في اخر حوار معه قبل رحيله..المفكر والروائي سعد محمد رحيم أكتب لا ترفاً وإنما لإحساسي بأني لا أقف على أرض صلبة

حوالي ٦ سنوات فى المدى

حاوره: علاء المفرجي
كان الفقيد المفكر والروائي سعد محمد رحيم في زيارة للجريدة قبل أن يسافر الى السليمانية لحضور مهرجان كلاويز حيث وافته المنية هناك، أتفقت معه على إجراء حوار لثقافية المدى، وكان هذا هو اللقاء الاخير معه، مثلما هو الحوار الاخير:
 
 متى بدأت تخطط لتكون كاتباً؟.ـ يسبق الولع بالكتابة مرحلة التخطيط لحياتك في أن تكون كاتباً.. ومن الصعب تحديد لحظة التجلي الأولى.. تبدأ هاوياً، ومن الأفضل أن تستمر هاوياً كذلك.. شخصياً لا أستطيع استيعاب فكرة أن تكون الكتابة مهنة كما مهنة المحاماة أو التدريس أو الطب.. وحتى الكتّاب الكبار المتفرغون هم هواة في طريقة تعاطيهم مع الكتابة.. فالهواية تعني الشغف والفضول والحميمية والوقوع في الحب والتعاطي الحر مع الجمال وتذوقه.. الكتابة شغف، أولاً، يبزغ في جوانية المرء بتحريض من نداء غامض ملحاح.. أنت تتورط بالكتابة، في وقت مبكر من العمر، تلبية لحاجة ذاتية؛ نفسية ووجودية.. يقول بعضهم إنه يكتب ليتسلّى أو ليسلّي أصدقاءه، ويقول بعض آخر إنه يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يفعل هذا، وعند هؤلاء، وأنا للأسف منهم، الكتابة نوع من الإدمان. ويقول بعض ثالث إنه يسعى عبر الكتابة لتأكيد الذات.. وعموماً يسعى الإنسان لتمثيل نفسه في المجتمع والعالم بطرق شتى، إحداها الكتابة.. فحين أكتب رواية وأنشرها أريد في حقيقة الأمر أن أقول لكم؛ من أنا حقاً. ويكاد يكون هذا المبدأ الأول والقانون الأول في ضمن دوافع الكتابة.  يُقال إنك بدأت مع الشعر، ومن ثم انتقلت إلى السرد؟ـ جربت كتابة الشعر مبكراً جداً.. ربما كنت في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي لكن السرد كان نصب عيني دائماً.. ومنذ ذلك الوقت أردت أن أكتب القصص.. عشقي للقصص يكافئ عشقي للحياة.. غير أنني كنت بحاجة إلى الإمساك بتلابيب اللغة فرحت أغامر في منطقة الشعر، ولا زلت أفعل بين الوقت والآخر.. أكتب النص السردي وفي إهابي ساردٌ وشاعر، وإن كان مقصدي السرد قبل أي شيء آخر.. ليس من أجل التواصل فقط أوجد البشر اللغة، بل من أجل إشباع الحاجة إلى السرد أيضاً.. السرد حاجة، وأكاد أقول غريزة أساسية، كما هي غرائز الجوع والجنس والخوف والبقاء.. لها بعد فيزيولوجي ونفسي، فضلاً عن بعدها التاريخي والوجودي.. السرد يحاكي نظام العلاقات في الحياة والكون. التمثيل الأعظم للحياة يجري في عالم الأدب، وفي الرواية خصوصاً.. فالرواية تمنح قارئها حياةً بديلة، أو صورة للحياة، أما في ضمير كاتبها فهي الحياة نفسها.*في روايتك الأخيرة (فسحة للجنون) تعود مرة أخرى إلى البطل المثقف المأزوم والمهزوم.. لماذا؟