفال

تميّز في أغاني الأطفال وبدأ الاشتراك في احتفاليات عيد الطفولة عام 1982 لمدة 12 عامًا متتالية، وقام بتلحين 12 احتفالية، وشاركت في هذه الأعمال مجموعة من كبار الممثلين والمطربين مثل عبد المنعم مدبولي ونيللي وصفاء أبو السعود، ومن أبرز هذه الأعمال أغنية "شمس يا شموسة" التي غنتها عفاف راضي.

فرقة الأصدقاء

وكي يثبت أن الموسيقى العربية تستطيع أن تقدم نماذج من الفرق الصغيرة التي تؤدي أعمالاً غنائية معاصرة؛ كون الشريعي، عام 1980، فرقة "الأصدقاء" التي استمرت ثلاث سنوات ولحّن لها 36 أغنية طبعت على ثلاثة أشرطة كاسيت وطرحت في الأسواق، وأبرزها أغنيتا "الحدود، حبيبتي من ضفايرها".

محبوس أنا وعمايا في الأوضة..

والعتمة حوالين منّي مفرودة..

والسكة قدّام منّي مسدودة..

والدنيا كل الدنيا بير سودة

وفي 7 ديسمبر 2012، توفي الموسيقار الكبير عمار الشريعي، عن عمر ناهز 64 عاما، إثر صراع طويل مع مرض القلب، تاركًا نجاحات عدة رغم إعاقته البصرية، وبصمات في الموسيقى الآلية والغنائية المصرية، مشكّلًا حالة فريدة أو رائدة في مسار الموسيقى التعبيرية في التاريخ المصري الحديث منذ دشّنه العظيم سيد درويش.

شارك الخبر على