ـ لأنه المثال الذي عايشته وعرفته عن قرب.. هو الشاهد والشهيد اللابطل.. هو الذي سينتكس في تجارب الحب والسياسة والفن على الرغم منه.. سيطيح الواقع بأحلامه الوردية، وسيكتشف بأن تصوراته ما كانت قائمة على أسس راسخة، وأن ثمة مفاجآت غير سارة ستحبطه وتعذبه وربما تودي بحياته أيضاً.. لكنني لست متشائماً تماماً.. أترك غالباً فسحاً لأشياء أخرى طيبة. فثمة فسحة للحب والحياة في مقابل فسحة الجنون والموت.. لا أريد أن أبيع الأوهام. وأعرف أن الكتابة لا تحمل وعداً بخلاص نهائي، لكنها واحدة من وسائل استمرار الوجه الجميل للحياة. فحين نكتب لا ندّعي أننا سنغيّر العالم. وإنما نوفر، ولو بقدر جد ضئيل، الأمل بتغييره. كما أننا حين نكتب رواية لا نفترض أننا سنفهم العالم تماماً، وحين نقرأ رواية لا نفترض أننا سنجد الخلاص.. وعلى الرغم من هذا نبقى نكتب الروايات ونقرأ الروايات. فأنت قبل كتابتك أو قراءتك لرواية غيرك بعد فعل هذا أو ذاك.. الرواية تُغيّر ولو بقدر ضئيل، تجعلنا نفهم أكثر ونتساءل أكثر أو ربما نغدو أكثر حيرة ووعياً بأننا في حقيقة الأمر لا نمتلك الحقيقة النهائية الصلبة، ولسنا نفهم عالمنا كلياً كما توهمنا طويلاً، لكننا نحاول. هل حقاً تأتي بشخصيات رواياتك من الواقع الفعلي والتاريخ.. محمود المرزوق في (مقتل بائع الكتب) نموذجاً؟.ـ محمود المرزوق شخصية متخيَّلة، غير أنها تشبه شخصيات رأيتها أو تعرفت عليها أو سمعت عنها. هو القاسم المشترك لمجموعة شخصيات انصهرت في صورته مثلما قدمتها في الرواية. الكتابة فضلاً عن كونها تجربة على الورق، هي تجربة في الحياة، لأنك حين تكتب تستحضر شيئا مما عشت وعاش غيرك، وشيئاً مما تتخيّل عن العيش.. إنها تجارب عديدة مضافة بعدِّها ممارسة في الحياة، وبعدِّها ممارسة حياة. فما تعيشه في الكتابة يعادل ما تخبره في الحياة. ولحسن الحظ يعتقد كثر من قراء رواياتي أنني أتحدث عن شخصيات حقيقية من لحم ودم لها سيرتها في الواقع وهذا يعني باعتقادي أنني نجحت إلى حد ما في خلق شخصيات تبقى عالقة في الذاكرة لمدة طويلة، مثل المرزوق في (مقتل بائع الكتب) وكمال في (غسق الكراكي) وحكمت في (فسحة للجنون). رواياتك هي سير أمكنة فضلاً عن كونها سير سردية لأشخاص.. كيف تتعامل مع عنصر المكان في أعمالك؟.ـ الكاتب ابن أمكنته التي مرّ بها، هناك تتشكّل ذاكرته ولغته ووعيه.. في معظم الروايات شظايا من طفولة كتّابها، ومراحل حياتهم المبكرة. وفي عملية الكتابة نجد أن العوالم التي مضت مثل الحلم تستعاد بقوة الكلمة وظلال معانيها وأفقها المتلوّن. فما يتبقى دوماً، من ذخيرة للمرء عبر تجاربه، أكثر من أي شيء آخر، هو صور المكان. وحين يغدو ذلك المرء روائياً لابد من أن يستثمر صور أمكنته الراحلة في ما يكتب. تكاد تكون هذه الفكرة قانوناً يفرض نفسه على معظم كتّاب الرواية. وفي رواياتي أستعير أجزاء من صور أمكنة واقعية وأعيد إنتاجها بحسب المتطلبات الفنية للعمل.. سيرة المكان في رواية ما لابد من أن تختلف عن سيرتها في كتب التاريخ والجغرافية. وكل مكان في رواية هو متخيل حتى وإن جرى تصويره بدقة. وخبرة الكاتب مع المكان هي التي تقرر زاوية النظر إليه والتفاصيل التي يقدِّمها عنه. هل تعد نفسك (صيّاد جوائز) بعد حصولك على جائزة الإبداع العراقية مرتين وجائزة كتارا، ووصولك إلى القائمة القصيرة للبوكر، فضلاً عن جوائز أخرى؟ـ لا أبحث عن الجوائز، إنها هي التي تأتيني في حقيقة الأمر من غير أن أفكر بها في أثناء الكتابة.. لا أكتب على وفق معايير أفترضها في بال المحكمين.. لست أراعي تقاليد موضة جذابة محدّدة يمكن أن تصبح سبباً لخطف جائزة.. أكتب لأنني أحب الكتابة، وأراها طريقة حياة ملائمة لي.. في مقابل أن هناك سبباً خاصاً الآن وهو أنني عشت في ظرف وزمن صعبين لم أجد وسيلة لمواجهتهما، بحسب استطاعتي والخيارات المتاحة لي، غير الكتابة.. أكتب لا ترفاً وإنما لإحساسي بأنني لا أقف على أرض صلبة في الواقع، لأني أفتقد الأمان، لأن هناك أشياء في العالم ليست على ما يرام.. الأخطاء، النقص، الاختلال، القلق، الأسى، الظلم، الاستعباد، الاستغلال، الحرمان، الكآبة، حتمية الموت كلها دوافع عميقة محرِّضة على الكتابة. لكنني لا أفرض على الشخصيات قناعاتي بشكل متعسف كي لا أقع في فخ الافتعال، ولا ألصق ما أظن أنه أشياء من ذاتي في طبائع شخصيات الرواية بشكل مصطنع. لكن جزءا مني لابد من أن يتسرب إلى روح كل شخصية أخلقها، هذا أمر لا يمكن تخطيه مهما ادعى الكاتب الاستقلالية التامة لشخصياته المتخيّلة. أنا صياد مشاهد ومواقف وصور من الحياة وأخرى من الخيال والأحلام، أداتي اللغة، وفضائي الوعي. ولا بأس في أن تكون الفريسة جيدة وتستحق جائزة. الجائزة في رأيي تزيد مسؤولية الكاتب وتدفعه إلى العمل الخلاّق، وتحفِّز على الاستمرار في طريق الإبداع العسير والشائك، فهنا يكون عليه أن يلتزم بمعايير عالية في الإنجاز، وأن يفكر بقرائه.. احترام القارئ قيمة أساسية لكل كاتب جاد.. بالمقابل لا يجب أن يُصاب الكاتب بالغرور معتقداً أنه بلغ القمة بحصوله على جائزة. فمثل هذا الشعور الزائف سيقوده حتماً إلى الهبوط والتراجع. لك انشغالاتك الفكرية أيضاً، وأصدرت عدداً من الكتب بهذا الخصوص، وكان كتابك الأخير (المثقف الذي يدس أنفه) عن تجربة المثقف التنويري ووظيفته؟ ما الذي يجعلك تهرب أحياناً من السرد إلى هكذا كتابات؟.ـ لست أهرب، أو لا أستطيع الهرب.. قدماي طوال الوقت عالقتان بشبكة السرد.. ودائماً تحت يدي قصة أو رواية لم تكتمل بعد.. وحتى في أثناء الكتابة الفكرية يبقى الروائي الذي في داخلي يقظاً.. وأعد نفسي روائياً يغامر أحياناً في منطقة النقد أو الفكر والفلسفة.. وكتاباتي هي نتاج تفاعل مع الواقع ومع قراءاتي.. لا أكتفي بقراءة كتب الأدب.. وأجدني مهتماً دائماً بقضايا عامة تتطلب التمحيص العلمي والتحليل والتقويم.. وخلال المحن التي عشناها في العقدين الأخيرين وجدتني بحاجة للإفصاح عن رؤيتي وموقفي، لذلك تحدثت كثيراً عن فكر التنوير الذي باعتقادي هو بأقانيمه الكبرى: العقلانية والحرية والتقدم أساس للخروج من مأزقنا الوجودي والواقعي، على أن نفهمه في إطار سياقنا التاريخي. ولا أرى في انشغالي هذا عائقاً أمام تجربتي الأدبية.. بالعكس، فالفكر والفلسفة مصادر إثراء لا غنى عنها لحقل السرد.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على